الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة/ الخامسة / السادسة / السابعة / الثامنة / التاسعة / العاشرة /

اخترق هدير الموج وهدير المشاعر، طرق على الباب.
نظرت الى الساعة على ضوءالذبالة التي تركتها مشتعلة، فإذا بها الواحدة، من هذا الذي يأتي ليطرق باب غرفتك في هذه الساعة. لعله واحد من اولئك المجانين المتطرفين، تسلل مع الظلام لاتمام مهمة لم يعرف كيف يكملها ليلة الامس. فكرت ان تتجاهل الطرقات، حتى يظن صاحبها انك لست موجودا، الا ان هذا لن يفيدك كثيرا، لانك انت ايضا تريد ان تعرف من يكون هذا الطارق، وماذا يريد؟
سألت بصوت يمازجه التتاؤب، كأنك صحوت للتو من النوم:
- من انت؟
- افتح ياعثمان، انا الكبران.
فتحت الباب، ورايت في الضوء المعتم، انه لم يكن وحده، وانما جاء يصحب نورية معه.
- منذ متى وانت هنا؟ فقد جاءت هذه المرأة منذ المغرب تسأل عنك، فقلت لها انك لم تعد، وسألتها ان تنتظر، ومنذ تلك اللحظة وهي تنتظر دون ان يعرف احد انك موجود بالغرفة. لم يكن ممكنا ان اتركها تعود بمفردها عبر الشوارع المظلمة في ساعة متأخرة من الليل، فاستبقيتها حتى انتهى العمل، ثم سألتها ان نتأكد انك لست في الغرفة. فكيف جئت ومتى؟ هل كنت ترتدي طاقية الاخفاء؟
- هيا تفضلا.
- تعلم ان الزيارات النسائية ممنوعة، ولكن الضرورات تبيح المحظورات، هيا تصبحان على خير.
مضى الكبران بعد اعطاك هذه الرخصة التي لم يعطها لاحد غيرك، وصار بامكان نورية التي انتظرت طويلا عند مدخل الفندق ان تعوض الانتظار بقضاء هذه الليلة معك. لم يكن ممكنا لاي زائر في مثل هذا الوقت ان يلقى قبولا وترحيبا الا هي. زدت قوة الانارة في مصباح الغاز وسألتها ان تدخل. كانت في يدها صرة عرفت انها تحتوي طعاما جاءت به اليك ساخنا، واصبح الان باردا. صحن من الكسكس المطبوخ بكل انواع الخضار، تعلوه قطعة كبيرة من اللحم. ستأكله حتى وهو بارد. ستأكله شاكرا، لانك تحتاج ايه، فانت لم تذق طعاما طوال اليوم عدا حبات قليلة من التمر.
لم يكن هناك غير السرير الفردي الصغير، لانك وانت تؤجر الغرفة لم تكن قد وضعت أي اعتبار لافراح الجسد. اريتها حجم السرير وقلت لها بان عليها اذا ارادت البقاء ان تتحمل نوما تختلط فيه الاذرع والسيقان. نزعت الرداء التي كانت ترتديه ثم الفستان، وبقيت في الغلالة الحريرية التي تحته، ثم دخلت تحت الشراشف، وعندما حان ميعاد النوم وحاولت ان تدس جسك بجوارجسمها تركت هي مكانها و قامت واقفة تاركة لك المكان.
- وانت اين تنامين؟
- س-أنام هنا.
وبخفة ورشاقة القت بجسمها فوق جسمك. استيقظت اثناء احتواءها لك كل اللكمات التي تلقيتها البارحة، وازداد الالم مع ازدياد اهتزازات السرير، وسرعة حركته ارتفاعا وهبوطا، الا ان الالم لم يكن الما خالصا، وانما يخالطه مقدار كبير من اللذة.
قمت منتعشا في الصباح. صحن الكسكسي، برغم برودته، كان حراقا بسبب ما وضع فيه من بهارات وفلفل، اعقبته صحون ساخنة من الحب في شكله الارضي الجسدي الذي لا تخالطه الهواجس والظنون. جددت ليلة الحب مع نورية، دورة الدماء في عروقك، وكانت بلسما لجراح الجسم والروح، فخرجت للشارع والتحمت بهديره الصاخب وانت مهيأ للدخول في دورة اخرى عامرة، شانها شأن كل دورة من دورات الحياة، بالعبث، والمفاجات هذه المرة، انك لاول مرة تحصل عل ترقية لم تسع اليها، ووظيفة، اكبر من كل توقعاتك، تاتي اليك من وراء الافق، دون أي دخل لجهدك وارادتك في تحقيقها. ذهبت فيما مضى بمحض ارادتك الى الجيش. حفرت الصخر باظافرك حتى حصلت على الترقية التي تحررت بها من ربقة القطيع، ونفذت بفضل ما بذلت من جهد من روتين العسكرية، الى وظيفة السائق المؤقت، ثم توج الله مساعيك، بقرار الاستثناء من الحرب الذي لم ينله احد من رفاقك، كما استطعت، بالمثابرة والتفاني في العمل، ان تفوز برضا السنيورة حورية التي قبلت بك سائقا رسميا لديها. كان هذاهو سقف احلامك وامانيك، اماالان وربات الحظ السعيد،تسوق اليك وظيفة كبيرة في مقر قصر الحكومة، فانك تبدو مرتبكا، خائفا، لانك لم تتوقع هذه الوظيفة ولم تكن ضمن ما تطلعت للوصول اليه في هذه المرحلة من عمرك، وتمشي الى قصر الحكومة، مترددا، دون حماس، وتبحث عن حوافز، تتجاوز شخصك والمنافع التي تعود عليك، قائلا لنفسك، ربما تستطيع، بواسطة هذه الوظيفة، خدمة البؤساء والمحتاجين من ابناء قومك، ربما، ولكنك طرحت منذ زمن مضى فكرة خدمة الاخرين، باعتبارها نوعا من خداع النفس في مثل هذا الزمان، وتحت مثل هذه الشروط التي غالبا ما يعجز فيها الانسان من اهل البلاد عن خدمة نفسه، فلماذا الاوهام والكذب على النفس وعلى الاخرين. هذا ما تقوله حقائق الحياة، وهي التي تقول ايضا ان ايتالو بالبو، في المحصلة النهائية، لم يأت الى هذه البلاد، موفدا من زعيمه الدوتشي، لخدمة الليبيين، او رفع البؤس عنهم. انه هنا ليخدم سياسة البلاده الهادفة لتوطين الايطاليين في هذه الارض وتحسين مستواهم المعيشي وتأمين مستقبل ابنائهم، لا ابناء احد غيرهم، ومهما ظهرت منه بعض الومضات هنا وهناك، فهي كالبرق الكاذب، لن يصنع غيثا بخصب الارض وينبت فيها العشب ويحيل لونها الاشعت الاغبر الى لون اخضر.
دون ان تنتبه الى المسافة التي قطعتها، وجدت نفسك امام قصر الحكومة، فاستدرت مذعورا، وعدت ادراجك مبتعدا عنه. رأيت وانت تصل امام القصر، اناسا كثيرين يدخلون ويخرجون، بعضهم عسكريين لهم رتب ونياشين، وبعضهم موظفون لهم هيبة ووقار، يرتدون الملابس الفاخرة، ويركبون السيارات التي يقودها سائقون يفتحون لهم الابواب، عند الباب الكبير الذي تفصل بينه وبين الشارع اربع اوخمس درجات من الرخام، يتوسطها بساط التشريفات الاحمر، قبل ان تمضي هذه السيارات الى المرآب خلف القصر. وعلى الباب يقف حارسان يرتديان ملابس التشريفات العسكرية المزينة باشرطة فضية وذهبية كأنها مصنوعة من ريش الطواويس. ولم تكن محتاجا، لتزداد رعبا، الا ان ترى السيارة الفخمة التي يشع حديدها كانه مصنوع من ذهب اسود، والسيدة التي نزلت تجر اثوارها فوق البساط الاحمر، وقد حف بها الحراس، وانحنى بين يديها احد الضباط ومضى يوقودها الى داخل القصر، وتشعر ان وجودك غريب في هذا المكان الذي ينتمي لعالم ليس لك او لامثالك من بسطاء الناس. فعدت الى شوارع المدينة تكمل تسعك بها، ورغم انك ترتدي البذلة الجديدة التي اتسخت بسبب العراك الذي نشب بينك وبين الشحاذ، الا ان هناك بقعة سوداء لم تستطع مطهرات المغسلة ازالتها، هي التي جعلتك تخجل من دخولك قصر الولاية بها، وتذكرت الظرف الكبير المليء بالنقود في جيبك، فدخلت متجرا في في شارع الملك ايمانويل الثاني، واشتريت بذلة سوداء وما يناسب لونها من قميص وربطة عنق وحذاء وجوارب، لكي تمنحك قوة اكبر على اقتحام قصر الحكومة وتزيل الرعب الذي يعتريك عندما تصل اليه. جلست قي مقهى الميرامار، تحتسي القهوة، وتتأمل وجوه السواح الذين اجتذبتهم دعاية بالبو لطرابلس، وستنشق العطور التي تفوح من اردان النساء الايطاليات اللاتي يستعرضن جمالهن في الميدان، ويسرن جئة وذهابا امام زبائن المقهى.
- هيا قل لي بسرعة كيف وجدت العمل الجديد؟
هكذا خاطبتك السنيورة حورية عندما ذهبت مساء لزيارتها.
- لم اذهب اليه بعد.
- لماذا؟
- مازلت اراه عملا أكبر مني.
- لا تقل هذا الكلام امامي. لانني اعرف جيدا انك اكبر من هذا العمل. اريدك ان تستقر في مركزك الجديد، لان هناك مهام اخرى تنتظرنا، وحياة مشتركة لابد ان نبدأ الترتيبات الضرورية لاتمامها.
سألتك حورية دون مناسبة ان كنت تحتاج لمزيد من النقود، فقلت بسرعة ان لديك اكثر مما تحتاج اليه، ثم تذكرت الوعد الذي قطعته على نفسك بان تشتري لها هدية من النقود الكثيرة التي ابقتها معك بعد الزيارة، فلعلها تشير بطريقة غير مباشرة الى اهمالك لتلك الهدية، فلماذا خذلتك ذاكرتك، وجعلتك تنسى، وانت تدخل السوق لشراء البذلة، ان تنسى شراء خاتم او اسورة لها. واصلت هي حديثها:
- اذن فلا تأتي غدا، لتقول انك تأخرت في الذهاب الى العمل. اريدك ان تكون هناك في الساعات الاولى للدوام. هذا بالنسبة لليوم الاول الذي تستلم فيه مكتبك، بعد ذلك فانت حر في دوامك وحضورك، لانك انت رئيس المكتب، واليك يرجع تقدير ما تحتاجه من وقت لعمل المكتب، وما تحتاجه من وقت للعمل الميداني خارجه. سيتم الاعلان عن هذا المكتب في الصحف العربية والايطالية والحصة الاخبارية باذاعة الراي المحلية، وستصل الشكاوى اليك فتنظر فيها، وتستقبل اصحابها اذا لزم الامر، ثم تبعث بتقرير عن كل حالة الى مكتب الحاكم العام، مشفوعا بالرأي الذي تراه. وهنا ينتهي دورك، ليبدأ دور الجهاز الامني والاداري في مكتب الحاكم العام، الذي سيتأكد من صدق ما يقوله صاحب الشكوى، والاتصال بالاطراف الاخرى اذا وجدت، ذات العلاقة بالشكوى سلبا او ايجابا، لمعرفة وجهة نظرها، وبناء على نتائج هذه التحقيقات يتم تصحيح الاوضاع واعطاء الحق لاصحابه. ويبقى القرار الاول في هذه الشكاوى لك انت،لانك سترفع ما يستحق الرفع الى المستوى الاعلى، وتهمل الشكوى التي تراها لا تستحق ذلك او تعيدها الى صاحبها الذي لا يملك حقا في تقديمها منذ البداية.
- يبدو الموضوع اكبر كثيرا مما كنت اتصور.
- لن تقول هذا الكلام بعد ان تتمرس اسبوعا او اسبوعين في العمل.
- تعلمين قدراتي المحدودة في القراءة والكتابة باللغة الايطالية.
- انه مكتب لشكاوى الليبيين، ولا يحتاج لغير اللغة العربية التي ستقرأ بها العرائض وتناقش بها اصحابها، اما عن الايطالية، فللحاكم العام جهاز للترجمة يتولى مثل هذا العمل. اتريد معلومات اخرى.
- سأعتمد عليك في ارشادي وتوجيهي.
كان ما قالته حورية صحيحا عن اشهار المكتب، لانك لم تخرج من بيتها الا بعد ان سمعت الخبر يذيعه المذيع في الحصة العربية بالاذاعة، مشيدا بالحكومة التي تعمل على رعاية مواطنيها الليبيين، ومن اجل تحسين اوضاعهم قررت انشاء مكتب يختص بالنظر في مطالبهم والتماساتهم ويحقق في عرائضهم وشكاواهم ويقوم بحل مشاكلهم، ويهيب المذيع بالمواطنين ان يبادروا بالاستفادة من هذا المكتب، وتوجيه خطاباتهم الى مكتب شكاوى المواطنين الليبيين، بقصر الحكومة، بطرابلس.
اذن فالحكومة تعطي اهمية بالغة لهذا المكتب وتعتبر تاسيسه انجازا لحكومة الاحتلال، وتعهد به لك انت دون كل الناس، فمن انت حتى تتمنع وتتردد في الترحيب بهذا الشرف الذي يسبغه عليك سيد البلاد؟ ستذهب لتباشر هذه المسئولية، وبروح مقبلة على العمل بحماس وحب، ورغبة حقيقية في انجاح برنامج الحكومة، وكسب ثقة الناس في مكتب الشكاوى، الذي سيكون بداية عهد جديد من الوداد والصفاء بين الحكومة والاهالى.
ذهبت الى رئبس القلم الاداري،في الطابق الاول لقصر الحكومة، تحمل مظروفا مليئا بشكاوى المواطنين، وتقدم له نفسك كما امرتك السنيورة حورية ان تفعل. عرفت منه انه عاش في طرابلس لمدة تزيد عن عشرين عاما، فقد جاء عسكريا مع الجنرال كانيفا في بداية العهد الايطالي، ونتيجة لاصابته في قدمه، ترك الجيش وتحول للعمل الاداري، وظل في هذا العمل منذ ذلك الوقت، حتى صار خبيرا في شئون البلاد، ومرجعا في التاريخ الاداري لها. تحرك داخل مكتبه فاذا بآثار الاصابة تظهر واضحة في مشيته، اذ انه لا يمشي كما يمشي أي انسان اعرج، اختل توازنه قليلا، فالتوازن في حالة السنيور كالفي، لا وجود له اصلا، لانه مع اول خطوة مال بجسمه حتى كاد يلامس بجنبه الارض، ثم عاد فاستوى، ومال بنفس المستوى في الخطوة التالية وهكذا. توجست شرا برغم كلماته المعسولة، وتوقعت ان يكون لهذه الاصابة التي لحقت به منذ عشرين عاما، نتيجة رصاصة اطلقها عليه مجاهد ليبي، اثرا في معاملته لك، الا انك لم تجد منه خلال الساعة التي قضيتها معه الا كل احترام، مبديا استعداده لتقديم اية مساعدة تحتاجها، وامدك قبل ان تخرج من مكتبه، بقرار انشاء المكتب الذي احتوى على الاهداف المتوخاة من وراء انشائه، وقواعد العمل التي يجب اتباعها فيه، والمسئوليات المنوطة به، والاختصاصات التي يمارسها المسئول عنه، واعطاك نسخة من قرار انتدابك من الخدمة العسكرية لتتولى الاشراف على المكتب، وشرح لك كيف ان شكاوى المواطنين سوف تأتي الى مكتبه، كما هو الحال مع كل مراسلات القصر، ليتم تسجيلها واحالتها اليك، وبعد النظر فيها وكتابة تقاريرك عنها، تعود اليه ليتولى رفعها الى مكتب الحاكم العام، وستباشر عملك تحت اشرافه المباشر، ثم مد السيد كالفي يده للزر الموصول بجرس خارج المكتب، فجاء جندي المراسلة، يقودك الى مكتبك الجديد. اكتشفت ان هناك سلالم اخرى غير السلالم الرخامية الفخمة، المفروشة بالابسطة التي صعدت معها بعد اجتيازك البوابة الرئيسية، وجلوسك تحت صورة الدوتشي تنتظر الاذن بالدخول، كما ان هناك مدخلا خلفيا للقصر، يستخدمه الموظفون والعمال وبعض المارجعين، هو الذي ستستخدمه انت ايضا منذ الان. قادك الجندي الى الطابق الارضي حيث يقع مكتبك في الجزء الخلفي من القصر، وحيث المكاتب مثل صناديق خشبية، لان الطابق كله كان صالة واحدة، ثم تقسيمها الى مكاتب وفصلها عن بعضها البعض بحواجز من الخشب. لم يكن مكتبك سوى غرفة صغيرة تتسع لطاولة واحدة امامها كرسيان، وفوقها جهاز هاتف اسود اللون، وخلفها نافذة تطل على الفناء الخارجي، وتحتل حيطان الغرفة بعض الارفف المخصصة لوضع الملفات، وصورتان واحدة للدوتشي والاخرى للمارشال بالبو، وسلة مهملات تحت الطاولة، لم تنتبه الى وجودها الا بعد ان اشاراليها جندي المراسلة الذي جاء يحمل ورقة سجل بها محتويات الغرفة، وطلب منك التوقيع عليها كوصل بالاستلام، وافهمك ان الهاتف موصول بالبدالة التي يتم عن طريقها ارسال واستقبال المكالمات، كما اراك الزر الذي تدوس عليه لمناداة جندي المراسلة، كنت تريد ان تسأله اسألة كثيرة عن هذه البيئة الجديدة التي تطأها بقدميك لاول مرة، وعن زملائك في المكاتب المجاورة، وعما اذا كان بين موظفي هذا المبنى عنصر ليبي يمكن الحديث معه، عن موقع الكافيتيريا التي تحضر للموظفين طلباتهم من المشروبات الساخنة والباردة، ويذهبون احيانا للجلوس فيها اثناء وقت الاستراحة، وعن كيفية استقبال الضيوف، وعما اذا كانت هناك صالونات لاستقبالهم، الا انك رأيته مستعجلا، يريد ان يخلص من مهمته باقصى سرعة ممكنة، فاخذت منه مفتاح المكتب وتركته يذهب، مذكرا نفسك ان هذا ليس الا يومك الاول، وامامك ايام كثيرة قادمة تعرف فيها كل ما تريد ان تعرفه عن هذا العمل وهذا المقر، فلا ضرورة للاستعجال. جلست على الكرسي. وجدته يدور فدرت به عدة دورات حتى كاد رأسك يدوخ. كرسي مريح من الجلد الاسود، يتحرك فوق محور يجعله يدور شمالا ويمينا. لاول مرة تجلس على كرسي من هذا النوع ومكتب من هذا النوع، وتحت امرتك عسكري ايطالي. مددت يدك الى الزر. دست عليه. سمعت رنينه في الرواق الخارجي. جاء الجندي يحييك قائلا quot; برونتوquot;، ماذا ستقول له. لقد ضربت الجرس لمجرد الرغبة في ان تمارس سلطتك على هذا الايطالي. ماذا ستقول له؟ تذكرت انك تريد فنجانا من القهوة تبدأ به حياتك الوظيفية الجديدة. ذهب لابلاغ الطلب للقهوجي. فتحت ادراج المكتب الفارغة واحدا بعد الاخر. ثم اتجهت الى الارفف المثبتة على الحائط وكان لبعضها ادراج صغيرة مقفلة، فتحتها لتجد قصاصات لمقالات واخبار تتحدث عن المدارس، واعلان عن ادوات مدرسية، فادركت ان هناك من استعمل المكتب قبلك، لامر له علاقة بالتعليم. رفعت سماعة الهاتف. سمعت صوتا يقول quot; برونتو سنيور quot;، فاعدت عليه العبارة التي قالها quot; برونتو سنيورquot; واقفلت السماعة. كلهم في حالة استعداد للانطلاق ولكن الى اين؟. انك لا تعرف احدا تتصل به هاتفيا. حورية هي الانسانة الوحيدة التي تملك هاتفا من كل معارفك. ومع ذلك فانت لا تعرف رقم هاتفها. جاء صبي ايطالي يحمل القهوة. وضعها ومضى. عاد جندي المراسلة يحمل صندوقا من ورق مقوى، به ملفات واقلام وملفات وكراسات واستمارات قال انها قرطاسية المكتب، مع ملف كبير يحتوي على الشكاوى والعرائض التي تركتها لتسجيلها، جاء بها من مكتب السنيور كالفي. امضيت له وصلا بما احضره ومضى. ثم دق جرس الهاتف، رنينا قويا، ملحاحا، كما تفعل اجراس الانذار. خمنت انه رئيس القلم يطمئن على وصول القرطاسية، لانك لا تعرف احدا غيره يعرف وجودك في هذا المكان. الا ان الصوت الذي جاء ساريا عبر الاسلاك عندما رفعت السماعة، لم يكن صوت رجل. كان صوتا نسائيا جميلا، تعرفه تمام المعرفة، وتطرب له كما تطرب لكروان يغرد، او نايا يعزف انغامه في البراري، انه صوت جميلة جميلات الكون السنيورة حورية، ارادت بشفافية الانثى الرائعة، والكائن البديع الذي ينتمي لرقة وعذوبة الكائنات السماوية، ان تكون اول من يهاتفك، ويهنئك، باستلام العمل الجديد. سألتك كيف وجدت المكتب واجواء العمل بالقصر، فابلغتها عن الاسلوب المهذب الذي استقبلك به رئيس القلم الاداري، والذي ازال ما كنت تشعر به من قلق وتوتر. اما المكتب فان اجمل ما فيه هو هذا الهاتف، الذي يحمل اليك صوتها، ليكون تميمة خير تتفاءل بها في اول ساعات انتسابك لعالم الموظفين. وقلت لها ان اشياء كثيرة تتصل بالعمل تحتاج الى تنظيم، ولم تكن تستطيع ان تعرفها، او تخطر على بالك، قبل ان تباشر عملك، فاقترحت عليك ان تذهب اليها في البيت، فور انتهاء الدوام، لمناقشة خطة العمل والاحتفال باليوم الاول الذي تباشر فيه لوظيفة. تذكرت بعد انتهاء المكالمة، ان نورية، لا زالت مقيمة معك، وانها من منذ يومين محبوسة في الغرفة لا تفعل شيئا الا انتظارك واعداد الطعام لك. وهي لا شك تنتظرك الان على الغذاء، فكيف ستعتذر لها. بعد ليلتها الاولى معك الححت عليها انت تعود الى بيتها، الا انها اصرت على البقاء معك لمدة يومين او ثلاثة ايام تمسح بها ايام الوحشة التي احست بها اثناء غيابك عنها، ولعلها حركة التفاف تقوم بها لتنفيذ رغبتها القديمة في الارتباط الدائم بك، مستخدمة خطة المراحل، بامل ان تتعود على وجودها معك، حتى لا تعود قادرا على الاستغناء عنها، لانك فعلا بدأت تحس بالفرق بين بقاءك وحيدا وبين وجود امرأة مثلها بانتظارك دائما، تعد لك طعامك، وتهي ء لك سريرك،وتندس فيه معك، لتلبية حاجات الغريزة. كان ملف الشكاوى مازال مقفلا امامك. اخذته بين يديك وفتحته تبحث عن طلب نورية. ستكون نورية هي اول حالة تقدمها للسيد الحاكم العام. ستؤيد طلبها وطلب شريفة سيدة بيتها وصاحباتها في الانتقال الى واحد من البيوت الحديث اسوة ببقية نساء سيدي عمران. ستجعل حاكم ليبيا، ورائد عصر الطيران، والبطل الذي عبر الاطلسي وفاز بقصب السبق على بقية الابطال، يترك مشاغله الاخري وينشغل بنورية، ويسعى لحل مشاكلها، ويبحث عن بيت جديد لها. وجدت بين الاوراق التي زودك بها القلم الاداري، نموذجا، ترفقه مع كل عريضة من هذه العرائض، يختصر لك الطريق، لانه يضع لك خانات فارغة يسألك ان تملأها عن صاحب الطلب وعنوانه وملخص لمشكلته والاطراف الاخرى ذات العلاقة بالمشكلة، ثم التوصية التي يراها المكتب. وكتبت في التوصية بان الطلب مقدم من عدد من الفنانات اللاتي يقمن بالغناء في الاعراس، واحياء تراث المدينة، وانك سبق ان عاينت البيت ووجدته متهالكا لا يصلح للسكن، ويحتاج لتخصيص ميزانية لصيانته وترميمه والاستفادة منه بعد ذلك كمستوصف او مركز شرطة، لاتساعه وكثرة غرفه، ونقل هؤلاء الفنانات الى بيت من البيوت الحديثة التي نقلت اليها نساء سيدي عمران.
رأيت ان تكتفي بما انجزته هذا الصباح وهو استلام المكتب والتعرف على اجواء العمل وظروفه والنظر في اول التماسات المواطنين الخاص بالسيدة نورية، وان تذهب عائدا الى الفندق لتقنع المرأة التي تنتظر في غرفتك بالعودة الى بيتها قبل موعدك مع حورية.
لم تكن ترى في نورية غير اداة لاشباع الغريزة، هذه الغريزة التي ساقتك اليها في بدء تعارفكما وظلت محور العلاقة بينكما، الا ان خلال هاتين الليلتين الاخيرتين، صرت قادرا على التواصل معها وجدانيا، والاستماع بشغف لما تقوله لك من حكايات وما استمدته من خبرات من واقع الحياة تمنح روايتها للاحداث حرارة ومصداقية، مثل الشيخ الذي كان يقدم الشكاوي ويرفع القضايا ويطالب شريفة ونسائها بمغادرة البيت لانه يدعي ان لاحد اسلافة حصة في هذا البيت الذي اساءت اليه هؤلاء النسوة، ويطالب باسترداده، فتآمرن ضده، وصرن يتعرضن له في طريقه ليلا الى الجامع حتى استطعن استدراجه الى البيت والدخول لغرفة احداهن، التي استطاعت تجريده من ملابسه كاملة، وابقائه عاريا ثم دفعت به خارج الغرفة لتاتي بقية النساء ويشتركن في دفعه عاريا الى الشارع. كان الوقت ليلا والشارع خاليا، فصار يتوسل ان يدخلنه ويسترنه من العار والفضيحة ولم يفعلن ذلك حتى اخذن منه تعهدا بالا يضايقهن او يطالب باخلاء البيت مرة اخرى.
لم تكن المهمة التي نويت القيام بها مع نورية، مهمة سهلة كما تصورت، فقد وجدتها، انتهت من ترتيب الغرفة وتنظيفها، وبدأت في اشعال الموقد وتقشير البصل وتقطيع حبات الطماطم وتحضير البيض من اجل اعداد وجبة شكشوكة. وما ان سألتها في ان تريح نفسها من اعداد الغذاء، لانك عائد الى المكتب لتتناول طعام الغذاء هناك، وان عليها ان تعود الى بيتها الذي غابت عنه ليلتين. ارتسمت علامات الكدر فوق وجهها، وانهمرت العبرات غزيرة تغسل وجهها، دون ان تتكلم. وعدتها بانك لن تتأخر عن زيارتها، لان وجودها لاكثر من هاتين الليلتين، سيسبب لك احراجا مع صاحب الفندق الذي لايمنح هذا الترخيص الا في حالات خاصة جدا ولمدة محدودة.
جففت نورية دموعها، وارتدت فراشيتها، واحكمت لفها حول جسمها حتى لم يعد ظاهرا من جسمها الا احدى عينيها لترى طريقها عن طريق هذا البامبوك كما يسميه اهل المدينة، وخرجت، في حين انطلقت انت، بعد لحظات من خروجها، متجها الى بيت السنيورة حورية،
شاعرا في ذات الوقت بهذا التفاوت بين الحالتين، ففي حالة نورية، كنت الطرف الاقوى، الذي يملك الكلمة العليا في اية مواجهة، في حين ستكون دائما الطرف الاضعف وانت تلتقي بحورية، ليس فقط لانها تنتمي الى دائرة اهل السلطة والثروة، وانها صاحبة افضال عليك منذ ان انتشلتك من معسكر التجنيد، الى هذا اليوم الذي اوصلتك لان تكون موظفا في قصر الحكومة. ولكن ايضا لانك تملك نحوها عاطفة لا تملكها نحو نورية، تجعلك مستلما، وخانعا دليلا اذا احتاج الامرالى ذلك، بالاضافة طبعا الى قوة شخصيتها وطغيان جمالها، وادوات الحضارة التي تستخدمها في معيشتها، والتي تعطيها قوة وتفوقا، بدءا من المستوى الراقي لمسكنها وملبسها ومواصالاتها الى ما تقرأه من مطبوعات وما تستمع اليه في المذياع والحاكي وما ترتاده من حفلات واندية ومسارح ومن تخالطه من اوساط راقية في تعليمها وثقافتها وما تتعامل به من مفردات حضارية في حياتها البيتية. انها في الموقع الاقوى والاعلى، دون ان يعني ذلك ان هذا الاحساس يقلقك، او يجعلك تشعر بالدونية حيالها، بل العكس هو الصحيح، أي انك تشعر بالسعادة في وجودها، لان حبك لها يجعلك سعيدا لسعادتها. وجدت غرفة الطعام جاهزة لاستقبالكما، وقد اعدت المائدة لشخصين فقط، انت وهي. احضرت حواء الاناء الخزفي الذي يضم شوربة العدس التي تحبها، فاخذت حورية الطبق الذي امامك، وتولت بنفسها وضع الشوربة فيه، وهي تواصل الحديث والترحيب بوجودك في بيتها:
- غذاء بسيط. سألت حواء عن الاكلات التي تحبها، فنصحت بشوربة العدس والمكرونة المعمولة بفواكه البحر، وقد دخلت معها المطبخ اشارك في اعداد السلطة ولاطباق الجانبية مثل الظولمة والمبطن والبوريك. لابد ان اعرف كل شيء عن الطعام الذي تحبه، لاعده لك مستقبلا. لم تقل لي كيف تجد الاكل في مطعم الفندق.
وضاحكا اخبرتها بان الفندق الذي تقيم فيه، شيء يختلف عن الفنادق الكبيرةالتي تعرفها مثل الجراند هوتيل ن والودان، والمهاري. انه خان شعبي من الخانات التي يقصدها ابناء الريف بحميرهم.
- لا يجب ان تستمر على هذا الحال. لابد من ترتيب كل شيء ترتيبا محكما، ولذلك فانه حان الوقت لان نتحدث في التفاصيل.
الاكل على مثل هذه الموائد شيء جديد على حياتك، بل ان غرفة الطعام هذه لم تدخلها الا هذه المرة، لانك كنت تتناول الطعام الذي تقدمه لك حواء عادة، فوق طاولة داخل المطبخ، ولذلك فان الحديث في مسائل على درجة من الخطورة كهذا الحديث، سينقص قليلا من درجة الاستمتاع بهذه الاطباق الفاخرة.
وضعت امامك حواء، طبق المكرونة المخلوطة بفواكه البحر، وواصلت حورية الحديث:
- يجب ان يكون لك رأي في كل جزئية صغيرة، وان اعرف بوضوح ما الذي تريده ولا تريده، في هذه المرحلة بالذات، لكي نضع اساسا متينا لحياتنا القادمة، ونصل لفهم مشترك حول كل المواضيع، فذلك مهم جدا لبناء البيت السعيد،اليس كذلك؟
ليتها تواصل الكلام دون طرح اسئلة تتطلب جوابا منك، لكي تستطيع الانتهاء من التهام هذا الطبق اولا. لاحظت حورية انك تزدرد الطعام بعجلة، فعلقت قائلة:
- سوف انقل لك بعض الاشياء الصغيرة المفيدة التي تعلمتها من زميلاتي الايطاليات في المستشفى، عندما كنت اعمل هناك، لاننا نحن العرب نسهو عنها. مثل الاكل الذي نعتبره مجرد وسيلة للعيش، بينما يعتبرونه هم متعة ولذة، قبل ان يكون واجبا. حتى من الناحية الطبية فان الطريقة العربية في ازدراد الاكل، هي سبب كل المشاكل التي تحدث للمعدة، ومن شاء الا يستمتع بالاكل فاليمضغه جيدا على الاقل.
ثم اضافت بعد ان التقطت قطعة ظولما اجادت مضغها وازدرادها:
- نحن ننسى ان للأكل تقاليده التي لابد ان نراعيها.
ليتها تواصل الحديث عن تقاليد الاكل وتترك الاحاديث الاخرى التي تحدث تلبكا في المعدة، واذا احتاج الامر الى رد هنا فلن يعوزك الرد، لان حياتها في كنف عائلة كانيفا انستها حياة الاحياءة الليبية الفقيرة، فكيف يكون للناس تقاليد للاكل اذا كانوا يجدون صعوبة في معرفة شكل الاكل نفسه، وحالهم حال الذي جاء يسأل صاحب الدكانة الوحيدة في قرية يحاصرها الجيش الايطالي، ان كان يبيع قمصانا للنوم، فقال له صاحب الدكانة وهل عرفنا النوم، حتى نصنع للنوم قمصانا.
لكنك لم تشأ ايقاظ المواجع او تذكيرها بماض لابد انها تريد ان تنساه فقلت جملة مستوحاة من التراث العربي في تعامله مع الطعام:
- ومع ذلك فان العرب يقولون بان المعدة بيت الداء.
- العرب دائما يقولون ما لايفعلون، فماذا تقول انت؟
- اقول في ماذا، سنيورة حورية؟
- في كل ما يتصل بحياتنا المشتركة سنيور عثمان.
كنتما قد انتهيتما من تناول الغذاء، وجاءت حواء باكواب الشاي الاخضر المخلوط بالنعناع، فواصلتما الجلوس على المائدة تشربان الشاي، وقد احسست بانك اكثر استعدادا للدخول في النقاش الذي تحاشيته زمنا طويلا. لاشك ان للشحنات الجنسية التي افرغتها خلال ليلتين قضيتهما في سرير فردي مع نورية، علاقة بهذه اللياقة الذهنية التي تحس بها وانت تتعامل مع قضية شائكة مثل قضية العلاقة مع حورية ومناطق الالتقاء والخلاف في تصورات كل منكما حول هذه العلاقة. قلت تمدح الاطباق التي شاركت في اعدادها:
- سلمت اليد التي اعدت هذه الوجبات اللذيذة.
ثم اضفت ضاحكا وانت تلتقط حبتي عنب من طبق الفاكهة وتضعهما في فمك:
- والان، ولكي استطيع ان اجيب بعقل مستريح، هل تسمحين باعادة القاء السؤال؟
- اسئلة كثيرة يجب ان نقوم نحن الاثنان بالاجابة عليها.
- ان سؤالا واحدا يمكن ان يذكرني بالامتحانات التي جعلتني اهرب من الفصل، فما بالك بالاسئلة الكثيرة.
- انها اسئلة بعدد ادوات واسماء الاستفهام في اللغة، متى واين وكيف وهل وماذا ومن، فان شئٍت الهروب منذ الان فها انا قد حذرتك.
- دون ان ننسى لماذا، فبها تبدأ كل الاسئلة.
لاول مرة تتجهم ملامح وجهها:
- ما الذي تعنيه؟
- اعني تذكيرك بكلمة سقطت من القائمة هي لماذا؟
- وهل نحتاج، في رأيك، ان نسأل انفسنا أي سؤال يبدا بهذه اللماذا التي تذكرها؟
- لا ادري. وعندما قلت لماذا، قلتها عفو الخاطر، ولعلها تحمل من حيث لا ادري شيئا من الحيرة حول موضوع حديثنا. هناك حياة مستقر، هانئة، بينك وبين رجل من عظماء التاريخ، تحبينه ويحبك، فلماذا تضحين بهذه الحياة؟ وتفكين هذا الارتباط الجميل؟ ثم لماذا في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا،ثالثا، وقع اختيارك على رجل من بسطاء الناس، مثلي ليكون هذا الشريك الجديد؟ تعلمين طبعا انني احمل لك حبا اعجزعن وصفه، واعرف بالتأكيد نبل عواطفك نحوي، ولكن هل يمكن لهذه العواطف وحدها ان تكون حافزا لاحداث هذا التغيير المصيري في حياتك، وهل تعتقدين انك تتخذين القرار الصحيح الذي يضمن لك السعادة؟
- لم اكن اعرف انك فصيح الى هذا الحد، وان لديك بدل لماذا واحدة كل هذا العدد منها.
ثم مضت تقول بان الصراحة مطلوبة جدا، في هذه المرحلة وان ارتباطها بالمارشال بالبو، رغم قوة العاطفة التي جمعت بينهما، كان منذ البداية ارتباطا مؤقتا، ومحكوما بظروف لا سبيل لتغييرها، ومهما كبرت هذه العلاقة، فهي لا تستطيع ان تعوقها عن حقها في الامومة والانجاب والاستمتاع بابناء يكبرون معها ويصبحون سلوى وعزاء لها عندما يتقدم بها العمر، خاصة وانها امرأة بلا اهل، والمارشال بالبو، كما يقول هو عن نفسه، سيقضي مدة خدمته ويعود الى وطنه واهل بيته، فلا غرابة في ان تفكر في المستقبل وان تعمل الف حساب للغد. اما التوقيت، فلعله كان سيتأخر قليلا لولا ظهورك انت، لان ظهور رجل ملك عليها مشاعرها، واختبرت صدق عواطفها نحوه وعواطفه نحوها، ورأت فيه زوج المستقبل الذي يسعدها، هو الذي املى عليها التوقيت، واذا كان لديك أي شك في سبب اختيارها لك، فعليك ان تبحث عن الحقيقة في نفسك. وكنت صادقا وانت تقول لها:
- عندما ابحث في نفسي، في عقلي وقلبي، فلا اجد حيالك الا فيضا غامرا من الحب والامتنان.
واخذت يدها وطبعت قبلة فوق اصابعها، سرت نشوتها مع دورة الدم في عروقك، وكأنها قبلة فوق فمها الشهي الجميل.
- اذن فمن اين تأتي الحيرة التي تحكي عنها؟
- الحيرة تأتي من مصدر واحد، هو موقف السيد المارشال من الموضوع كله.
- لا تحمل هم المارشال، فهو متفهم جدا جدا، ولانه يعتبر نفسه مسئولا عني، فقد اقتنع تماما بانك الشخص المناسب لي.
لعلها لم تفهم ما كنت تقصده بالضبط، فكون الموضوع تم باتفاق بينها وبين المارشال شيء لا يحتاج الى تأكيد، ولابد اذن، من توضيح السؤال:
- اعني هل ستستمر علاقتك به بعد الزواج؟
- ليست علاقتي، وانما علاقتنا سويا، انت وانا، ستستمر طبعا، وستكون علاقة صداقة بالطبع.
لم تسألها كيف تستطيع ان تضمن ان الصداقة مع المارشال بالبو يمكن ان تبقى في حدود الصداقة، وماذا ستفعل لو ان الشوق القديم الح عليه وارغمه ان يتجاوز حد الصداقة مسافة خطوة او خطوتين، وبدلا من ذلك قلت لها:
- وهل تعتقدين انه سيواصل الانفاق على هذا البيت مدى الحياة، ودون أي مقابل، وسيدفع من خزينته او خزينة دولته، ايجار هذه الشقة، ومرتب حواء ومرجان والفزاني ومختار العساس، ومصاريف السيارة ام سيسحب يده من كل ذلك
- ولماذا يسحبها؟ انه الحاكم العام للبلاد، وبهذه الصفة يرعى الاف البيوت، ويصرف على الاف الناس، فما الغرابة في ذلك؟
بدت متوترة قليلا، فلاشك انها رأتها اسئلة زائدة عن الحاجة، ولا ترى داعيا لطرحها، لان هذه المسائل تتم في جو من التواطىء الجميل الذي يكتفي بالتلميح دون التصريح، ولذل فضلت ان تصمت لكي لا تزيدها توترا، في حين استأنفت هي الحديث:
- هل انتهت الان حيرة الحيران، بحيث نستطيع ان نعود الى الاسئلة البسيطة، واولها طبعا متى؟
انتظرت ان تسمع منك ردا، وعندما لم تتكلم، واصلت هي الحديث:
- بعد ايام سيسافر المارشال الى روما. سيغيب لمدة اسبوعين اوثلاثة اسابيع يحضر خلالها عرس اخته كلارا في فيرارا، وسيكون هذا هو الوقت المناسب لزواجنا، لانه يجب ان يعود ليجدني قد اصبحت زوجة رجل آخر هو انت، والسؤال الثاني الذي يلي هذا السؤال هو كيف؟
- وهل تعرفين بمن ستتزوج كلارا؟
- ليكن اسم زوجها انطونيو او جوسيبي او كريستو، او دياولو، ما اهمية ذلك بالنسبة لموضوعنا؟
- مجرد محاولة للاقتراب من عالم صديقنا المشترك السيد بالبو.
- ارجوك ان توجل حديث الهزل الى وقت آخر. هل لديك رأي حول كيف نقيم حفل الزواج واين نقيمه؟
- قبل ان ننتقل لكيف واين دعينا نبقى قليلا مع متى، فهذا التوقيت الذي تتحدثين عنه توقيت قريب، لا ادري ان كان يناسبني.
انزلت ساقها المتأرجحة من فوق الساق الاخرى واستوت في جلستها وهي تتطلع نحوك باستغراب ودهشة كأنها لا تصدق ما تسمعه:
- ماذا تقول؟
- اقول بانني احتاج لان استعد لدخول مثل هذه المرحلة.
- عن أي استعداد تتكلم؟ ان كنت تتكلم عن النفقات، فهي تكاد تكون معدومة، وان وجدت، فاعتبر ان مالي هو مالك، ما الفرق؟
كان فكرك وانت تبحث عن عذر لتأجيل الموضوع يتجول في اركان الارض الاربعه باحثا لك عن سبب يحتمل التصديق وجاء بسبب وجيه لا تستطيع امرأة مثلها ان تناقشك فيه، وهو انه اثناء معركتك مع الشحاذ الذي اعترض طريقك، اصابك بركلة قوية بين ساقيك، احدثث عطبا في احدى خصيتيك، وصار متعذرا عليك ممارسة اية واجبات زوجية قبل الانتهاء من العلاج الذي يحتاج لعدة اشهر، ولكنك احسست بشيء من الخجل في شرح مثل هذا العذر، فقلت لها باختصار:
- ربما الاستعداد النفسي يتطلب بعض الوقت.
- وماهي المدة التي تحتاجها لكي تطيب نفسا.
- لا اطلب سوى مهلة للتفكير.
نهضت حورية واقفة، واتجهت عبر صالة الطعام الى الصالون، وعبر الصالون الى باب الشقة، وانت تمشي وراءها.
- خذ ما شئت من الوقت. لا تعد الى هنا قبل ان تصل الى قرار.
ادركت الان فقط، ان ما قلته لها كان قاسيا، وكان وقع الصدمة واضحا على ملامح وجهها. اردت ان تتراجع، وان تسحب الجملة التي قلتها، وان تسمعها كلاما آخر يزيل هذه الغمامة التي عكرت صفو ملامحها. ستقول نعم لكل كلمة قالتها، وستبدي تلهفا لمجيء يوم السعد الذي تحقق فيه حلم حياتك بالاقتران بها، ولكنك كنت مرتبكا لرد فعلها الغاضب. وقفت صامتا، ساهما، تبتسم في بلاهة، وتبحث عن كلمات تقولها، وعندما رأيتها تصل الى الباب، لم تذكر الا الموضوع الاخر الذي جئت لنقاشه معها، فقلت مداريا خجلك وارتباكك بابتسامة لا معنى لها:
- نسينا ان نتكلم عن خطة عمل المكتب..
ودون ان تبدي اهتماما بما قلت، فتحت حورية الباب، قائلة:
- مع السلامة.
وبقوة صفقت الباب وراءك.
لملك السحاب، كما تقول الاسطورة، سبع بنات، اسكنهن سبع سحابات حمراء، قريبا من منابع النور، في الجزء الشرقي من السماء، حيث منح لكل واحدة قصرا منيفا تحيط به الفراديس الخضراء، وعندما وصلن الى سن النضح واكتمال الصبا والجمال، سمح ملك السحاب لبناته ذوات الحسن السماوي،ان يهبطن الى الارض، لاختيار سبع عرسان من بني البشر، شرط ان يكون العريس من هؤلاء، من افقر واحقر الناس، واكثرهم بؤسا في هذا الجزء من الارض، كي تنقذه من بؤسه وترفعه معها الى منابع النور ليعيش في تلك الفراديس العلوية، حياة هناء وسعادة وحب، وسيتيبهن الله على هذا العمل الصالح ويسعدهن في حياتهن الزوجية. وقد هبطت كل واحدة منهن، في جزء من اجزاء الارض السبعة، لان الكرة الارضية تبدو لساكني تلك الربوع العلوية، نجمة سباعية الشكل.
وكان من نصيب حورية، احدى ربات الحسن السبعة اللاتي انجبهن كبير ملائكة السحاب، الذي يصنع البرق والرعد والغيث، ان تهبط على الشاطيء الجنوبي للبحر الابيض المتوسط، وفي مدينة اسمها طرابلس، وان تختار شقيا بائسا، فقيرا حقيرا، تمسح بريشها الملائكي غبار البؤس عن وجهه، وتحيل ايام الجذب والقحط في حياته، الى مواسم خصب مونقة مزهرة بهية، اسمه عثمان الشيخ. الا ان الحماقة التي اعيت الحكماء عن مداواتها، تمكنت من عقل هذا الرجل وقلبه، واعمت بصيرته، فرفض هذه الهبة الملائكية، ورد ابنة السماء كسيرة البال، واختار ان يبقى عائشا في فقره وبؤسه وشقائه.
نعم هذا هو بالضبط ما فعلته بنفسك، وما فعلته بحورية التي كانت هبة ملائكة السماء اليك، فعاملتها باسلوب غادر لا يليق الا باسافل الناس، دون مراعاة لكل مااغدقته عليك من عطف وحب وما قدمته لك من خير كثير. ظلمتها وظلمت نفسك .
سرت في الطريق دون ان تحدد اتجاها. كنت تشعر بالضيق، ومع الضيق يأتي الاختناق. ولاهثا، مقطوع الانفاس، سرت متخبطا تائها، تحولت ربطة العنق الى حبل يلتف حول عنقك ويخنقك فازحتها، ووضعتها في يدك، ولكن ماذا تفعل لقدميك اللتين يسوخان في الارض، كان الرصيف تحول الى مفازة من الرمال.المفارقة الكبيرة، المفجعة، هي ان هذه المرأة التي تهرب منها، وترفض عطاياها، هي ذاتها التي تتحرق الان شوقا لان ترى عينيها، لانك ما ان تفارقها دقيقة واحدة، حتى يشدك الحنين اليها، فانت بمجامع قلبك تحبها، وتحب ان تكون دائما معها، مشمولا برعاية هذا الجمال الرباني الذ يشع منها، كحجر كريم من اصفى وارقى المعادن، في كل الاوقات، ويشع منها في كل الحالات، عندما تصمت او تتكلم، تجلس او تتحرك، ترضى او تغضب. انك لا تتصور نفسك تحيا بعيدا عنها، مطرودا من بساتين حسنها وحبها، بعيدا عن لمساتها الحنونة الرحيمة الدافئة التي كانت دائما بلسما لجراحك، وبيتها الذي عشت لحظات سعيدة في كنف اضوائه وظلاله وعبيره.
ظننت انك كنت تسير بعيدا عن بيت حورية، ثم اكتشفت انك لم تكن طوال الوقت تفعل شيئا سوى الطواف حوله، والاقتراب منه، لانك، حتى بلا قصد ولا تدبير، لم تستطع الابتعاد عنه. اين يمكن ان تذهب بكل هذا الضيق الذي يطبق على صدرك،وكيف يمكن ان تواتيك الرغبة في الراحة او تناول أي طعام او شراب وانت تعرف ان حورية تعيش لحظة كدر بسببك. بقيت هائما في الشوارع حتى حل المساء. كنت منهكا، خائفا من العودة الى غرفتك في الفندق، لانك لن تجد الا مزيدا من الافكار السوداء تهاجمك كضباع البراري. وتلمسا لشيء من معاني التطهر، وغسل ادران الروح، وبحثا عن المؤانسة، ذهبت الى الاسرة التي لا تعرف اسرة سواها في مدينة طرابلس، وهي اسرة الحاج المهدي. ذهبت اليهم في بيتهم الجديد في جنائن النوار، الامتداد الجديد الذي اضافه الايطاليون للحي العربي quot; ابي الخير quot; والذي يغطي المنطقة الفاصلة بين الحي القديم ومقبرة سيدي منيدر. كنت تظن ان وجود البيت قريبا من المقبرة، سينتقص قليلا من فرحة الحاج المهدي بهذا البيت، الا انك وجدته سعيدا بذلك quot; كيف لا اكون سعيدا وانا اجد نفسي مشمولا ببركات الصحابي الجليل سيدي منيدر. انني لم اشعر بالامان في حياتي كما اشعر به الان quot;.
كان الاستقبال هذه المرة حافلا. أخذك الحاج بالاحضان، وانهمرت دموعه في بكاء صامت. بدا البيت اجمل مما رأيته اول مرة عندما كان مجرد حيطان بلا اثاث ولا سكان، ودخلت عبر اروقة البيت الى الحديقة الخلفية ذات الغرس الجديد، حيث اتكأ الحاج المهدي على مرتبة تحت الحائط وبجواره الشيخ البلبال، الذي دعاه صاحب البيت للمشاركة في الاحتفال بالبيت الجديدة، وقراءة الادعية والاوراد كي يباركه.
جلست بجوارهما على المند\ر المفروش فوق الارض، فادهشك ان ترى الحاج المهدي يخاطب الشيخ البلبال باعتباره صاحب الفضل الاول في حصوله على هذا البيت، بينما تعرف انت، اكثر من أي انسان سواك، ان لا فضل في هذا الفضل لغيرك انت والحاكم العام. وعرفت اثناء الحديث ان الشيخ البلبال كان قد تنبأ لاهل البيت قبل عدة ايام من حصولهم عليه، ان هناك خيرا في الطريق اليهم، وانهم سيدخلون عتبة جديدة، وسيحصلون على دكان جديد، وستشهد حياتهم تغييرا كبيرا، الى ماهو افضل واحسن. لم يكن هذا الكلام قابلا للتصديق لحظة ان استمعوا اليه، لانه لا شيء في الارض او السماء يوحي باحتمال حدوثه، الا ن الحاج المهدي لم يشأ ان يقطع الامل او يشكك في قدرات الشيخ، ولم يزد على ان قال quot;آمين quot; ردا على ما سمعه من كلام،
باعتباره يقع في دائرة الاحلام والامنيات. وعندما جاء البيت الجديد، وجاء الدكان ومعهما العلاج والتعويض عن الارض او استردادها، لم يكن ذلك كله، في اعين الحاج المهدي وافراد عائلته، الا معجزة تحققت على يد الشيخ البلبال.
كانت ثريا هي التي فتحت لك الباب، وكان وجهها الذي ينبض بشرا وفرحا، اول ما رأيت وانت تدخل عتبات هذا البيت، واجوائه المسالمة، الهادئة، التي بعتث في نفسك الامن والسكينة. قادتك ثريا الى الحديقة حيث يجلس والدها وضيفه، في حين جلست امها لاعداد الشي في ركن غير بعيد عنهما، وامامها الكانون وعدة الشاي. نقلت اليك اثناء سيرها معك الى الحديقة، ما قاله والدها عن معادن الرجال التي لا تظهر الا في اوقات الشدة، وعن امتنانه منك، لانك برهنت بصنيعك هذا انك تنتمي الى هذا المعدن الاصيل النبيل.
- هذا ما قاله والدك، فماذا تقولين انت؟
سألتها وانت تتمهل في سيرك، كي تبقى لحظات اكثر معها، مستثمرا هذا الصنيع الذي رفع المعاناة عن اسرتها. كانت تضع رأسها في الارض خجلا، قائلة بانها لم تتعود ان تخالف او تعارض ما يقوله والدها فكلامه يعبر عن مشاعر الاسرة كلها، التي لا تملك الا الدعاء بان يحقق الله كل امانيك.
- هل تقولين انت، يا من كنت كل امنياتي في الحياة، هذا الكلام؟
قلت ذلك في سرك، متأسفا لان دعواتك ودعوات اسرتها تأخرت قليلا عن موعدها وفات اوان تحقيقها، بمثل ما تأخرت انت في موعد عودتك الى المدينة، لتجد ان ثريا قد تم عقد قرانها. نظرت الى ثريا متحسرا، واعدت بحرقة والم، كلمة سبق ان قلتها منذ لحظات في مكان غير هذا المكان، وسياق غير هذا السياق:
- لماذا، يارب، لماذا؟
وباستغراب بادلتك ثريا النظرات، تسأل بعينيها العسليتين الفاتنتين عن سبب هذه اللماذا، فاجبتها بذات الاسى والاسف:
- لماذا فرقت بيننا الظروف ومنعتنا من ان نكون زوجا وزوجة على سنة الله ورسوله.
- انه المكتوب.
قالت ثريا، فمن يستطيع ان يجادل المكتوب، او يرد القسمة والنصيب، او يعترض على القضاء والقدر، الذي لا يختار ضحاياه الا من.. استغفر الله، استغفر الله، لن تستطيع ان تكمل، لكي لا تدخل في التجديف ضد الغيب، وينالك عقاب الجاحدين، المارقين، الزنادقة.
كان وجود الشيخ البلبال امرا مثيرا للخوف بالنسبة لك، فهو بالتأكيد يعرف نواياك، ويدرك قصة حبك المشنوق، ويفهم الاسباب التي تدفعك للمجيء الى هذا البيت، الا انك بدلا من ان تبقى جالسا خائفا من ان يلقي كلمة تفضح سرك، قررت المواجهة، وان تفرض عليه سياقا لاي كلام يقوله بشأنك، بدل الانتظار خائفا، متوجسا من اية كلمة يقولها. قلت له وانتما تشربان مع العائلة الدور الثاني من الشاي المحلى بالسكر والمعطر بالنعناع:
- الا تقل لي يا شيخنا الفاضل، كلمة عن المستقبل الذي ينتظرني، لكي يطمئن قلبي.
كان الحديث الذي قطعته بهذه الجملة يدور عن اخبار الحرب الدائرة في بلاد الاحباش، وعن المقاومة القوية العنيفة التي يجابه بها اهل البلاد جيش الغزؤ الايطالي، بمن فيهم الليبيون، وقد سألتك الام ان كانت لديك أي معلومات عن صهرها فتحي، لانه منذ ان سافر لم تتوصل منه زوجته باية رسالة، ولم يأتهم احد باخبار ما يحدث هناك، فاجبتها باختصار عن وصول السفن سالمة الى هناك، وعن التقارير التي تتحدث عن بسالة الليبيين، وكفاءتهم الحربية، وحجبت عنها ما سمعته من اخبار عن حجم الخسائر الهائلة في الارواح التي تعرضوا لها منذ الاشتباكات الاولى، عندما وضعهم ال