1ـ في الصباح
تقفين بغتة، تفاجئ دومًا وقفتك،، يلتفت الجالسون لمعرفة مصدر الصوت و سببه، يروك دون أن ينتبهوا إليك تمامًا، ويعودون إلى أحاديثهم أو ما بين أيديهم،، ويفكرون كل في عالمه دون أن تقتحمه الزوبعة التي أحدثها وقوفك تنتفضين بقلق، تحملين حقيبتك الجلدية السوداء، القديمة. أنت دائمًا تتعلقين بالأشياء القديمة، لست أعلم ما سر ذلك ؟ لعلك فقط من شدة انشغالك لا تنتبهي أنها أصبحت قديمة جدًا، وتحتاجين إلى استبدالها... لكن لا وقت لديك لمثل هذه quot;الكماليات quot; كما تقولين.
الحقيبة الجلدية تآكلت وبهت لونها و أنت لا تدركين أنّ الوقت الذي استغرقته الحقيبة ليحدث لها هذا الترهل كان موازيا لزمن اقتطع من عمرك.. فماذا جدّ على حياتك من يوم شرائها... أول يوم تبدئين فيه العمل منذ ما يربو عن خمسة عشر عاما؟
تدفعين الكرسي باضطراب يكاد يهوي أرضا، طبعا لم تقصدي ذلك، تسقط منك الأشياء تباعا.. ولا يثيرك إلا صوت ارتطامها. دائما تفزعين، تقفزين فزعة بعد أن يقع فعل السقوط،تماما مثل ما تسقط أيامك تباعًا دون أن يحدث سقوطها صوتا.. ربما لأجل هذا لم تنتبهي لذلك ! فلم يفزعك لحدّ الآن ولا وقت لديك لترهفي السمع لحفيف أجنحة الأيام وهي تتطاير، ترحل إلى غير رجعه....
تسرعين للإمســاك بالكرسي وهو يسقط، هذه المرة تنجحين.. أوف.. لكن تتساقط رزمة أوراقك، تتبعثر، تتناثر تحت الكراسي، والطاولات، تعتذرين و أنت تلهفين للملمتها ويدك تحشر بين أرجل الزبائن. تعتذرين لغير ذلك أيضا دون انقطاع، هي أيضا عادة فيك، دائما تعتذرين، على كل شيء:
-آسفة... آسفة...
يهرع النادل الذي يعرفك جيدا منذ سنين ليساعدك على جمعها:
- معذرة أنا فعلا آسفة.
-لا بأس لا تهتمّي.
يجيبك بابتسامة خفيفة، كتلك التّي يودّع بها أمّه كلّ صباح..
تحملين أوراقك و حقيبتك وتسارعين إلى خارج quot; صالون الشايquot; ثم تفرملين،تباغت دوما فرملتك هذه، تشهقين، تستدرين كطفل يلعب، تحدثين اختلالا في وتيرة مشي الماّرة:
.. آسفة.. آسفة.
تعودين إلى المقهى:
- آه نسيت أن أدفع ثمن العصير.
يهز رأسه النّادل الثاني،هو جديد لكّنه أصبح يعرفك جيدا، لا يمكن لأحد ألا يلاحظك مطلقا..
كثيرا ما يحدث هذا معك أيضا.. نسيان دفع الفواتير،نسيان غلق الحنفية عند خروجك من البيت،نسيان إطفاء النّور أيضا... نسيان تغيير الحذاء الذي أصبح قديما.. ونسيان تفقد صورتك في المرآة...
يستلم النّقود منك و يبتسم، ابتسامة كتلك التي يقابل بها أخته.
2- في الشارع
تهرولين في الرصيف المكتّظ بالّمارة،في تلك السّاعات الصباحية الأولى و الناس يملئون الشوارع،فرادى،مثنى،ثلاث،ورؤوسهم مليئة بذكريات قد يربو مرّها على حلوها،وبآمال قد تكون أحيانا محجوزة ردحا من الوقت،تتضارب بحثا عن منفذ لتكون.. لكنّهم يسعون جميعا لترويض أنفسهم على النمط المألوف للحياة.
و أنت وسط الزحام،تركضين،لا تعبير على وجهك إلا الاستعجال،تتسربين عبر خيوط الناس،تقطعينها،تقتحمين حديثهم أو سرحانهم.. هكذا أنت دائما غير كلّ الناس،تندفعين كشعلة نارية تتمرّد على الملل،تتجاهل النمط المألوف للحياة،تخلق لنفسها عالما تتطاير حممه،لا لتحرق، بل لتضيء دنيا الآخرين،فمن أين تأتين بكل هذه القوة وهذه الروح ؟
تأكلين الطريق بشهية كبيرة، فيصادف أن يصيب نهمك كتف أحد المارة أو أيّ جزء آخر منه وتسارعين إليها دائما كلمتك المعجزة دون أن تضيعي شيئا من وقتك،دون أن تستديري حتّى لتنظري إلى وجهه،أو ينظر هو إلى وجهك،لا يرى الناس إلا ظهرك وكتلة تتحرك بجنون.. تمشين في عجالة،تأكلين في عجالة،تتكلمين في عجالة،وتفكرين في لمح البصر،قال لك أحدهم ذات مرّة:
- ما أفكر فيه أنا في عام كامل، تدركيه أنت في ثانية.
هي قدرتك الفذّة على التخمين،الاستقراء،التحليل،الاستنباط.. كلّ المفردات التي تجمعها عملية إدراك الأمور،تجتمع فيك في لمح البصر كلّ ما يمكن لعقل ذكي أن يفعله لينتج تفكيرا فذّا، تملكينه.
الكلّ يتعجّب لقدراتك العالية و معارفك المتعددة.. ما تفتئين تباشرين النقاش في أيّ أمر،حتى تلفتي إليك الأنظار و الإعجاب.. تبهرين.. تبهرين فعلا.. لكن..
تهرولين في الشارع دائما. و في رأسك يرنّ شيء واحد،دقّات السّاعة التاسعة،موعد المحاكمة،دائما يتعلّق رأسك برنين ساعة ما، رأسك ساعة حائطية دقّاقة،و لكل دقّة فيها موعد عمل.
تسرعين دائما،ترفسين حذاء امرأة أنيقة جدا،تبعث رائحة عطرها نفّاذة تخترق أنوف المارة بعنف و جرأة..
تصرخ المرأة في وجهك:
-هل أنت عمياء،لا ترين ؟
على الفور تخرجين كلمتك المعجزة:
-معذرة.. لم أقصد.. آسفة جدّا..
-طبعا لا تقصدين، هذا ما كان ينقص... انتبهي أين تضعي قدمك،لسنا حشرات!
يرتفع ضغطك.. تستفزّك مثل هذه الردود،تنفعلين،تغضبين بشدة،لا تحبين هذا النوع من الإناث المحنّطات بالمساحيق،بأحذيتهن البراّقة و وجوههن المزيّنة المزيّفة وعطورهن العنيفة،و مشيتهن البطيئة المفتعلة و المثيرة.. أو كما ترين !
-قلت آسفة، ألا يكفيك هذا ؟أنا مستعجلة و أنت تعيقين حركة المرور.
تردّ عليك بفتور و استهزاء:
-لست أنا من يعيق حركة المرور، إنّما أنت من يخترق الرّصيف كقطار قديم.
تقولها، و تنهيها بنظرة ازدراء تشملك من قمة رأسك إلى... أسفل قدمك.
انتقمت لنفسها اللعينة، أصابتك حيث ينزف جرح صغير منذ زمن بعيد، جرح يداريه استعجالك دائما، و تتجاهلينه، مع أن آثار نزيفه الطويل بدأت تدس ملحها في روحك جيدا و إلا فما الذي تقوله هذه الأنثى؟
تنطلق شرارات الغضب من عينيك، على دفعات، تتدفق التعابير على وجهك، تحدجينها بنظرة شزرا، يحتقن لونك، يخرج الدم ثائرا من قلبك و رأسك، تنقبض عروقك... و يتلعثم لسانك، بماذا يمكنك أن تردي عليها و أنت تعرفين أنكquot; قطار قديمquot;؟
تبحثين عن ساعتك في معصمك لتخرجي نفسك من هذا الموقف و أيضا لأن عمرك كله عُلّقquot; بساعةquot;، طبعا كعادتك نسيتها في جيب معطفك،أو على طاولة القهوة، أو في البيت أو هي فقط مرمية في مكان ما، بين أشياء لا علاقة لها بها، و كعادتك أيضا تسألين أحد المارة:
- كم الساعة، أخي؟
- التاسعة إلا ثلاث دقائق.
- يا إلهي تأخرت!
تواصلين سيرك.. لا،بل تركضين الآن فعلا.. للمرة المليون. تتركين خلفك السيدة ذات المشية الرقيقة، و تحملين معك كلماتهاquot; الخشنةquot;، أو حقيقتك القبيحة، فأنت قطار قديم.
تلقين نظرة على حذائك،و أنت تشارفين على دخول المحكمة، كعادته عليه غبار كثيف، و تنتبهين أخيرا أن كعبه تآكل و اعوج، لم تلاحظي ذلك قبلا.
تخرجين ورقة من أوراقك، لأن ماسكة المناديل أيضا نسيتها، و تمررين على الحذاء.
تحيين الحارس، فيرد عليك بتحية كتلك التي يقابل بها أي رجل.
3- في المساء
تدخلين مكتبك بعد أن تجلبي بيتزا و بعض المرطبات من الخارج، كثيرا ما تفضلين المبيت في المكتب بين ملفات زبائنك، تتفحصين قضاياهم، تتمثلين معاناتهم، و آمالهم المعلقة فيك، لكل ملف حياة عندك، و حياتك مركونة في ملف مؤجل.
يضج رأسك بأسماء كثيرة، واصطلاحات، طلاق، نشوز، خلع، نفقة، صلح، حجز، حبس.
لكن كل حالة كانت تلخص وجودا يتجزأ، يتحلل ليبحث لنفسه عن حالة أخرى أحسن.
أما أنت، فكنت أجزاء متناثرة،مهرولة، راكضة، مرهقة، تعيش فوضى و ازدحام،و... وحدة باردة موحشة.
فهل أحسست طعم الوحدة قبل المرأة اليوم و قطارها القديم.. ؟
تلقين تعبك و نزقك و نفورك من هذه الكلمة، و تدخلين الحمام، لذة الماء الفاتر، تسلمك للراحة... تهمين بإغلاق الحنفية، تمتد يدك إليها.. لكن الصوت المنبعث من رأسك يردد في خفوتquot; القطار القديم، القطار القديم.. quot;
تسرعين تفتحين الصنبور عن آخره، يتدفق الماء على جسدك و يرتفع صوت تدفقه، ليسحق كل الأصوات المؤلمة. ترتاحين و تعتريك نشوة كبيرة.
تمضين في الحمام ساعة و نصف.. لأول مرة تستغرقين كل هذا الزمن في الماء.. دون استعجال أو قلق.
تصفر أمعاؤك جوعا، فتنتبهين، لم تتناولي اليوم غذاءك. تقابلك المرآة، تلفت انتباهك، عليها ضباب كثيف..
لم تفكري يوما في إزالة البخار المتراكم عليها بعد الاستحمام، تمتد يدك تمسحه لتبحث لأول مرة ما خلف الضباب، ما تحت التراكمات.
لقد أطل عليك وجهك متوردا تتدحرج عليه بحنو شديد قطرات الماء النازلة من شعرك. كم هو رائع شعرك و هو مبلل، لم تلحظي قبل اليوم أن لك شعرا جميلا، و رقبة طويلة، و وجها متفتحا كالوردة.. لم يقل لك أيضا أحد هذا ما عدا أمك، و كنت تقولين لها مازحة:
- كل خنفس عند أمه غزال..
لم يقل أحد أنك جميلة و لم يكن يزعجك ذلك، أو لم تنتبهي له.. أو.. ربما تجاهلته و ملأت حياتك بصخب الأعمال و هموم الناس.. كل ما كان يقوله لك الرجال:
- أنت رائعة، عقلك يزن بلدا.
فما كان وزن قلبك عندهم و شكل جسمك..
كنت فقط تبهرين حين تتحدثين، و خلف باب الكلام كانت تسكن وحشتك، كان يرتعش قلبك وحدة.
كثيرا ما ادعى بعضهم رغبته في الارتباط بك.. لكن سرعان ما تذوب الرغبة في التفاصيل.
لأنك كنت تبهرين.. كنت تخيفين أيضا.. أي النساء أنت خلف حججك و براهينك، امرأة تمارس إحساس الأذكى، صعب جدا أن تعاشر.
أي الرجال سيصبحون.. عندما تطير الدهشة و الإعجاب، كانوا يتلاشون تباعا، و لا أحد منهم حدق في عينيك و لون شعرك..
تبتسمين و أنت تضغطين على زر مذياعك فيباشرك صوت الغناء:
-لماذا تهتم بشكلي و لا تدرك عقلي...... quot;
لأن عكس ذلك تماما ما يحدث معك،،،،،
و حكاية القطار القديم هذه، أفاقت شجونا منسية.
- لعلها لم تخطئ كثيرا، تلك المرأة.. فإذا أردت ألا أكون قطارا قديما علي أن أكون امرأة.
فكوني إذن امرأة.
قاصة جزائرية تقيم في باريس
[email protected]
التعليقات