تخترق الشابة ذات الثوب الأبيض الطويل، حشود المارة بلطف وسلاسة إذ سرعان ما يفسح لها هؤلاء الطريق، ما أن يفاجأوا بها ترقص في الشارع برقص شبه هستيري. إنما بإيقاع منضبط تخفض فيها رأسها، وينتفض فيه كتفاها ويتلوى خصرها برشاقة وليونة..
تعبر الجموع وسط ذهول الحشد، ومع استغراقها في الرقص، فثمة في داخلها ما يقودها نحو هدف ما. تقتحم مكاتب مؤسسة، فينقطع العاملون عن أعمالهم ما أن يتناهى إلى مسامعهم إيقاع رقصها الذي يعلو مع اقترابها منهم، ومع ذلك فالمفاجأة تكاد تصعقهم. هناك قوة خفية غلابة تدفعها للرقص، وسرعان ما تنتقل هذه الروح المشبوبة إلى الموظفين الذين يتفرسون مسحورين بهيئتها. ترقص كمن يؤدي طقساً. أو أنها تؤدي طقساً، من يدري. تقتحم غرفة اجتماع المدراء الذين يفاجأون بدورهم بما يرونه، بيد أن شخصياتهم المتحفظة تمنعهم من إبداء الانفعال بالمشهد. لم يستكثروا اقتحامها لاجتماعهم ولا رحبوا بها، أما هي فلم تعبأ سوى بالمواظبة على اندفاعها بالرقص.
تترك هؤلاء تغادر مبناهم وتعبر مطعماً، ثم مدرسة أطفال فمستشفى.. ويا للفوضى التي أحدثتها في هذا المكان: ممرضات تعلقن بأطباء، ومرضى سقطوا عن أسرتهم، وعربات متحركة ارتطمت بجدران، وأغانٍ اختلطت بصوت جهاز إنذار. ثم عبرت سوقاً مركزية وسط الحشود مرة أخرى، والناس ينظرونها بعيون غير مصدقة وبفرح مكتوم. وعلى السلم الكهربائي للسوق كما في المولات الحديثة، فقد واظبت على الرقص وهي في وضعية النزول على السلم.. لم تسقط أو تتعثر، ولكنها أصابت العجائز والأطفال حولها، بما يشبه الخبل، إذ اختلط الخوف الشديد بالابتهاج السعيد لدى هؤلاء، الذين كانوا يتفادونها مخافة أن تنتقل إليهم كهرباؤها، لا أن تصعقهم كهرباء السلم.
وفي تلفتها ذات اليمين والشمال، بإيقاع عنيف ومنضبط وهي ترقص رقصة الدراويش الخاصة بها، إذا بأنظارها تلتقط على الجانب الآخر، على السلم الصاعد شاباً بملابس سوداء، يأتي بالحركات نفسها وكان بدوره لمحها وتوقف. إنه إذن الشق الآخر منها وهي نظيرته، ولا حاجة بالمرء للنباهة كي يدرك ما جرى، لقد كافح كل منهما من أجل الالتقاء بقرينه وتوأمه العاطفي، وهي إذ ذرعت شتى الأماكن واقتحمتها غير هيابة، ولم ينلها تعب أو تردد أو ملالة، فقد فعلت ذلك كي تطلق رسالتها إليه. إذ أن الشاب لم يظهر إلا في المشهد الختامي، في اللحظات الأخيرة التي سبقت اللقاء وقادت إليه.
وكما هو متوقع، يتأبطان معاً ذراع كل منهما بالحركات الراقصة إياها، ولا يتوقفان للعناق أو لتبادل الحديث مثلاً كبقية العشاق. يواصلان الرقص بالحمية ذاتها، وتقودهما أقدامهما الرشيقة إلى أقرب كنيسة، حيث يعقدان هناك قرانهما، بغير يتوقف عن الرقص بل يواصلانه بالوتيرة نفسها، برقص الدراويش ذاته. ويتساءل الكاهن الواقف أمامهما في سريرته، إذا كان العريسان الشابان يكدحان لطرد أرواح شريرة تسللت إلى جسد الشاب والشابة، أم أنهما يحتفلان معاً بحلول ملاك ما في إهابهما. ولم يلبث الكاهن أن أخذ يتراقص بدوره كأنما رغماً عنه، خاصة عندما تبادلا قبلة الارتباط المقدس: قبلة طائرة بمثابة نغمة شاردة. رسالة أو إشارة، وكطائرين غريبين وقع حبهما الفجائي على غضن شجرة، فيما الرياح حولهما لا تكف عن الهبوب.
أجل، فرغم انقطاع مشاهد اللوحة وتوقفها في محطة التلفزيون التركية فإنها لم تكف عن الهبوب، أمام مرئيات الزائر الغريب في أحد فنادق اسطنبول، فقد أخرجته اللوحة مما هو فيه من سحر الأشجار وماء المضائق، وازدحام الأفق بالمآذن المخروطية لعشرات المساجد القديمة، ومن رطوبة شمس آب في الخارج.
ثم لم تلبث اللوحات أن تتالت في ناظري الزائر: امتلأت المقاعد الفارغة بأطفال ورهبان وراهبات، تلاقوا على مشاركة الشابين احتفالهما بفرحة العمر. ولو كان في مكنة الزائر لاقترح على العروسين التوجه إلى تل العرائس في الجانب الآسيوي من اسطنبول، كيما يتمشيا هناك في الممرات النظيفة بملابس الزفاف التقليدية ( تجري استعارتها واستخدامها بالأجرة لساعتين أو ثلاث ساعات، للوفاء بغرض المناسبة والتقاط الصور) وبوسعهما أن يتبادلا هناك التمنيات السعيدة والتعهدات القلبية التي لا تخيب.
غير أن الأطفال والرهبان والراهبات الذين شهدوا الاحتفال وباركوه، ولم يفاجئهم مواصلة العروسين الرقص، سرت إليهم العدوى فجعلوا يرقصون، والأحرى يتراقصون إذ لا يتوفرون على مهارة وبراعة الشابين، الذين غادرا وقد أصبحا زوجاً وزوجة، غير أنهما ويا للإثارة واصلا الرقص، واندفع خلفهما الشهود على المراسيم، وجعلوا جميعهم يرقصون في أول شارع انتقلوا إليه. وقد زاد من فضول السابلة، أن رهباناً وراهبات يغادرون الكنيسة ويعمدون إلى الرقص أمام الملأ، وكأنما يؤدون طقوسهم في الهواء الطلق، بدل أن يقبعوا بين الجدران حتى الموت.
ومع سريان الفضول والإثارة كانبثاق الهباء وغبار الطلع في الأجواء، قد خرج أصحاب المحال من محالهم وطرحوا عنهم البيع والشراء، وفعل كذلك السائقون الذين أوقفوا مركباتهم، وفعلت الجدة وابنها وابنتها والأحفاد، وفعل شرطيو المرور وعمال النظافة والسياح والطلاب، وهاجت الشوارع في رقص محموم، بغير ضجيج ودون فوضى، بضابط ما ينتظمهم ويحرسهم، ويحول دون أي تدافع أو اصطخاب، باستثناء ما يتبادلونه من نظرات البهجة والتواطؤ، وما يتحدث به المرء مع ذات نفسه، ولا يسمعه أحد. وقد شاع الاحتفال الجماعي في الأرجاء: في المناطق والأحياء والشوارع، على أنه لم يستغرق من الوقت سوى نحو ساعة واحدة في التقويم الزمني، بعد أن سرت كهرباء خفية، جعلت الناس أسرى ثم صرعى لها.
على أن هؤلاء في اجتماعهم وأشتاتهم، توقفوا معاً عما هم فيه بتوقيت متلازم، يكاد يبدو توقيتاً متفقاً عليه. توقفوا، وبدل الإيقاع الرشيق المنغم والبهيج، فقد حل صمت شامل عميم. وهناك من أصحاب القلوب الضعيفة من انخرط في البكاء في نحيب محرور، على أن هذا وذاك لم يؤشرا على ندم أو تعاسة، بدليل أنهم انخرطوا بعدئذ في الضحك، وأخذوا يتفقدون أحوالهم استعداداً للعودة إلى الحياة quot;الطبيعيةquot;. وهو ما بدر أيضا عن الزائر الغريب الوحيد في الفندق، الذي عثر على نفسه أمام مرئياته السارحة، منهوب المشاعر ومغرورقاً بابتسامة معلقة.