كانت السفينة تنساب مدفوعة بقوة المياه، اندفاع مجهول غامض بعد أن فتحت السماء مصاريع وأبواب المياه، كانت تشق المياه التي تلاطمها الأمواج العالية، ترتفع وتنخفض مع كل موجة تصادفها، فتترنح تحت تأثيرها، تستدير مهتزة مرنة مع قصر أو طول الموجة التي تريد أن تغزوها أو تبتلعها، فالمياه تزمجر، وتزبد، وتبتلع كل شئ يصادفها، وطمست الأرض تحتها، بينما جدنا نوح وقف داخل السفينة في الطابق الأعلى مستغرقا بتأمله، مفكرا بمصير السفينة، وما فيها من مخلوقات، ثم راح يمشي على مهل، يتكأ على عصاه، وهو يشعر بالضيق، والثقل، والاستياء من بني الأرض الذين كثر شرهم، فعاقبهم الرب بهذا الطوفان، كان ذلك يكدره، ويجرحه، ويزعجه تماما، حيث بدا الحزن يهيج عذابه الخفي، فجأة شعر أنه منجذب إلى الطابق الأوسط، فنزل حيث أقفاص الطيور. قام بعدة خطوات، ثم تأمل الطيور التي كانت تغمض عيونها ثم تفتحها، وتحرك أجفانها بنظرات طويلة تلتقي نظرات نوح المتماسكة المتوازية أشبه بخطوط مستقيمة لا تحيد عنها. اقترب من قفص الحمام، الذي كان يسجع سجعا حزينا، وينوح، ويهدر، ويترنم : ( أين ؟ أين ؟ أين ؟ أين ؟ )، ويندب عزلته، فوقع بصره على الحمامة المطوقة باللون الرمادي، وهي تصفق بجناحيها، استغرب نوح كأنها تقرأ أعماقه، وخالجته لحظة تلقائية أن يجرب مقاومتها، ورغبتها، وراح يفكر بعمق في الانطباع، الناتج من تأثير الحرية على الحمامة، ذلك يخلق رغبة معاكسة قد لا تعود إلى موطنها ndash; السفينة ndash; وقد عرف عن هذه الحمامة أنها لا تغادر موطنها، ولا تهاجر إلى مكان آخر، فهي ذات طبع ودود، ترفرف في الأعالي، وترى عن بعد. وبغبطة فتح نوح باب القفص، ومد ذراعه إلى داخله، فحطت الحمامة عل يده مرفرفة، ومشى بها إلى النافذة التي بقرب الباب، وأطلقها مرفرفة على الماء العميق الذي بلا حدود، بينما عينا نوح كانت تحدقان في المياه، تحدقان في الأعماق الخفية التي يرقد فيها الموت، فاختفت الحمامة تحوم، وهي ترقب المياه، لتحط على اليابسة، وجدت نفسها إنها هي الآخر في خوف كما لو أنها خيال غريب فوق قتامة المياه، رغم تحررها من القفص الذي كان سجنها فيه، الآن يمكنها أن تطير طليقة أينما تريد، مستقلة بطبعها العذب.أغلق نوح باب النافذة ووقف صامتا بوجه هادئ فيه دلالة مغزى عميق، غارقا في التفكير، شاعرا أنه واثق من النجاح إلى الحد سيأتي بعد فترة، ويفتح النافذة.
أما الآن فقد صمت من جديد، وفتح النافذة، ومد يده منها، فعادت، وحطت على يده، فأيقن أن المياه لا زالت تغمر الأرض، فانتظر سبعة أيام بلياليها، وأطلق الحمامة مرة أخرى، وانتظر إلى المساء، فعادت، وفي فمها ورقة زيتون، تأكد له أن المياه قد قلت، فقد زهى وجهه لأن انتهاء الطوفان اقترن بالزيتون، بلمعانه، وقد تكون أول شجرة بعد الطوفان، وتذكر نوح أنه ذات مرة تمسح بدهن الزيتون، وسكبه على رأسه. انتظر سبعة أيام أخرى، وأطلق الحمامة، فلم تعد إلى السفينة ndash; موطنها ndash; هكذا انتهى الطوفان، وإن أول شجرة اكتشفتها الحمامة كانت الزيتون، كيف نجت من الطوفان، لا أحد يدري، وقد تكون خلقت بعد الطوفان دون أن يزرعها نوح، أما الحمامة فكانت أول من حط على اليابسة، وتركت موطنها السفينة، قد يكون موطنها بستان زيتون هذه المرة، تنعم بحريتها فيه.