كانت أحلامها أطول منها. كانت تحس إنها أتت إلى هذا العالم عن طريق الخطأ. لم يغادرها هذا الشعور قط منذ ان كانت في (زاخو) في أوان الليل ولا في أطراف النهار.
كانت ترى نفسها بعين كل من يتأمل قامتها القصيرة وهي تمشي إلى جانب أمها أو إخوتها في السوق، بنظرة استهزاء، وضحكة مكتومة على وشك أن تنطلق بكل قوتها.
لكم ساهمت قامتها القصيرة في تبديد أحلامها وشعورها بالدونية، فهذه القامة حرمتها من الذهاب إلى المدرسة. توسلت بأمها ان لا ترسلها إلى المدرسة. كانت لا تود أن تضيف هما مضاعفا إلى همومها، تكفيها نظرات الفضوليين وضحكاتهم المكتومة الساخرة في شوارع زاخو. لكنها في أعماقها، كم كانت ترغب بالذهاب إلى المدرسة كقريناتها!
حتى في البيت لم تكن تصلح إلا للكنس وغسل الملابس. لم تكن تستطيع مساعدة أمها في المطبخ، لأن الوصول إلى رفوفه كان بمثابة معجزة بالنسبة لها.
كل من في العائلة كانوا ذوو قامة اعتيادية ما عداها هي. عندما سألت في يوم والدها لو كان لها شبيه في تاريخ العائلة. أجابها والدها وهو يحتضنها بمحبة حقيقة، ويجلسها في حضنه وكأنها طفلة صغيرة رغم تجاوزها العشرين:
ـ لماذا تتعبين نفسك بهذه الأسئلة؟ أنت وردة العائلة.
ألحت عليه في السؤال قال لها، ان جدته كانت قصيرة القامة أيضا، لكنها تزوجت وأنجبت أطفالا طبيعيين..
ثم قبلها من وجنتيها مواسيا:
ـ أنت أيضا ستتزوجين، وتنجبين أطفالا لهم قامات كالنخيل..
ثم أنهى حديثه ضاحكا:
ـ الطول طول النخلة، والعقل عقل الصخلة!
كانت تعلم ان والدها يواسيها، بل يكذب عليها كذبا جميلا. من يرضى بالزواج بقامتها التي لا تتجاوز المتر.. حتى الأعمى سيرفضها!.
يبدو ان القدر يريد أن ينتقم منها، فبعد أن كان الذين ينظرون إليها في شوارع زاخو بسخرية مكتومة، أثناء جولاتها النادرة مع والدتها او إخوتها لشراء حاجة، قادها القدر لتجد نفسها وسط زخم بشري من كل لون ونوع في هذا المعسكر اللعين، حيث آلاف العيون تترصدها كل يوم عند خروجها من الخيمة لأي أمر كان.
كانت كجميع اللاجئين تتعجل في الخروج قبل يوم من المعسكر وسط انتظار قاتل ومميت، كل دقيقة فيه تحسب بساعة، وكل ساعة بيوم، وكل يوم بشهر، وكل شهر بسنة.
أكثر ما كان يثيرها حسدا، هي لحظات سماعها من مكبرات الصوت في المعسكر عن أسماء الوجبات التي ستغادر المعسكر إلى أصقاع العالم.
في اليوم الموعود للتحرر من هذا السجن البغيض، كان المغادرين يلبسون أجمل ملابسهم. كانت النساء اللاتي يبدين مهملات، شعثاوات، يبدين في ذلك الصباح بأبهى زيناتهن، متبرجات بإفراط، يشع من وجوههن الفرح.
كانت تحرص على أن تقف مع بقية اللاجئين الذين لم يحل دورهم للخلاص من هذا الجحيم، الذين كانوا يصطفون للوداع مع المسافرين وسط دموع وآهات الفرح. لم تكن تستطيع أن تمنع دموعها عند انطلاق الباص بمسافريه.
كان ثمة سؤال يحاصر ذهنها:الباقون في المعسكر قد يبكون لبقائهم، ولكن لماذا يبكي الراحلون؟
كان تواصل في ذهنها رحلة الباص الذي سيصل بعد عشرين ساعة إلى أنقرة، بعد قضاء ليلة في الفندق، ينطلقون بالطائرة إلى استانبول ومنها يتوجهون إلى الفردوس الذي فتح بابه لهم.
لم تكن تستطيع أن تتصور (كندا) إلا من خلال الصور التي كان شقيقها الأصغر يبعثها إليهم من هناك، حيث يعيش فيها كلاجيء منذ عدة سنوات.
كانت لها أمنية سرية مدفونة في مكان مغلق في نفسها الأسيانة، تحرص على ان لا يعرفها احد. لذلك كانت تبدو أكثر شوقا من إخوتها للذهاب إلى كندا قبل لحظة.
قد تحدث المعجزة هناك، وتستطيع تطويل قامتها عدة سنتمترات، فالطب في مثل هذه الدول تخلق المعجزات.
كان البرنامج الذي رأته قبل سنوات في التلفزيون محفورا كالنقش على ذاكرتها. كان برنامجا حول قيام الصينيات ذوات القامة القصيرة في هونك كونك، بتسليم أنفسهن لمبضع الجراح، الذي كان يقوم بتكسير عظام الساقين، ووضع مادة بين في مكان الكسر التي تؤدي عند التئام جروحها إلى تطويل قامتهن عدة سنتمترات.
لم يثنها منظر العملية المرعبة والقص والقطع وتركيب مسامير وأسلاك حديدية في الساقين عن أمنيتها قط.
إنها تتضرع في سرها عشرات المرات في اليوم للسيد المسيح والسيدة العذراء، من أجل أن تتحقق أمنيتها في أن يحل يوم خروجها مع عائلتها من المعسكر قريبا.
كم أشعلت الشموع في الكنيسة الصغيرة المؤلفة من ثلاثة خيام مرتبطة ببعضها، نذرا وعرفانا للمخلص!

منذ وصولها إلى المعسكر، وهذا الحلم ينمو معها، ويتفرع إلى غصون وأوراق خضر. لكنها لم تكن تمنع نفسها من السؤال: وماذا لو ازداد طولها عدة سنتمترات؟ هل يستحق الأمر كل هذا العناء من الخضوع للتقطيع والتشريح والدماء؟
لكنها كانت حينما ترى صورة المسيح المصلوب أمامها، كانت تهدأ وتزداد عزيمتها صلابة. ألم يقبل المسيح العذاب وآلام الصلب، ليخلص البشرية من الخطيئة؟ فما الضير في أن تتحمل من أجل نفسها آلاما، هي تافهة ولا تقاس أبدا بتلك آلام العظيمة؟
كانت تحس في كل مرة براحة كبيرة عندما، كانت تنجح في إقناع نفسها. الغريب انها بدأت ترى نفسها في أحلامها طويلة القامة، تلبس ملابس العرس، ويحيط بها أجمل شاب مسيحي في زاخو، كانت جميع الفتيات والمراهقات مغرمات به، بنيامين!