في فصل الصيف يومياً، كان أبي يستيقظ عند آذان الفجر، يتوضأ، يصلي، يتلو دعائه، يغادر البيت، يفتح الأبواب، يوقد النار، يعد دلال القهوة، يعمل الشاي بأباريق خزفية كبيرة، ينتظر مجيء العمال، توافد الزبائن، يجلس في مكانه، يقوم بإدارة المقهى حتى وقت الضحى، يذهب إلى النوم، يعود بعد أن يصلي الظهر و يتناول الغداء، يستمر بعمله إلى حين إغلاق المقهى بعد منتصف الليل.
كانت المقهى كبيرة، يحيط بها من الخلف و الغرب مرآب (كراج) لوقوف السيارات، تطل نوافذها عليه، لها خمسة أبواب، أربعة متساوية و باب كبيرة في الوسط، تفصل بين جدران الأبواب قواطع، أسفلها من الخشب مركب فوقه زجاج شفاف، في قاطع الوسط باب صغير، يفتح باليد، يعود للانغلاق بواسطة لولب حلزوني، يعلو الأبواب قواطع أخرى من الزجاج تصل إلى السقف الذي يقارب ارتفاعه أربعة أمتار.
تحوي المقهى على أكثر من خمسين تختاً من الخشب مفروشة بحصير مصنوع من سعف النخيل، تصف بشكل متوازي و على شكل مربعات مفتوحة من أحد الأضلاع، تسمح للمرور و الحركة من بينها بسهولة، في داخل كل منها منضدة كبيرة و أخرى صغيرة، يسهل تحريكها باليد، أما أبي فكان يجلس أمام الجدار الايسر للباب الوسط على كرسي خاص، مصنوعاً من خشب الجوز،له مساند من الجانبين، مفروش ببساط صنع محلياً، ذو ألوان متعددة، فوقه مفرش، أمامه منضدة مكسوة بطبقة من الفورميكا بلون السماء، لها مجر في الوسط و مجرات عديدة من الجانبين، فوقها إناء من الألمنيوم مغطى بطبق صغير من البرونز، لوضع النقود فيها.
طلب أبي مني بعد ابتداء عطلتي الدراسية بأيام قليلة، أن أساعده، أقوم بإدارة المقهى في حالة ذهابه إلى النوم أو غيابه عنها، لم يكن باستطاعتي أن أرفض، لأن ذلك يعتبر عقوقاً و خروجاً عن الطاعة، في اليوم الأول أجلسني في مكانه، أوصاني قبل ذهابه: لا تتدخل في حديث الزبائن، لا تشترك معهم في حديث.
قلت: سأكون كما وصفني معلمي في الصف بعد الانتهاء من الدرس قبل أن يدق الجرس، إني أشتري و لا أبيع
قال:هذا ما أريد أن تكون عليه هنا، ثم تركني و غادر المقهى.
1- المزايدات
بعد مغادرة أبي بقليل، دخل أربعة رجال، كانوا شيوخاً يرتدون الملابس العربية فوقها العباءات، جلسوا على التخوت بالقرب مني، كانت وجوهم قاسية، تدل على الصرامة، لهم لحى كثة غير منتظمة، قدرت أعمارهم بين الستين سنة و الثمانين، لكنهم كانوا جميعاً أقوياء، يتمتعون بصحة جيدة، أومأت لموزع القهوة أن يذهب إليهم، شرب كل منهم فنجانين، جاء موزع الماء، فشربوا، سألهم نادل المقهى الكبير عن طلباتهم، طلبوا شاياً، شربوا شاياتهم باستمتاع ظاهر، أخرج كل منهم علبة التبغ من جيبه، لف له سيكارة، أرثها، أخذ منها نفساً عميقاً، أخذوا ينفثون الدخان، نظرت إليهم، لاحظت أن وجوههم رقت، انبسطت أساريرهم، بدئوا حديثهم، أصغت السمع إليهم،
قال أصغرهم سناً: كنت في أحد السنين أصطاد في محلة الباب الغربي، وضعت الطعم في الصنارة، رميت الخيط في النهر، كان على الغرب مني نسوة، يغسلن أواني الطعام، و قسم منهن يغسلن الملابس، و أخريات يملأن الجرار بالماء، يذهبن بها إلى البيوت يفرغنها، يعدن لملأها مرة أخرى، نظرت إلى الضفة الأخرى من النهر على بعد أربعة قرى (مسافة 2 كم) غرباً رأيت جذعة نخلة تطفو في الماء،تمشي فوقها نملة صغيرة سوداء، شعرت بالخيط يسحب من يدي، أرخيته قليلاً بتمهل، تأكدت أن السمكة قد علقت بالصنارة، أصبحت تسحبني بقوة، تمسكت بالخيط، سحبته، أوصلت السمكة إلى جرف النهر، تناولت الفالة، ضربت بها السمكة بقوة، انغرست فيها، شلت حركتها، كانت السمكة كبيرة جداً، وزنها وصل إلى مائة و خمسون حقة ( مائتا كيلو غرام)، تجمع الناس حولي، رفعوها معي، أوصلوها إلى بيتي، القريب من النهر، وزعت لحمها على سكان المحلة، أبقيت لعائلتي ما يكفي.
نظرت إليه جيداً بعد أن أنهى حديثه، عرفته في سيماء وجهه، تذكرت انه قريب لجار لنا توفى و أنا صغير، و بعد أن جهزت الجنازة، وزعت أجزاء متفرقة من القرآن الكريم لقراءتها على الجنازة قبل الدفن، لإكمال قراءة القرآن كاملاً أو ما يسمى بالختمة، قال هو: لا أستطيع القراءة بدون نظارات، كان الكثير يعرفوه فتشوا له عن اطار، وجدوا إطارا بدون عدسات، كان من مخلفات المعلم المتوفى، ناوله أحدهم له، أخذه منه، وضعه فوق عينيه، أخذ يقرأ، أتم قراءة الجزء، بعد إكمال الختمة، شيعت الجنازة إلى مثواها الأخير.
قال الذي يكبره سناً: دربت سخلة (عنزة صغيرة) على صعود النخيل و جني التمر في بستاني الذي فيه أكثر من أربعمائة نخلة، كنت أستعين بها في وقت انشغال الفلاحين، أعطيها الحبل و الزنبيل، تصعد إلى النخلة التي أشير لها إليها، تقوم بجني التمر، تدلي الزنبيل بالحبل، أتناوله منها، أفرغه في إناء، في عصر أحد الأيام جاءني ضيف، أردت أن أكرمه،أعطيه تمراً جيداً، حملت الزنبيل و الحبل، أخذت العنزة الصغيرة معي، أشرت لها إلى النخلة، تناولت الحبل بأسنانها، صعدت، سحبت الزنبيل بالحبل، قامت بجني التمر، أنزلته، تناولته أفرغته في إناء آخر، أعطيته لضيفي، بعد ذهابه، أخذت العنزة تثغو، تتألم، عرفت أنها أصيبت بعين حاسد، ثقبت لها ورقة بإبرة، قرأت عليها رقية، أحرقت الورقة، مسحت العنزة بسخام الورقة المحروقة، و لكن دون جدوى، عرفت أنها هالكة لا محال، قررت عدم ذبحها، تركتها تموت من الألم، رغم أني كنت أتألم معها، حفرت لها حفرة على سفح التل القريب من البستان، دفنتها فيها، وضعت سعفة نخيل خضراء بشكل عمودي أمام الحفرة، قررت عدم المرور من هناك، لكني حين أكون مضطراً، أقف مشدوهاً، لا أدري ما افعل، يداهمني الحزن و يهاجمني الألم، أتصرف كما يتصرف المجنون.
قال الآخر الذي يكبر الاثنين الذين تحدثا سناً: مرت علينا سنة عسيرة، في وقت كنت اعمل فيه قصاباً، قلّتْ فيها حيوانات الذبح، قمت باستيراد الأبقار من استراليا، سافرت إلى هناك، أخترت أبقار يزيد وزن الواحده منها على مائة و خمسون حقة (أكثر من مائتا كيلو غرام)، شحنتها بالطائرة للسرعة، كنا نطير في الجو، تفقدت الأبقار، عرفت أنها تعاني من العطش، بحاجة إلى الماء،نظرت من نافذة الطائرة، وجدت أننا نطير فوق مساحة مائية كبيرة، ذهبت إلى قائد الطائرة، طلبت منه أن يخفف السرعة، يهبط تدريجياً إلى أن يقارب سطح الماء، سأني لماذا؟ قلت: أريد أن أورد الأبقار، قال: انتظر قليلاً من الوقت، إننا الآن نطير فوق بحر مياهه مالحة، بعد نصف ساعة ناداني بالسماعة (مكبر الصوت)، قال إننا نطير فوق نهر طويل، اخبرني أنه سيهبط تدريجيا، يصبح قريباً من مستوى الماء، طلب مني أن استعد، جهزت نفسي، فتحت باب الطائرة، جلست بالباب، أخذت أدلي البقرة امسك بها من ذيلها، اجعل فمها يلامس الماء فتشرب، أسحبها حين ترتوي، أعيدها إلى الطائرة، وادلي الأخرى بعدها فتشرب أيضاً حتى استطعت أن أسقي جميع الأبقار، شعرت بالراحة، أخبرت قائد الطائرة، صعد بالطائرة إلى الأجواء العليا، واصل طيرانه حتى وصلنا المدينة، كان ذلك وقت الضحى، هبطت الطائرة في المكان الذي كانت القوات البريطانية المحتلة تستخدمه مطاراً لها في الحرب العالمية الأولى، أنزلت الأبقار من الطائرة، دعوت طاقم الطائرة لتناول الغداء معي، اعتذروا، لارتباطهم بمواعيد أخرى، ودعتهم، بقيت واقفاً إلى أن حلقت الطائرة في الجو، لوحت لطاقمها بيدي، قدت الأبقار إلى المدينة، تعجب السكان لما قمت به، قدموا لي الشكر على توفير اللحوم لهم بسرعة.
قال أكبرهم سناً: كونت صداقات كثيرة مع أناس في بلدان غريبة، زرتها حين كنت تاجراً للخيول العربية، في كل سفرة، كنت أشاهد مشاهد غريبة لا توجد في بلادنا، أقصها على الناس بعد عودتي في دواوين المدينة، لم يصدقوني، قلت لهم مرة إني رأيت عربة تسير وحدها يقودها شخص لا تجرها الخيول، كذبوني، و قلت لهم مرة أخرى أن الماء لا تنقله النسوة بالجرار من النهر إلى البيوت، بل يؤخذ من صنابير تفتح داخل البيوت يخرج الماء منها، لم يصدقوا، قلت لهم أيضاً أن النساء يمشون في الشوارع حاسري الرؤوس، و يعملن مع الرجال في المصانع، قالوا: لا بد أن القيامة ستقوم (و إن الساعة قريب)، طلبوا مني ألا أحدثهم عن مثل هذه المشاهدات، قررت ألا أذهب بعد عودتي من سفري إلى دواوين المدينة، ألا أقص عليهم ما شاهدته في البلدان الغريبة، كان ذلك قبل أن تظهر المقاهي إلى الوجود، في أحد أيام الشتاء بعد أن تركت تجارة الخيول، سمعت طرقاً على الباب، قمت، فتحته، تفاجأت، رأيت أصدقاء جاءوا من الهند، معهم هدية لي، شلف رقي كبير (يسموه المصريون البطيخ)، تحمله أربعة فيلة، عانقتهم، رحبت بهم، فرحت بقدومهم استطاعت الفيلة أن تصل إلى البيت،لان بيتنا يقع على الشارع الرئيسي، كان الشلف كبيراً جداً، لم نتمكن من إدخاله إلى البيت إلا بعد قلع الباب الرئيسي و هدم جزء من واجهة البيت، وزعت الكثير منه على سكان المحلة و بقي منه الكثير، كنت يومياً، اقطع منه قطعة، أتناول اللب،أرمي الحب إلى سطح الدار من الداخل، في أحد أيام الصيف كنت عائداً إلى البيت، رفعت رأسي إلى الأعلى، دهشت، شاهدت جبلاً أخضر كبير يمتد من سطح دارنا إلى سطوح بيوت الجيران، أسرعت إلى البيت، صعدت إلى السطح، وجدت حبة من الرقي نبتت، امتد نباتها، حمل رقية كبيرة جداً، أصبح حجمها كالجبل، عبرت إلى بيوت الجيران الأخرى، لم يكلمني الجيران حياءً مني، أخرجت سكينتي من جيبي، كانت ألمانية الصنع، من فولاذ جيد، اشتريتها في إحدى سفراتي السابقة، أحتفظ بها دائماً معي، غرستها في الرقية، غارت السكينة إلى الداخل، قفزت وراءها، كما يقفز الشخص في النهر من مكان عالي على رأسه، محاولاً الإمساك بها، لم أستطع، أخذت أركض، أوقفني رجال كانوا يسيرون في الطريق داخل الرقية، سألوني عن جمال ضالة، أضاعوها، كما أضعت سكيني، أنهى كلامه حين مر موزع الماء، شربوا جميعاً كؤوساً باردة من الماء، قاموا دفعوا حسابهم، غادروا المقهى.
أطرقت قليلاً، فكرت بما قالوا... تساءلت: هل كان ذلك وهماً أم خيال؟ لا بد انه كان مزايدات حول قضية ما!، لا شك ان حديث مغامراتهم يصلح أن يكون مادة جيدة لإنتاج أفلام كارتونية ينشد إليها الأطفال الصغار عند عرضها على الشاشة الصغيرة.
2- المستحيلات:
كنت جالساً في مكاني، استعيد ما قاله الشيوخ الأربعة، حين دخل ثلاثة رجال يرتدون الملابس الحديثة، بنطلونات، قمصان صيفية، جلسوا في المكان الذي غادره الشيوخ، نظرت إليهم كانوا نحاف الأجسام، وجوههم حليقة، شعورهم ممشطة، قدرت أعمارهم بين الثلاثين و الأربعين سنة، عرفت أنهم كانو مدرسين في المدرسة الثانوية، رفضوا أن يشربوا القهوة، طلبوا شراب الليمون الحار، اخرج احدهم من جيبه علبة سكائر أجنبية،قدم لزميليه، أخذ كل منهم سيجارة، أخرج الآخر ولاعه من جيبه، أشعل سجائرهم، أخذوا يدخنون و يتحدثون.
قال أحدهم: بعد قبولي في كلية الآداب، صادفني في اليوم الثاني للدوام صديق أخي، كان طالباً يدرس الفيزياء، و يعمل مقدم برامج في دار الإذاعة، بادرني بالسلام، عرفني بنفسه، كنت لا اعرفه، درس المرحلة الثانوية في مدينة أخرى، دعاني للذهاب معه إلى غرفته في محلة جديد حسن باشا، مقابل محلة الحيدر خانة و جامعها الكبير، لاحظت سريراً آخر كان في غرفته، سألته عن عدم سكنه في القسم الداخلي للطلاب، قال: إني اعمل مقدم برامج، أحتاج إلى جو هادئ و كتب، لا أريد أن أكون في غرفة يسكنها أكثر من ثلاثة أشخاص، سألته عن السرير الإضافي، قال: هذا لطالب يدرس في كلية الشريعة،عرفته بعد ان ذكر اسمه، أضاف: طلب أن يسكن معي مؤقتاً حتى ينتقل إلى القسم الداخلي، أو إلى محل آخر، عرض عليّ أن أسكن معهما ما دام معي فراش جلبته من المدينة، ترددت، قلت: أفكر، قال: تعال معي، ذهبنا سوية إلى سوق قريب، اشترينا سريراً، نقله لنا حمال إلى الغرفة، ذهبنا سوية إلى الفندق، نقلنا فراشي و حقيبتي بواسطة عربة يدفعها شخص، عبرنا معها الجسر من الكرخ إلى الرصافة، فرحت كثيراً لهذه المصادفة، لأني فارقت الفندق و ما يؤمه من نزلاء، اقتربت من مركز انطلاق الحافلات إلى مكان دراستي، أصبحت أسكن مع طلاب معي في الجامعة.
توثقت علاقتي مع طالب الفيزياء، أصبحنا أصدقاء، جمعني معه حبه للفكاهة و الظروف، كان حقاً من الظرفاء، ربطني به أكثر حبه للقراء و شراء الكتب، كنا نضحك دائماً، نقرأ، نتبادل الآراء، نشتري كتباً قديمة رخيصة الثمن من سوق السراي، نتبادل قراءتها، أصبح يفصلنا عن طالب الشريعة مسافة ثقافية على الرغم من سكنه معنا، في إحدى الأمسيات، ذهب طالب الشريعة إلى الحمام (المرافق الصحية)، انقطع التيار الكهربائي فجأة، اعتقد طالب الشريعة أن أحداً تعمد في قطعه، أخذ يصرخ: من أطفأ المصباح، من قطع التيار الكهربائي، رد عليه طالب الفيزياء معتمداً على دراسته في علم الفيزياء، و معرفته في موضوعي الضوء و الكهرباء،: أشعل البك لايت ( Back Light )، أخذنا نضحك، إلا أن التيار الكهربائي ما لبث أن عاد سريعاً، اشتعلت المصابيح، عاد طالب الشريعة إلى الغرفة، سأله طالب الفيزياء: هل أشعلت البك لايت؟! غضب، اعتبر ذلك اهانة، سخرية لاذعة به، رد بانفعال بصوت عال، حدثت مشادة كلامية، قال طالب الفيزياء: انك لا تستحق النوم في هذه الغرفة، احمل فراشك و ارحل هذه الليلة، تدخلت، أصلحت بينهما، قلت إن الأمر لا يتعدى المزاح، عادت الأجواء إلى الهدوء، لكن طالب الفيزياء أخذ يردد العبارة و يضحك، قال: سأذكرها في برنامجي الإذاعي، لم أتمالك نفسي، بدأت أضحك، أضاف: سأجعل من هذه العبارة شعاراً يستعمله الطلاب في كل مكان، في الكليات، في الأقسام الداخلية، في أماكن القراءة، و فعلاً انتشرت العبارة بين الطلاب، تناقلوها، استعملوها للمزاح حتى في كلية الشريعة، دون أن يعرفوا مصدرها، قال المدرس لزميله المتحدث: لا بد أن لك دوراً كبيراً في نشرها؟ قال المتحدث: تعاونت مع زميلي طالب الفيزياء في نشرها و ساعدني في ذلك طلاب من كليات أخرى...
قال الآخر: اشتريت قطعة قماش من بغداد لخياطتها بذلة، ذهبت بها إلى الخياط الوحيد في المدينة، اخذ لي مقاسات، حدد لي موعد مراجعة لمقاسات جديد، و موعد آخر لضبط المقاسات، أبلغني موعداً للاستلام، ذهبت إليه في الموعد المحدد، طلب الخياط مني الانتظار، الجلوس دقائق حتى يأتي العامل بالبذلة، سألته: من أين يأتي العامل بها؟ قال: جاءني أحد وجهاء المدينة، عضو المجلس المحلي فيها بقطعة قماش نفس قماش بذلتك، طلب مني أن افصلها له بذلة عربية كما اعتاد أن يلبس، أرسلت له بذلتك متعمداً، استفزه، أردت أن اعرف ما يقول، كنت استمع إليه حين جاء العامل يحمل كيساً ورقياً، سأله الخياط: ماذا حدث؟ قال: أعطاني في البداية قطعة من النقود، فرح لانجاز البذلة بسرعة، أخذ الكيس من يدي، طلبت منه أن يفتح الكيس ويرى البذلة كما أوصيتني، فتح الكيس، عرف أن البذلة حديثة ليست له، أعادها إلى مكانها، سلمني الكيس، قال لماذا لم يرسل الشفقة (القبعة)، أضاف: قل لأستاذك، انه من السهل عليّ أن تنزع روحي دون أن يطلب مني احد تبديل ملابسي، استلمت البذلة، دخلت إلى اخر الدكان خلف الستارة، ارتديتها، نظرت في المرآة، كانت البذلة ملائمة لي جداً، دفعت قسماً من أجور الخياطة، خرجت من دكان الخياط، رددت العبارة التي قالها عضو المجلس المحلي مرات عديدة و أنا في طريقي إلى البيت، كانت عبارة جميلة و معبرة، قال زميله: كان معه حقاً فيما قال، قال الزميل الآخر: انه قول رائع حقاً.
قال الثالث: كنا طلاباً في قسم التاريخ، أضيفت لنا في المنهاج الدراسي في السنة الثالثة مادة دراسية جديدة (المجتمع العربي)، فوجئنا نحن الطلبة إن مدرسة المادة أمريكية شابة جميلة، أنيقة، زوجة أستاذ عاد حديثاً من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إكمال دراسته العليا فيها، دخلت علينا أكثر من محاضرة، اكتشفنا أنها لا تعرف عن المجتمع العربي شيئا، و لا عن العرب و أحوالهم، و لا تعرف من العربية حرفاً، أنيط بها تدريس المادة و جعلها محاضرة علينا لتوسط زوجها لها، راجعنا رئيس القسم، شرحنا له الموضوع، طلبنا تغيير المحاضرة، لم يقتنع، طلب منا الانتظام و حضور المحاضرات، رفض تغييرها، هددنا بالفصل، لم نرضخ لتهديداته، كنا نستقبلها عند دخولها القاعة بالصفقة (التصفيق) و ترديد الأغنية المعروفة (هلا بجيتك هلا بجيتك هلاوين) ثم نغادر القاعة، نتركها وحدها جالسة على المنصة لا تفهم ما نقول، وصل الموضوع إلى الصحافة، كتبت صحفاً عن الموضوع، تحت عناوين، أمريكية لا تعرف العرب و لا مجتمعهم تدرسهم موضوع المجتمع العربي، أمريكية لا تعرف من العربية حرفاً تدرس موضوع المجتمع العربي، و تساءلت صحف أخرى: من جاء بأمريكية لا تعرف عن بلادنا شيئاً تدرسنا موضوع المجتمع العربي؟ من أباح لها أن تدرسنا موضوعاً يخصنا نحن؟!، قامت ضجة، تدخل رئيس الجامعة، ألغيت المادة من المنهاج الدراسي، اختفت المحاضرة الأمريكية من الكلية و من حياتنا الجامعية، لا نعرف أين ذهبت؟، قال زميله الآخر: قد تكون ذهبت للعمل في مكاناً تعلم فيه شيئاً آخر! سأله زميله: لكن ما هو ذلك الشيء الذي تعلمه؟ قال المتحدث: (لا يعلم ذلك إلا الله و الراسخون في العلم)، و قاموا و هم يضحكون، دفعوا حسابهم و غادروا المقهى.
3- الحقيقة
شعرت من حديث المدرسين بالفرح، ابتسمت في داخلي، ضحكت، ازددت ثقةً بنفسي، كنت على تلك الحال حين دخل شخصان إلى المقهى، جلسا في المكان الذي غادره المدرسون، عرفت أنهما معلمان، قدرت عمريهما بين الخامسة و العشرين و الخامسة و الثلاثين، طلبا زجاجتا مشروبات غازية، شرباها بسرعة، بدا لي أنهما على عجلة من أمرهما، قال الأكبر لزميله: سأجيب على سؤالك، أقص عليك سبب سفري إلى بغداد، اشتريت سيارة صغيرة في بداية السنة الدراسية، سلمتها لأخي لنقل المعلمين من المدينة إلى القرية، و العودة بهم إلى المدينة، لقاء أجور بسيطة، و كان مع المعلمين معلم خريج الدورة التعليمية التي فتحت لخطباء المساجد و أأمتها لأعدادهم معلمين في المدارس الابتدائية، كان هذا المعلم طموحاً، ذو منطق و إقناع، أقام علاقة حب مع فتاة كان يلتقي بها قبل الزواج، أخت لصديق له، كان يذهب معه إلى بيته، أقنعها بالزواج منه رغم جمالها و فارق العمر الكبير بينهما، طلب من أخي أن يعلمه قيادة السيارة، أقنعه بأن يمثل دوره بارتداء الجبة و العمامة، و يجلس هو بجانبه وراء المقود عند ذهابهم إلى القرية و إيابهم منها، اقتنع أخي بذلك، أخذ يساعده على تعلم القيادة، علمت بهذه الحكاية، لم أصدق،اخذت إجازة يوم واحد، أردت أن أتأكد، نصبت لهم كميناً خارج المدينة، ترقبت السيارة إلى أن جاءت، خرجت من مخبئي، أوفقتها، وجدت المعلم الخطيب يقود السيارة يجلس بجانبه أخي يرتدي الجبة و العمامة، لمت أخي، أنبته أمام المعلمين، أقسمت على بيع السيارة بعد انتهاء السنة الدراسية.
في بداية العطلة الدراسية ترددت قبل أن أوفي بقسمي، لم أتعود قيادة السيارة في الطرق الخارجية الرئيسية، كنت أخاف أيضاً قيادتها في شوارع العاصمة، طلبت من زميل معي كان معلماً في الجزائر، اشترى سيارة من فرنسا، قادها في شوارع باريس، استخدمها في تنقلاته في الجزائر، أن يوصل لي السيارة إلى بغداد، على أن أتحمل جميع مصروفاته، وافق على العرض، سافرنا سويةً و كان معنا خالي، كان خالي صادقاً مع نفسه، مخلصاً في سلوكه، معروف للجميع، أحب امرأة واحدة في حياته، بعد زواجها من غيره، بقي مخلصاً لها و لم يتزوج غيرها، عرضنا السيارة للبيع، جاء شخص لشرائها، أعجبه شكلها لانها موديل قديم، فحصها من الخارج دون أن يقوم بقيادتها، اتفقنا على السعر، طلب مني قبل أن يدفع المبلغ أن أبين نواقصها لشراء ما تحتاج من أدوات وتصليحها لتكون صالحة للعمل منذ البداية، أخذت أعدد له بعض النواقص و ما تحتاج من أدوات بسيطة كان خالي ساكتاً يستمع إلى ما أقول، و ما أن أنهيت كلامي، قال مكملاً حديث و تحتاج إلى أربعة زلم (رجال) أيضاً.
سأل المشتري: لماذا تحتاج إلى أربعة زلم؟
قال خال: ليدفعوها
سأل المشتري مرة أخرى: لماذا يدفعوها؟
قال خالي: لأن محركها لا يعمل قبل الدفع،
نظر إلي المشتري بريبة، قام دون أن يدفع المبلغ وغادرنا مسرعاً،
قلت لخالي: بعد ذهاب المشتري: سويت (ماذا عملت)؟
قال خالي: هل تريد أن تغش و تجلب لك و لنا المتاعب؟،
سكت، تداولنا بالأمر، قررنا أن نذهب بالسيارة إلى مصلح، فحصها، أضاف لها ما تحتاج من أدوات بسيطة فعلاً، قام بتصليحها جيداً، أصبحت سيارة كاملة من جميع الوجوه، ترددت في بيعها، لكني حسمت الأمر، بعتها بسعر أعلى كثيراً من سعر بيعها الأول بما فيه أجور التصليح و قيمة الأدوات و مصروفاتنا نحن الثلاثة، اشتريت سيارة جديدة، أحدث موديلاً و أكثر سرعة، قادها زميلي المعلم، عدنا بها إلى المدينة.
قال زميله بعد أن سمع الحكاية كاملة، كانت الحقيقة سبباً في شراءك سيارة حديثة، و كان ما قاله خالك هو الحقيقة.
قال المعلم: كان ما قاله خالي هو الحقيقة فعلاً، قاما، دفعا حسابهما، و غادرا المقهى.
جاء أبي، وجدني جالساً في مكانه، قمت، تخليت عن مكانه الكرسي، سألني قبل أن يجلس:
كيف وجدت المقهى في يومك الأول؟
أردت أن أقول: أن المقهى مسرح صغير، لكنني ترددت، اعتقدت ان أبي لا يعرف معنى المسرح، قلت: إن المقهى فرجة ممتعة،
قال: و لكن فرجة بلاش (بدون نقود)
قلت: نعم
قال: اذهب تناول غذائك، و كن هنا غداً وقت الضحى، قبل ذهابي إلى النوم.
ودعته و أنا اعد نفسي أن أكون في المقهى غدا في الوقت الذي أَمر فيه أبي لعلي، أحظى و أمتع نفسي بمشاهدة مسرحية جديدة تمثل على مسرح المقهى الصغير.
التعليقات