قالت الأم و هي تودع ولدها صابر أمام باب البيت، بعد انتهاء إجازته الأولى، منذ التحاقه بالجيش قبل ثلاثة أشهر، لا تنسى أن تكتب لنا رسالة، فأجابها بحركة من رأسه دون أن يتكلم لشدة انفعاله، و استدار بكامل قيافته العسكرية و سار يقطع الطريق بخطوات كأنه بطة خرجت من الماء لتوها و أخذت تمشي على الأرض، وما أن ابتعد عنها قليلاً، التفتت الأم إلى ابنتها التي كانت تقف إلى جانبها و خطفت من يدها إناءا فيه ماء، أخذت تتمتم عليه بعبارات غير مفهومة، و تقدمت خطوتان إلى الأمام فأصبحت في وسط الطريق، و رشقت الماء وراء ولدها، ثم رجعت تقف إلى جوار ابنتها ترقب سير ولدها إلى أن غاب عن نظرها، فدخلت البيت تتبعها ابنتها، فأوصتها عدم كنس الأرض أو تنظيف البيت، و ترك كل شيء على حاله حتى انقضاء اليوم، و لما سألتها ابنتها عن السبب؟! أجابت الأم منفعلة: ألا تريدين أن يصل أخوك إلى مكانه سالما؟! أم انك تريدين أن تكنسي أثره قبل أن يصل بسلام ؟! فاغر ورقت عينا البنت بالدموع، و كادت أن تنفجر باكية، لكن الأم أمرتها أن تتماسك، و تمتنع عن البكاء، لأن البكاء فأل غير حسن بعد السفر، فخنقت البنت عبراتها و حبست دموعها في عينيها، و ابتلعتها و سكتت.
كان صابر يعمل فلاحاً مع أبيه في القرية، لم يذهب إلى مدرسة أو يتعلم، و لم ير المدينة قبل بلوغه الثامنة عشرة من العمر، جاء به أبوه إليها بعد دعوته و أقرانه من نفس المواليد لمراجعة دائرة التجنيد و المثول أمام اللجنة المشكلة فيها لمعاينتهم و فحصهم و تزويدهم بدفاتر خدمة و إعلامهم موعد سوقهم إلى الجيش لأداء الخدمة الإلزامية، فوجدت اللجنة أن قدمي صابر كانتا مسطحتين من الأسفل (فلات)، فقررت إحالته إلى اللجنة الطبية العليا في مستشفى الرشيد العسكري في بغداد، لفحصه و تقرير مدى صلاحيته للخدمة، و زود بكتاب من دائرة التجنيد للمراجعة.
لم يدع الأب ولده أن يسافر لوحده، لأنه كان يعرفه جيداً، حزم أمره و سافر معه، و بعد فحص ولده من قبل اللجنة الطبية العليا، وجدت اللجنة أنه لا يصلح لأداء الخدمة العسكرية مسلحاً، لكنها لم تستثنيه من الخدمة، و اتخذت قراراً بسوقه لأداء الخدمة غير مسلح، و إعادته بكتاب مرفق به قرارها إلى دائرة تجنيده، فأعطي دفتر خدمة و حدد موعد سوقه في بداية شهر شباط من السنة الجديدة مع أقرانه الذين استلموا دفاتر خدمة قبله، فقرر أبوه ترك مهنة الفلاحة بعد إكمال السنة، لأنه لا يستطيع أن يقوم بالعمل وحده، و انتقل إلى المدينة في بداية السنة الجديدة، و أخذ يعمل في قطاع البناء هو و ولده.
سيق صابر مع أقرانه في الموعد المحدد إلى مركز تدريب في وسط العراق، و بعد وصولهم تسلمهم المركز، وزعهم إلى سرايا و قسم السرايا إلى فصائل لتدريبهم على حمل السلاح و استعماله، عدا صابر فكان عمله في مطبخ المركز لكونه غير مسلح، و حدد عمله من قبل رفاقه الأقدم منه، تقشير الخضروات و البصل و تقطيع اللحوم، و غسل قدور طهي الطعام و تنظيفها، و المساعدة في تفريغ مواد إعاشة المركز.
وجد صابر أن المطبخ مكان ملائم للعمل، لأنه أتاح له تناول الطعام الذي لم يكن يتوفر له سابقاً، إضافة إلى تناول الكمية التي يرغب بتناولها، فأطاع رفاقه بلا تذمر أو اعتراض، فأحبه الرفاق و عاملوه بالحسنى، و شاركوه الطعام الذي كانوا يطهوه بشكل خاص في بعض الأحيان مما كانوا يقتطعوه من إعاشة الموجود، و زادوا له الكمية بعد أن عرفوا حبه للطعام، و مما يحكيه صابر عن نفسه أنه شرب في حفلة أقامها المركز لمناسبة وطنية أربعة و عشرون قنينة (درزن) سفن أب غير مبردة، لأنه لم يذق ذلك المشروب من قبل، و ظن رفاقه أنه لا بد أن يصاب بمرض، فاستعدوا و أصبحوا في حالة إنذار، لأخذه إلى طبابة المركز، لكنه خيب ظنهم و لم يصب بأذى و لم تظهر عليه أعراض المرض، فضحكوا و أخذوا يتندرون بما حدث و يلاطفونه، فيضحك دون أن يرد أو يغضب، فأحبوه أكثر و وفروا له من الطعام المتاح ما يريد، و قد أدى تناوله كميات كبيرة من الطعام إلى زيادة وزنه في فترة قصيرة، و أصبحت مشيته مميزة لافتة للنظر، كما أن حبه للطعام أدى إلى رفضه التمتع بإجازاته الدورية، مما لفت نظر الضابط المسؤول عن الإعاشة، فاستدعاه لمعرفة السبب، و بعد استجوابه عرف الضابط حب صابر للطعام و خوفه من صرف رواتبه أو ضياعها أثناء السفر، و توجسه من السفر وحده، فأشفق عليه، و أعطاه مبلغاً من المال من جيبه الخاص لتغطية أجور السفر ذهاباً و إياباً و للمصاريف الأخرى، و أخفى له رواتبه في جيب خفي داخل ملابسه، و منحه إجازة، و أرسل معه جندي بإجازة إلى بغداد أوصاه أن يبقى معه حتى يصعد إلى المركبة المسافرة إلى مدينته، و ألا يتركه إلا بعد انطلاقها.
وصل صابر إلى مركز التدريب بعد انتهاء إجازته، استقبله رفاقه في المطبخ، فرحوا بقدومه، قدموا له الطعام، سألوه: كيف قضى إجازته؟ أخبرهم أنه قضاها في العمل، و أضاف و هو يضحك أنه كان يفتقد إلى طعام المركز الجيد أثناء إجازته، فضحكوا معه و أخبروه أن عشاءهم اليوم سيكون دجاجاً مشوياً، لاقتطاعهم عدد من الدجاج المجمد من الموجود اليومي لشوائه عشاءاً لهم، استدعى ضابط الإعاشة صابر، اطمأن من حديثه معه، أن صابر يمكنه السفر وحده و التمتع بإجازاته في الأيام القادمة.
تذكر صابر بعد العشاء ما أوصته به أمه، طلب من رفاقه أن يكتب له أحدهم رسالة، أحضروا له ورقة و مظروف، أخذه رفيق له إلى أحد الجنود المشهور بكتابة الرسائل، طلب منه أن يكتب رسالة من صابر إلى أهله، يحملها أشواقه و حبه، و يرسل لهم سلامه و تحياته، أمهلم الجندي إلى الغد، استلم صابر الرسالة، رفض أن يرسلها أحد عنه بالبريد و امتنع هو عن إرسالها، اعتقد أنها سوف لن تصل، لأن موزع البريد لا يعرف أباه، و لن يهتدي إلى بيته، احتفظ بها عنده، أخذها معه بعد تمتعه بالإجازة، استقبلته أمه بعد وصوله إلى البيت، أخذته بالحضن قبلته، عاتبته على عدم كتابة رسالة لهم، أخبرها أنه كتب لهم رسالة...
قالت الأم جازمة: لم نستلم أية رسالة منك!
قال صابر: لم أرسلها
قالت الأم: لماذا؟
قال صابر: خفت ألا تصل إليكم
قالت الأم: أين ذهبت بها؟
قال صابر: إنها معي، و مد يده إلى جيبه و أخرج الرسالة، فتهلل وجه الأم فرحاً، و أسرعت إلى بيت جارهم و استدعت ولدهم نائل الذي كان في الصف المنتهي في مرحلة الدراسة الابتدائية لقراءة الرسالة، أجلست الأم نائل بينها و بين ولدها، بدأ نائل بقراءة الرسالة، فأخذت الأم تبكي، و بعد الانتهاء من القراءة سكتت الأم و انتقلت عدوى البكاء إلى ولدها صابر..
فسألت الأم ولدها عن سبب البكاء؟!
أجاب صابر إنني أبكي على نفسي!
سألت الأم ولدها باستغراب: لماذا؟
قال صابر: إنني لم أكن أدري أن بي كل ما جاء في الرسالةrsquo; من الآلام و المكابدة و المعاناة و العذاب بسبب الحب و الفراق إلا بعد قراءة الرسالة، و سأل أمه: هل يمكن أن يكون بي كل ذلك من دون أن أشعر به؟ لم تجب الأم على السؤال، و طلبت من ولدها أن يكف عن البكاء، إلا أنه لم يسكت، و أخذ ينتحب بحرقة، فاحتضنته و وضعته في حجرها و أخذت تهدهده كما تهدهد الأم صغيرها قبل النوم.
تعجب نائل مما حدث، و سأل نفسه: ماذا سيكون لو أحب هو في المستقبل؟ لم يجد جواباً على سؤاله، لكنه تذكر جزءاً من مقطع صغير من أغنية للمطربة فيروز يقول: (كان يبق الحب جنون، يخلص بحرف النون)، أخذ يردده و خرج تاركاً الأم تهدهد ولدها ليكف عن البكاء.