دائماً ألعب بحجر نرد، بين أصابعي. وأنا في الحمام، أقوم برمي الحجر على رغوةٍ بيضاء تبدو غيوماً تتجمعُ حول عنقي، تتحركُ بتؤدة تثير فيَّ رغبة كامنة بالقفز من البانيوه إلى المرآة، كي أتأكد أن الرغوة ليست أصابع بيضاء، تلتف على عنقي في لحظات خاطفة؛ كي تنال مني، إلى الأبد!
أما وأنا في السرير، أداعب حجر نرد كبير، ومصنوع من الفلين معلق بخيط مصيص في مسمار، مدقوق بإحكام في السقف. المسمارُ يغوصُ جيداً، في الدهان الأبيض، ويضغط بلا توقف برأسه المدبب في صمت السقف، ويشد بمادته الحديدية، الثقل المعلق بالخيط. حيث تندفع يدي بضربات متلاحقة على قطعة النرد، كل رمية، تحدث دوراناً هستيرياً لحجر النرد.. من ثم يأخذ وقته حتى يصل إلى حالة من الثبات الجزئي، والظاهري.
غالباً ما أتجاهل أن الحجر، بستة أوجه. كل وجه تطل منه نقاطٌ سوداء، يكمنُ في كل واحدة منها احتمالات لا أستطيع الفكاكَ منها، لأنها تحيلني إلى بؤبؤ عينكِ، وأحياناً تبعث فيَّ حزناً أستغربه،يطلُ بلا توقف على وجهي. أشعر في تلكَ اللحظ أن وجهي مرآة لتلكَ النقاط، تنعكسُ صورها على جبهتي، فوحدة أكاد أشعر بطنينها فوق حاجبي الأيسر، وأخرى ترقصُ بين الحاجبين، مثل موضع رصاصة قديم، وفاحم اللون. أبدو أكثر غباءً عندما أتفحص تلك الأوجه الستة طوال ليالي الشتاء الطويلة، متناسياً الكتب المرصوصة إلى جانبي، ومفكراً أحياناً بالنقطة السوداء التي تضعها الهندوسيات على جباههن، وأفكر هل هي احتمال الرقم واحد في حجر النرد.
في أحد الأيام فاجأني صديق، قديم بزيارة غير متوقعة، إلى غرفتي مباشرةً، حقيقةً لا أعرف كيف اجتاز المنزل من أوله إلى آخره؛ كي يهتدي في النهاية إلى مطبخ قديم، أستعمله الآن كغرفة، وأزعجني أنه اكتشف مدى قرب غرفتي إلى الحمام، حيث أسمع ضربات السيفون المتلاحقة، والضراط الذي لا يتوقف، وكل طقوس الإخراج اليومي لأفراد العائلة، ليلاً، ونهار.. وبلا توقف، وأحياناً ينتابني شعور مؤلم جداً، يؤكد أن موسيقى الإخراج هذه ستستمر إلى الأبد، واستطاع أن يكتشف بحذق شديد مدى، العلاقة بين حجر النرد، وفكر ةالهرب من الأصوات الصادرة عن تلك الطقوس المتكررة على طول النهار.
لقد كسرَّ كل الإدعاءات التي كنت أتلوها من حين إلى آخر على مسامع الأصدقاء في السهرات التي تمتد حتى الصباح، عن احتمالات حجر النرد، ومدى علاقة الأوجه الستة، بالحالات، والنقاط المركزية في الجسد، وآخر ما تعلمته عن الكاماسترا والتطبيقات الكثيرة، للنقاط الموجودة على جسدكِ، مثل شامات صغيرة، والتي بلغت حتى الآن مضاعفات العدد ستة، والتي أكتشفها كوجوه جديدة لحجر النرد على جسدكِ.. أخيراً استطعت طرد صديقي بلباقة، وعدت إلى حجر النرد كي أتأكد أن ما يحدث لي ليس هرباً من تلك الأصوات المزعجة، بل هو لغة حقيقية بين جسدك واحتمالات النرد. المختلفة أما عن تلك الاحتمالات، فهي حقاً لا نهائية، فبإمكانكِ مثلاً أن تدركي بكل بساطة أن الإتفاق على نتيجة ما هو ما يحدد مدى الربح والخسارة. أما إذا تعاملتي مع حجر النرد ككائن مستقل له إراد أقوى من إرادة الأصابع فهذا يعني أنكِ في ورطة حقيقية.
تخيلي عندما يسقطُ حجر النرد على الأرض، فهو بحكم شكله الهندسي، يسقط على أحد وجوهه الستة، والذي يحتوي رقما من واحد إلى ستة، والسطح العلوي يكونُ هو النتيجة حسب ما نتوقع. إذا تجاهلنا الحالات التي يمكننا اعتماد قاعدة الحجر فيها هي النتيجة، أو وجهه الجانبي من جهة اليمين مثلا أو اليسار، أو أن تكون النتيجة مثلاً هي حاصل جمع وجهين معينين، أو قسمتهما أو طربهما، كلُّ هذه الحالات نتائج يمكننا الاتفاق عليها، قبل قيامنا بتلك الرمية.
لكن ماذا إذا رمينا حجر النرد، فوق الماء ؟!
ماذا لو كانا حجرين ؟!
كيف سنتفق على النتيجة... الحب هو رمية حجري نرد فوق الماء. دون أن نتفق مسبقاً على قوانين حساب النتيجة، ودون أن يكون الربح أو الخسارة مقترنان بالرقم الأكبر أو الأصغر. ذلك وغانيك عن أن الرمية ستكون بيد واحدة، أصابعها مأخوذة من كفينا.
إذا شئتِ بإمكاني، أن أقول أشياء كثيرة عن تلك اليد، فمثلاً هي يد، لا هي لأنثى ولا لذكر، هي كذلك ببصمتين. كل إصبع فيها يتكون من ثلاثة عقل، عقلة من إصبعكِ، وعقلة من إصبعي، وعقلة مخلوطة من مادة إصبعي، ومادة إصبعكِ. يمكنكِ أن تتخيلي أيضاً شيئاً آخر، وهو أنَّ الإبهام مثلاً يتكون من عقلة من السبابة، وأخرى من الخنصر،وواحدة مزيج من الوسطى والبنصر، وهكذا يمكنكِ أن تتصوري مزيداً من الاحتمالات.
أنتِ لا تتصوري بالطبع أن يكون الحجر ثقيل مثلاً، بحيث أن لا تقوى اليد على حمله، وفي هذه الحالة يمكننا ركله بأرجلنا، وإذا كان كبير إلى حد خرافي مثل أن يكون بحجم برج إيفل مثلاً. كم من الوقت سنستغرق في الرمية الوحدة، وكم من القوة نحتاج لرمية واحدة فوق سطح ماء البحر، وكم يبعد عنا الشاطئ. أنتِ لا تتصوري مدى الضجة التي سوف تحدثها رمية كهذه... رمية النرد شيء عبقري، أحياناً أشعر أنني رمية نرد، متولد من تحرج بعيد لرمية نرد إلهية وكبيرة على بساط الفضاء.
ربما كنا حجرا نرد، اجتمعنا برمية واحدة، على طاولة زهر في مقهى إلهي كبير، يلعب حول واحدة طاولاته إلهان متقاعدان، يدخنان النرجيلة، ويتابعان نشرة الأخبار، أو يستمعان إلى واحدة من أغاني أم كلثوم.
أنتِ لا تتخيلي أيضاً أن يكون حجر النرد صغير بحيث أننا لا نستطيع رؤيته بالعين المجردة!
أنتِ لا تتخيلي حجر نرد مرسوم عليه صورتكِ من كل الوجوه!
والأصدقاء لا يدركون أيضاً، ولا يتخيلون أن ما أرويه هو حقيقةَ ما أشعر بهِ، وما يشعر بهِ كل من يدخل الحمام هذا الصباح!

شاعر مقيم في غزة
[email protected]