كنت منهمكا في القراءة. دائما أنهمك في قراءة الروايات الحزينة، لأنني أشعر بالأسى عند القراءة، ولي صراع ضد قدرتي على تحمل عذاب الروح الدائم، ولي نزاع يسيرني في تخبط ظلام الدنيا، إذ تكمن في راحتي قراءة مثل هذه الروايات، ونفسي تنجذب بسرعة إليها، فهي إرادة صريع الأسى، والقلق، والعذاب، فالصورة الحزينة التي أجدها في الرواية تلقي ظلها علي مباشرة من كل أبعادها، وعمقها، وأتلظى في لهيبها، وفي داخلي يتكسر حوار مع الأسى، وينحت القلق الدائم المخاوف على الإنسان في أغواري، تلك تأخذني إلى أعماق الكون، وفي خلق الإنسان، والجمال الكوني المهدد بالفناء، فالحزن يستحيل أن يغيب عني في أجواء الموت، والرعب، التي تمر بها بلادي، (سامحني أيها الإنسان، لا يمكنني أن أغادرك) هذا ما تعلق في ذهني لأنني من بلاد لم يفارقها الاستبداد، ولم تفارقها الحروب كأن الرؤيا تخاطبني بإشفاق.توقفت عند السطور السوداء التي تتحدث عن الفراق و الألم، فأبحرت إلى المواكب المقامة على أرواح الموتى، والبقع الداكنة في المياه، وعودة المطر إلى الانهمار.لم أعد أسمع سوى زأرة خائفة: (الجامع ينهار أو المسجد يشتعل)،صار الشقاء شقائي من غير انقطاع، فالبيوت تنهار، وتوزع الدم يزين التراب، هذا شأن خطر، الدم نزف مع رعشة الدموع منذ قرون مضنية التي ابتلت بها أعراس تموز والآلهة المنسية عشتار، وبقايا أطلال أجد فيها انتمائي بالرغم إنها تمتد إلى أقدم زمان. أسند رأسي إليها، وأغمض عيني في حضنها راغبا في البكاء، إنها تسجن روحي، وتأسرها مستنبطا: إن الفولاذ لا يسقى بدون نار، وإن الروح لا تصفى بدون أن تزحف إليها الأحزان.الآن أحب أن أقرأ هذه الرواية إلى آخر سطر، وأنا أعلق عيني في الحروف والكلمات.
رن جرس التليفون،ارتجفت، وأغلقت الكتاب الموضوع على الطاولة، ثم وقفت صامتا، حائرا، ألقي نظرات متفحصة على خارطة عالمنا المعاصر المعلقة أمامي، أبحث عن جامع سامراء الذي فجر، والمساجد المشتعلة، وأبحث عن البيوت المنهارة، لا أدري كيف أمسكت قبضة التليفون، وقلت:
_ ألوhellip;
_ترررررر
رجعت إلى مكاني متذمرا، فتحت الكتاب، وواصلت القراءة بشغف كي أحلق مع انهيار آخر لعالم آخر، وذهني يصارعه زمن ضاغط يقوده إلى نهاية القرن الواحد وعشرين، لم أرهق نفسي بالسؤال: (لماذا ترددت جوليت في قتل طفلها ؟). رن جرس التليفون، فنهضت، ومشيت بخطوات وئيدة، وأنا أنحني أمام أشباح السنين،التي أخذتني إلى السراديب المظلمة حيث يحتمي بها الأحياء خوفا من ظلال الموت. أمسكت قبضة التليفون بسرعة وارتباك، وأنا أكرر:
_ ألوhellip;.
_ ترررررر
عدت أدراجي إلى مكاني، وواصلت قراءة الرواية مداعبا الأوراق، متابعا أولئك النائمين على عتبات العمارات، والشحاذين المنتشرين في محطة المترو، ومشاهد العنف، وأنا لم أر أمريكا، وجوليت المرمية وحيدة مع حقيبتها في عبورها الأبدي. رن جرس التليفون، فنهضت بانفعال، وأنا أردد مع نفسي: (الخطر يهدد الجميع، الانهيار قريب)، أمسكت قبضة التليفون، وقلت بغضب:
_ ألوhellip;
_ أنا جوليت من أمريكاhellip;
_ جوليت !
انتهيت من قراءة رواية طفل cnn، ومطر الربيع يتساقط أمامي، ينهمر بشدة خارج نافذتي، وأنا أضرب غيوم سوداء من الحزن على نفسي، أرى ملامح وجوه كئيبة، تأبى أن تفارقني، وأنهمر أيضا في تلك الأصوات التي أتتني من بعيد، أصوات خائفة من انفجارات، أصوات رجاءات ودعاءات، تلك الأصوات هزت في خيالي سعف النخيل، وطفت بوداعة فوق مياه الرافدين، أجل، لم تخبرني جوليت، ولم يرن جرس التليفون على الإطلاق، والحزن لا يتركني أبدا كأنما أنا الحزن حيث استمتع بقراءة الروايات الحزينة.