كانت الإبتسامة الحذرة تغلف وجه الحاجة نجيبة الخريفي وسط احتفال ملحوظ تمارسه الرؤوس المصغية لوقع الكلمات وهي تصف ماحدث لها في سوق المدينة، كانت تتكلم أحياناً وتهذر في أحيان أخرى، وهذرها يوسم كلماتها بمسحة صدق في زمن تشظّت فيه الأقاويل والحكايات، بات من الصعب الحصول على يقين ثابت عن مايحدث في الشارع المجاور، وفي خضم القال والقيل صار يتعذر على من يفكر في الذهاب إلى السوق تحديد أمكنة الخطر الوافد مع أصوات العربات وصيحات الباعة المتجولين الذين تناما الحدس في ذاكراتهم وجعلهم أحذر من طيور الشرق النافرة كل الوقت، كانت نجيبة تسرد حكايتها مستغلة خدر الجمهور الذي بدا منشغلاً في نسج حكاياته اليومية، رؤوس مدورة بوجوه كئيبة غير مكترثة بأسبقيات الحديث، لغط وجمل مبتورة تتداخل مع قحّات تغادر صدور كسّرها النيكوتين والقهر، كل رأس يتوسل البقية أن ينصتوا له لحظات كي يحصد كل مافي كرة رأسه قبل خواء الذاكرة، قبل أن تغادر الأمكنة خرائطها وترتحل إلى وجهات مجهولة.
كانت نجيبة تنسج حكايتها كما لو انها تروم مغادرة ذلك الاستهلال الممل الذي أفقد جمهورها رغبة الإستماع، همست مع نفسها: ترى هل أخطأت البداية ؟ اللعنة ثم تمتمت مع رنين سعال قاحل اخترق قصباتها، كانت تفكر في سرد حادثة السوق القديم التي كانت الشاهدة الوحيدة على وقائعها قبل أن تغوص أصابع جافة في لحم كتفيها وساقيها أثناء رميها في سيارة اسعاف هربت مذعورة من صخب المكان، كل الذي تعرفه وربما كل الذي تتذكره صوت علبة فارغة كان يطارها طيلة الساعات الباردة، الساعات التي قضتها متخفية في حفرة رمادية خلفتها سيارة منتحرة بجمع عمال بناء قرب ساحة المدينة عند فوهة السوق القديم، تكلمت كثيرا عن حالة الانتحار في هذا البلد الذي تصفه بالبلد الملعون، وتوقعت المزيد من النواح والعويل على هذا البلد المشؤوم الذي بدأ يغادر أحياءه وحواريه.
كانت بين الأجساد والعربات وأصوات الباعة المتجولين حينما بدأت المدينة تبتلع أحشائها، لم تسعفها التفاتة بائسة لوجه الرجل الذي يقف متخصراً تتقاطع فوق صدره أشرطة رصاص صفر تلتمع مع انكسارات أشعة شمس غريبة وفزع شاحب يهطل هنا وهناك، أحسّت بالرجفة تتسلق أطرافها مثل شتاء قارص ووحشي، كادت رقصة أطرافها المهزومة تكشف عن جسدها وتفضح أمرها لولا عباءتها السوداء التي أخفت ملامح الأنثى فيها، كل الأشياء غادرت امكنتها، وربما الأمكنة هي الأخرى تشتت ولاذت ببقايا قبيلة عاد فرسانها للتو من غزوة خاسرة، أحسّت بروحها تندس كذؤابات دخان خافت بين ضلوعها، ولا حركة تشيدها الأطراف الذابلة، الصمت وقرقعة الخواء في صندوقها تتناهض متحاملة خشية عويل يفجع حياتها الآيلة للإندثار، خطوة أو خطوتين تفصلها عن تلك القامة التي تزج بالسكون في علب صخب مشوّهة، ماحدث في نهار الساحة المتربة كان حدث عشوائي كانه شريط سينمائي قصير جداً، كان عليها أن ترمم يقينا صارما وتستجمع قواها لسنوات جافة أتت بها لهذا التاريخ الدامي كي تسرد الحكاية بلغة لاتوحي أن ما حدث كان حفلة تنكرية سخيفة أفسدت عليها نهارها الشرقي الغني بأحلام زيارة قريباتها في منطقة السوق القديم، كل شيء بدا مفجعاً، رؤوس بشرية تقطع وأحشاء تنسكب في فلاة الشارع المرسوم بقلم كرافيت منهك، حدث مهمل، ولا فضول يشكل نأمة استنكار، اختفى حس البوح في تلك الساحة أمام وطأة الخطى الثقيلة التي تسفك الدم والصراخ بسكين صدئة، كانوا مجموعة من الملثمين احتلوا الساعة ساعة ضحىً ونحروا من الناس مايكفي وفروا مثل ذئاب تلعق نشوة حارّة، هي لم تؤكد أنهم ثلاثة، بل أشارت في هذرها الى كتيبة من الضواري أجهزت على الناس وراحت تدمر وتدمر، وبعد ذلك اختفى الوضوح.
حينما لمحت نجيبة أن الرؤوس بدت مطأطأة، متثاقلة، أدركت أن صوتها ماعاد قادراً على تلمس صحوة خبيئة في ذاكرة أحد، التفتت وهي تبتسم علّها تجد من يشاطرها ملامح ابتسامة مشحونة بالصراخ، ابتسامة تلوذ بنشيج حاد يخترق كل سنينها وتواريخها المعرّفة في ذاكرة جدّتها حكايات وأساطير أنتجتها ذاكرة الخوف والوجع، اكتشفت نجيبة أنهم سبقوها للإندثار في حقول الرماد والصدأ، كانت تود أن تختم حكايتها بضحكة ساخرة لتعادل بها حجم التعاسة التي زرعتها أخبار اليوم في وجوه الجلاّس، وتريح أعصابها من كوابيس الليلة المنصرمة، الليلة التي طحنت كل أحلامها الهشة وهي تركض في الشوارع العارية، كانت كثيرة التساؤل عن ذلك العري البارد الذي نشب مثل جرب لئيم في جسد وأذرع مدينتها الجميلة التي كانت تصفها بصبية مدللة تلهو مترفة بين بساتين الرمان والبرتقال وتغفو كل ليلة هانئة متوسدة أذرع نهر ديالى المتعملق في ارتفاع حوافه وشطآنه، بدت الدروب خاوية وخالية، لاصيحات، لا عويل، لا هسيس ينبيء بثمة حياة تبدد هذا الغموض الآتي على وضوح الأشياء والأمكنة، راودتها فكرة الرحيل، الرحيل المعنون إلى حواف المجهول، إلى جغرافية مبهمة لاتشبه جغرافية مدينتها الجميلة، رأتهم يحملون أسمالهم ويبتعدون، منهم من عبر الشارع الرئيسي وغاب في دخان النهار ومنهم من التحق بمعسكرات العشيرة التي نهضت من كهوفها بعد غياب طويل، ارتحلوا بين منحنيات أجسادهم التي توزعت بين أحياء التاريخ والمؤرخين، منهم من أدركه الغروب في متاهة الصحراء يعلّق عيونه ببقايا سراب خلّفته خيول الفرسان التي أحاطت بقامة المهدي المنتظر، وبقيت ترقب الرمال وهي تدفن القامات رويدا رويدا حتى آخر حلم مشرّد قبل شروق آخر أكثر نحيباً من أمسه.
أشعلت نجيبة سيجارتها، مع زفرة حادة هيّأة بقايا ذاكرتها لسرد أكثر المشاهد سوداوية في حياتها وحياة معظم الرؤوس التي تمارس الإصغاء والتلاشي في آن، تشعر أنها لم تزل تحتكم على قدرة العجائز الوقورات القادرات على نسج الحقائق من خيوط الحكاية، رمت نظراتها في متسع الإيوان المفتوح، كانت صورة الأمس تتدلى بين أهداب الأفق المترب، وراء الشارع وبين الدروب والأزقة، كانت الحياة تتدفق بين سيقان الصبية وهم يلعبون كرة القدم، وفوق السطوح مجاميع من الطائرات الورقية تهاجم أطواق الحمام الازرق، بدت المشاهد متآلفة متكاملة، الحياة تتشكل فوق شفاه نجيبة وهي ترتجف لحظة ضعف، بين رموش تتراقص لوميض آت، خلال تدافع أجساد رخوة قي قلب الساحة، أشياء هنا وهناك، غيوم ومطر، زرع وحصاد، لحظات تلد أخرى وأصوات تقتحم الهمس، هناك في عمق الساحة كانت حفر كبيرة تتسع وتتسع لتستحيل مقبرة جماعية، وماعادت هناك عربات محملة بالبطاطا والباذنجان، ولارؤس تملأ سماء المدينة بالوجود، حدثت فجوة رمادية التهمت الأشياء والأمكنة، حتى رزنامات الزمن الشمعي مزقتها أحقاد الرصاص وأسنة حراب المتخاصمين مع الحياة، ذبلت رموش نجيبة مع آخر زفرة دخان أغرقت مساحة وجهها، بيدين مرتعشتين بددت سحب الدخان، ومدّت رقبتها لتستفهم الوجوه المتحلقة حولها، لوهلة أدركت أن الفراغ اتّسع في غفلة من زمن شمعي مستفز وابتلع الرؤوس والأجساد، حملت جسدها المتداعي وخطت بضع خطوات صوب البوابة الحديدية المطلية باللون الأزرق، كانت الدرفات متباعدة، صوت الريح يجري بكثافة في الممرات الضيقة، ولانأمة ترشد حدسها لبقايا رغبة في سماع كلماتها التي بدت مثقوبة المعاني، الرماد والغموض أطّر المشهد الكرافيتي لمنحنيات المدينة، استطالت رقبتها واستطال استفهام غاضب في ثنايا ذاكرتها، شوارع عارية، دروب تحتكم صافرات انذار ومكبرات صوت، رفعت رأسها وفي فمها سيل من الشتائم، لاأحد يستنكر عليها نشيد البذاءة في كلماتها الأخيرة، دارت حولها، تحرت الشوارع الفرعية وساحات الأحياء الشعبية، بدت تتلاشى، تتراجع، صوت العلبة الفارغة كان سوط الريح القاسي الذي بعثر وقارها، فماعادت راغبة في اكمال حكايتها بعدما تأكدت أن الشوارع والبيوت باتت عارية من كائناتها.
التعليقات