احمد ثامر جهاد
فأنا إذن
ذبابة سعيدة،
إن عِشتُ،
او إن متُّ.
وليم بليك

بالمعنى النقدي ليست هذه السطور قراءة لفيلم المخرج مارتن سكورسيزي الشهير ( سائق التاكسي ) ولن تكون باي حال استعادة لمصير ترافيس بيكل بطل سكورسيزي في كتابة مراوغة.. لكنها، رغما عن خيالنا السينمائي، صورة عراقية صميمية من خزائن واقعنا اليومي.. هناك يمكن لنا ان نكتب ببوح خدر ونتقئ بروية، حيث تتجرد الحياة من زيفها وتستبدل القراءات باحداث صغيرة تختزل في معناها ما للواقع من كثافة روحية.

1 -
في طريق عودتي الرتيبة الى البيت ليلا استاجرت سيارة تاكسي من نوع كرونه بدت لي متهالكة اسوة بالرصيف الذي اقف عليه، والحياة التي اتمرغ بها. سيارة رمادية لم يتبق فيها اي شئ يدلل على هيبة اليابان، الدولة المنتجة لها، واذا نظر اليها بوصفها شبح هرم يخرج من باطن الارض، فانها لن توحي لك بشئ يتعدى تحفيز مجسات الذاكرة العراقية المفجوعة.. ثمة خطف بصري للحظة استرجاع ثمانينية :
مدينة الرطبة، مساحات صحراوية قاحلة تصطف فيها سيارات جديدة مزيتة مختلفة المنشأ، وسائل حراسة مشددة، روتين مزعج وفرح غامر بلحظة التسلم، موت مروري في طريق العودة الى البيت بالسيارة الجديدة، استعانة مؤكدة بسائق ماهر يتحمل مخاطر الطريق وطول المسافة، مع امكانية استئجار سائق محترف او الاعتماد على تطوع احد افراد العائلة لاداء المهمة، صفقات بيع سريعة على تخوم المدن او في طريق العودة الى البيت، قريبا من مطاعم الطرق الخارجية او حتى للجار المتلهف. كان دخول السيارة الى منزل العائلة العراقية يشبه حفل زفاف خجل.
بكل الاحوال كان ثمة اصرار للحكومة على منح عوائل الشهداء سيارات حديثة، لربما تخفف شيئا من هول فاجعتهم، تفتح شرارة رغباتهم المكبوتة، وتلهيهم قليلا عن الغياب الابدي للاب والابن والزوج والاخ وابن العم وابن الخال والجار والقريب والصديق والغريب وووو... ومن وحي الخضوع او اغتصاب الخيال كانت الحكومة العراقية كريمة حينذاك بمنح المواطنين هدايا يابانية او برازيلية او كورية مقابل ان يموتوا فقط!
ان يموتوا.. بصمت، ميتة غير ملحوظة.
كم من الاموات كان راغبا بميتة كهذه؟ لا ادري، لكن الاجابة ستتجاوز عدد المركبات الحية والمندثرة في هذه البلاد.
كانت الحكومة تمنح المقاتلين الاحياء ايضا سيارات جديدة، ولكن بسياقات بطيئة تشجع بعضهم خلالها على البقاء في دوامة الحرب. الا ان المفارقة التي احزنت معظم العراقيين هي ان وصول السيارات هذه الى ايدي اناس لا يجيدون السياقة ووفرتها السريعة وغير المسبوقة في مسارات الطرق الخربة، كانت قد قضت بحوادث ومسببات مختلفة على ركابها انفسهم، ليتحولوا بقدرة عجيبة الى اشلاء لحم مبعثرة بين ثنايا انهيارات الحديد الساخن ملاقين المصير ذاته.. موت على الجبهة الايرانية او موت بالآلة اليابانية الانيقة : كرونه، متسيوبيشي، سوبر، كراون، داتسن......
لا احد يتصور ان الدولة العراقية في غمرة استيرادها الهستيري للسيارات اليابانية عشية الحرب الثمانينية كانت معنية بفكرة ان قيمة السيارة المستوردة من شركة تايوتا كانت ادنى بكثير من قيمة مواطن تسفح روحه مجانا.

2 -
كريم هو اسم سائق التاكسي الذي استاجرته حينها في ليلة شتاء، رجل متوسط العمر مسحت غزارة شيبه سيماء الراحة المنشودة بلون رمادي يشبه الحياة. انسان وديع وبسيط ومحبط من تغيير الاحوال.. مثلنا جميعا.
من المستبعد جدا انه شاهد فيلم سكورسيزي، ويصعب التصور انه هجس ما دار بخاطري حينما تذكرت ترافيس بيكل، سائق التاكسي، الحائر والمضطرب والسأم من كل شئ، والذي يجوب شوارع مانهاتن بحثا عن سبب للوجود خارج مشاعر الكراهية في ليالي نيويورك الضاجة بالاضواء المشعة واللصوص والبغايا والمجانين والقذارات.
على الدوام كانت عادة الوصول الى البيت هي كل ما ابتغيه حينما استقل سيارة اجرة، لا تستهويني الاحاديث السريعة، خاصة وهي تشبه لعبة الكلمات المتقاطعة، ولكن كوني لم اتحمل فكرة ان هذا السائق هو نفسه الذي استاجرته يوم امس، احسست بحاجة لاستيعاب المفارقة ومحادثته قليلا على غير عادتي بالتزام الصمت في مواضع كهذه.
بحسب قوله كان الرجل من اهالي قضاء الرفاعي الذي يبعد ( 65 كم ) عن مركز مدينة الناصرية، اضطرته ظروف العيش الى ترك مائدة زوجته واولاده الثلاثة للعمل سائق تاكسي لمدة اسبوع في الناصرية مع استراحة يوم واحد لا تخلو من قلق مزمن، يقضيها مع العائلة التي تلتهم بايام معدودة ما يجنيه الاب الكادح في تجواله المعدني.
وقد حدثني عن خسارته لمبلغ كبير دفعه للتوسط من اجل توظيف ابنه في سلك الشرطة، وذلك تحسبا لموت مفاجئ عادة ما تدخره الحياة لمن هم على شاكلته، فعمل الابن في غياب الاب ضمانة للعائلة من افخاخ الضياع والمذلة.
ابتسمت بعد ان ايقنت انه السائق ذاته الذي اوصلني ليلة امس، وردَ هو بابتسامة مجاملة تفضح باله المشغول. قلت له مجاملا :
-مصادفة حلوة ان توصلني اليوم ايضا
-الله يخليك عمي، انت ساكن بحي الصالحية يمكن؟
-اي نعم
-حياك الله،
-يمكن ما عرفتني بالبداية، مو صحيح؟ قلت
-تعرف هواي ناس يركبون يوميا، واني ما ادير بال، لا بس هسه تذكرتك زين..
-شنو انت دائما تمر منا؟ قلت
-لا والله، بس بالصدفة شفتك تريد تاكسي.. مع انه اني رايح للبيت ارتاح
-ليش وين بيتكم
-لا، مو البيت.. اقصد...........
انقبض وجه كريم السائق وبدا من كلامه المتلعثم انه بلا بيت، ينام ما تبقى من يومه داخل سيارته الثمانينية، لم يكن يقصد البيت، انها مسرة النوم في المقعد الخلفي، حيث لا مكان ياويه في المدينة. ولكنه مجازا كان تلفظ بكلمة البيت. تباعا اخذ يحدثني بمرارة عن املنا الذي ضاع شيئا فشيئا عقب سقوط النظام حيث ساءت الاحوال وازدادت البطالة وتفشى الفساد وتمكن الموت من عود الحياة. حاولت التخفيف عنه - وربما عن نفسي - بكلمات ووعود كالتي تزدحم بها الصحف اليومية، وشعرت وانا انصت لنهايات الجمل المكرورة ببرودة كلماتي وضعف نبرتها.
توقفنا عن الكلام للحظات ولم يلتفت احدنا الى صمت الاخر. فاحسست ان رغبتي بالوصول الى البيت بسرعة اصبحت ملحة كلما تخيلته مقرفصا بمشقة، مثني الساق في جوف سيارته الموحشة. ما معنى النوم في علبة في وطن استباحه الغرباء؟
فكرت ان اي مكان ينام فيه المرء لايام متتالية سيكون برجاء شديد بيتا لغويا له، يشيده خارج قاموس الاوطان الواهنة.

3-
يوما ما تحدث بول شرايدر كاتب سيناريو فيلم سائق التاكسي عن ظروف حياته القاسية التي قادته الى كتابة هذا الفيلم : quot; فكرة سائق التاكسي كانت الاستعارة والكناية التي كنت ابحث عنها، اي الرجل الذي يحمل اي شخص الى اي مكان مقابل المال، الرجل الذي يتحرك في المدينة مثل الفار في المجاري، الرجل المحاط بالناس باستمرار ومع ذلك ليس له اصدقاء. انه الرمز المطلق للوحدة العمرانية.
كان هذا ما كنت اعيشه، كان رمزي وكنايتي. السيارة كرمز، تابوت معدني quot;.
اتذكر جيدا كيف كان ترافيس سائق تاكسي مقرف من مظاهر الزيف والسلطة والانانية في المدينة المعاصرة، حتى اعتبره البعض ردا اخلاقيا على عالم شيزوفيريني يتحول تدريجيا الى طاقة تدميرية ذاتية موجهة الى العالم الخارجي، تتوصل بحس متمرد او غيبي الى ارتكاب جريمة قتل لاصحلاح اختلال معادلة الحياة. كان ترافيس بطلا وجوديا على الطراز الامريكي. صورة اخرى لذبول الاحساس بالعالم والناس.
ولكن ماذا عن بطلنا، كريم، سائق التاكسي العراقي؟
بدا لي ان صاحبنا الذي لم يستمتع لمرة واحدة بلذة البقاء بالفراش حتى الظهيرة، يعي جيدا ان حياته التي امضى نصفها في جبهات القتال لم تنصفه ابدا. حياة جعلته يتخلى عن ولعه بالزواج ثانية من امراة شابة احبها، عن شرب حيامن الحياة بكاس شفافة، عن لذة الاستحمام كل يوم والاستمتاع بروائح الاطعمة الشهية. الرجل تعب وما عاد مستعدا لاستقبال السعادة، اية سعادة. كان يرى مثل كثيرين غيره ان فرحة الناس بالوضع الجديد قد سرقت مع عصف رياح الفوضى والفساد والاحتراب والتخلف وانعدام المسؤولية، لقد اصبحت كلها مجتمعة قدر العراقيين. لم يتبق للرجل الذي تمنى يوما ان يمتلك كل الالوان في خزانة ملابسه القديمة إلا ان يستسلم لقدره الذي اجبره على ان يقضم صمونة فارغة، بلا طعم او رائحة، معتبرا اياها وجبة عشاء مهضومة.
وحينما سالته عن ذلك؟ اجاب : احيانا اضيف اليها قطعة جبن صغيرة واسعى للبحث عن استكانة شاي تدنى مذاقها في فمي بعدما تركت التدخين. وغالبا ما اخلد الى النوم داخل هذه السيارة التي اركنها في مكان عام، بانتظار بزوغ صباح جديد.
ايعقل هذا؟ هل هذه هي صباحات العراقيين النائميين على عفاريت البترول المهولة؟ كم من السنوات على كريم ان يمضيها في شظف هذه المهنة الحقيرة ليصل الى استراحة الحياة الكريمة؟
فكرت للحظات ان كريم لا يشبه ترافيس ابدا ولا يستطيع ارتكاب جريمة قتل لاصلاح احواله، فهو مواطن مهموم ومكسور الخاطر ولا يعتقد انه يمكن ان يؤثر على القدر العراقي الجاثم ببؤس على احلامه المؤجلة. ومع ان كريم يمكن ان يموت بأي ولأي سبب تافه قبل ان يرى احفاده، سيبدو ترافيس اشد قلقا على مصيره، حتى وان كان ليس لديه ما يمنعه من سماع الموسيقى او احتساء قناني البيرة او الرقص مع حسناء جذابة.
بعد ان تجاوزنا عدة شوارع قذرة لنستدير بجوار حيطان مشوهة تحتلها صور صفراء ولافتات ماتمية، شعرت اننا نقود السيارة الى ركن مظلم، ثقب اسود يصعب معرفة حدوده، وكنا قد اقتربنا في الغضون من شارعنا، اراد كريم التوقف عن الحديث، مشيرا بنبرة هادئة الى ان الله لن يرضى ان تستمر الحياة بهذه الصورة، وتخيلت على الفور وجه ترافيس مقطبا، باحثا عن انسانيته، حالما بضمانات حقيقية لمستقبله، وجه يكافح اشباح الياس والضياع في هذه الحياة.

4-
مر اسبوع ولم اصادف الرجل في طريق عودتي الى البيت. بعدها بيومين وانا اتوجه الى عملي صباحا، مرددا بصوت خفيض اغنية لفيروز، توقفت بفضول عند جمع من الناس تجمهروا حول سيارة شرطة مركونة، يتفحص رجالها بحذر جثة رجل متوسط العمر وجد ميتا في سيارته وعلى ساقه اليمنى بقايا قطعة جبن.