زرت آثار بابل التي ظلت مجهولة لقرون سحيقة، وقد فاجأني أن أكتشف لأول مرة أن مجدنا الذي أفتخر به، قد شيد بدموع ودماء أرواح العبيد، ليعمروا بابل، وليسهموا في تشيد حضارتنا القديمة، مما حدا بخيالي أن يسيح إلى جدي الأول الذي رحت أتصوره عبدا نحيفا، ينهال عليه سوط جندي بابلي ليمزق جلده، ويجبره أن يبني مع حشود العبيد قصور ترف، ومدرجات عجيبة، وجنائن معلقة، بينما كان جدي يسقط على الأرض التي أحبها، وأحب أن يكون جذر أسلافه منها، كان يسقط وينهض، ويسقط ليمرغ وجهه بالتراب، فيهب إليه أخوته العبيد، وتتلقفه أذرعهم السمراء، لينتصب على قدميه، ويقاوم رغم ضعفه وتعبه وعطشه، وليواصل عمله تحت لهيب الشمس، وهو يسعل ويبصق دما . لم يستطع أن يتحمل أكثر، فسقط هذه المرة مغميا عليه، فإذا بالجند يقيدونه بسلسلتين من قدميه، ويحملونه بالصياح، والشتائم، والضرب، ويرمونه في عربة يجرها حصان . ذلك دفعني لأكون مستغرقا في تخيلي، لأتسلل في الليل خفية إلى سجنه المظلم، أفك قيوده، وأحرره من أغلاله، وأحرر العبيد hellip;نهدم الأسوار، نقتحم القلاع، ندمر السجون، ثم نضرم النيران في قصور الأسياد، ونعلن ثورة العبيد، ونتوج جدي ملكا على بابل وسط هتافات البهجة، فيعم الفرح، ويسود الخير بعد أن يعلن جدي بصوته الجهوري الخلاص من العبودية، فذات يوم تفاجئنا جيوش كبير الآلهة مردوخ المرعبة، وتدمر بابل، وتفتك بالناس بعد أن تعاون كهنته مع جيوش كورش الفارسي، وتنزل الخراب والهلاك على أهل بابل، وتحطم كل ما أنجزه جدي لشعبه، لم يبق أمامي خيار سوى أن آخذ بيد جدي ونهرب معا خارج العبودية الجديدة، وأنا أصغي إلى كلماته: ( الأشرار لا يتركون بابل تعيش بسلام )، أيقنت آنذاك أن هناك من يطمع ببابل ويريد دمارها باستمرار، تحدثت معه عن أشياء كثيرة، فأدركت أن البطش أمده ليس قصيرا، والحروب أمدها طويل، وكذلك أدركت كم كان البابلي يعشق وطنه،وكم يعشق الحرية على أرضهhellip; بدا لي أن قوة مجهولة تظهر وتختفي لتلحق الضرر بأهل بابل، وتنشر الجوع والأمراض والموت بينهم، هذا ما كرهته، وصار يؤذيني كثيرا، إذ كنت أصغي بانتباه دائم إلى ما يقوله جدي، وأنا أقوده بحذر في الدروب المظلمة، والطرق الخفية كي لا يكتشف أثرنا جند مردوخ . فجأة توقفت مذهولا، أحدق إلى معبد صغير وسط بستان نخيل يقع خارج بابل، حيث كنت أسمع أصواتا تضرع تدعو الآلهة عشتار لتحمي جدي من ظلم مردوخ . تقدم جدي إلى باب المعبد غير مكترث بالخطر، وهو يردد: ( يجب أن أكون مع شعبي في محنته )، دفع الباب، ووقف ينظر إلى الناس المحتشدة في قاعة المعبد، فتعالت الهتافات: ( يحيا قائد العبيد )، بعد أن رأوا جدي واقفا أمامهم، واقتربوا منه، يهنئونه بنجاته من بطش جند مردوخ، وهم يصرخون: ( مقاومةhellip;مقاومة )hellip;تركت جدي في معبد الآلهة التي أحبها، وأحرق بخوره لها، ونحر الذبائح كي تبارك حبه لها، ولكي يدوم نسل بابل، وتتوارثه الأجيال التي لابد أن تقاوم الظلم والبطش والحروبhellip;

شرودي لم يدم طويلا، فقد هززت رأسي متأسفا لانبثاق العبودية مترافقة مع بني الإنسان، وأنا أتجاوز شارع الموكب، ولأخرج من بوابة عشتار عائدا إلى وجودي ببطء، فأنسل في سيارة لأمضي إلى المدينة، وأنزل منها، وانزلق بين الناس في شوارع وأزقة بابل ولتواجهني حمرة الغروب خلف بساتين النخيل على شاطئ نهر بابل . سرت صامتا منهزما من يأسي لأنبذ تخيلاتي التي تشدني إلى الماضي القديم، لا أرى وجودي إلا فيه، مستمدا تحرري منه، لكن الصوت المنبعث من زمان جدي، أخرجني من متاهتي، ودفعني إلى حلم لأقبع فيه مكبلا بين ظلال الخضرة، وأرمي نفسي متهللا بين ذراعي عشتار، مستكينا بشذا ضفائرها، متعطرا بقبلة من شفتيها الرقيقتين، متهدجا بهمسها الذي أسمعه طروبا، ولا أرى سوى ظلال قرون في عينيها الساطعتين النجلاويتين اللتين لا يراهما غيري، فاتبعها خاضعا، ترقدني في فراشها أعوام طويلة كي أنبثق من التاريخ، ثم انبعث إلى عالمي من جديدhellip; إنها تقودني من يدي إلى معبدها، وتحلق رأسي، وتطليه بدهن آس، وترمي شعري مع جريان النهر لتنجيني من الظلم والحروب، إنها تأمرني، وأنا أمضي معها مؤمنا، مدركا، أنني أنحدر من عالمي إليها، وأشيد وراثة مجدنا الذي يكبلني، ويكبل أجيالا من بعدي، ويمارس سطوته علينا جميعا . هكذا كنت أعود وأتحرر، أو أتحرر وأعود وحدي مع عوالمي مع الوقت، أحاور زمنا سحيقا رافقته الحروب، فتولد في داخلي خوفا لا مثيل له من الحروب الدائرة، فكنت أخشى أن نخسرها فنصبح عبيدا عند المنتصرين، أو ننتصر فيها فيتحول الآخرون عبيدا عندنا، هكذا بدا كرهي لكبير الآلهة مردوخ سيد الحروب، وبدأ يتفجر في أعماقي حب للآلهة عشتار . سرت بائسا تحت رذاذ المطر لأواجه والدي عند عتبة الباب، وألتقيته بصمتي، فبادر إلى سؤالي: - أين كنت ؟!
: - زرت آثار بابلhellip;
: - ألم تسمع بانفجار سيارة مفخخة، قتلت مئات من الناس ؟!
: - سمعت دويا هائلا hellip;
: - لماذا لم ترجع إلى البيتhellip;تركتنا في قلق كبيرhellip; ؟!

دخلت البيت مبحرا في عصور سحيقة واختفيت في فراشي، يأخذني سبات أعوام، أصحو في زمن آخر، انفصل عن دنياي، أتلقى ما يوحي لي أن الأيام ليس في مستقرها، فتختلط بتراجعها وتقدمها، ويتغير مجرى التاريخ، لتتجلى لي عشتار، تخلو وتنفرد بي، وتبلغني بالقيام، وترك سريري . نهضت مرتبكا خاشيا دون أن أرى عشتار، أو أسمع أمرها، فتسللت إلى خارج البيت، ووقفت عند عتبة الباب، أتأمل النهر المدثر بالظلام الهادر في جريانه، هذا أرجعني إلى حكايات جدتي المتوفاة التي حذرتني دائما من غضب النهر إذا كثر الظلم، وأوصتني أن أتجنب هيجانه، أنه خطر، خطر جدا، لكن هيجانه لم يفزعني على الإطلاق، لم يفزعني بعد أن كثر الظلم، ولم يفزعني تحذير جدتي أن يفيض النهر، ويغرق المدن والبساتين بأيام سبعة، بل ما كان يفزعني هو أن أكون عبدا، وأن لا أرى طيف عشتار، فوقفت كما يقف الآلاف من البشر، وهم يتأملون الظلمة أثناء صخب الحروب، كنت أحاول أن أكتشف نفسي، وأكتشف ما في هذا الزمان وذاك، فانطلقت محاولتي أن أنشد شعرا، لأن جدي الأخير كان يلح علي أن أكون شاعرا مثله، وكان يلح علي أيضا أن أتأمل، وأحلم، وأحلق إلى النجوم . هكذا فقط أستطيع أن أصبح شاعرا مثله كما يعتقد جدي، ولهذا أردت أن أكون شاعرا في هذه الليلة الفريدة، وأواصل بحثي عن عشتار، فانبثقت مني الكلمات تخاطب النهر، وتناجي عشتار حتى انتهيت من قول القصيدة عدة مراتhellip;وبعد لحظة سمعت صخبا فتأهبت هلوعا صبورا لألبس، وأساطير الأولين، ولأدرك ما لا يدركه الآخرون . تقدمت إلى النهر، فتوارى عني لون الأرض السماء بلحظة مذهلة، وتعلق بوجهي ضوء خاطف سريع . نظرت أمامي لم أر شيئا، عصرت عيني، لم أجد دمعا، بل وجدت أن الحلم اكتمل في عيني، hellip;رجعت إلى البيت تحت قصف الرعد، ووميض البرق، ووابل المطر لأطرد عني شريكا خفيا hellip;رجعت إلى وسادتي، ونمت لتأنس عيناي برؤية طيف عشتار كأن ليلي ليلها، وتقيمني ثانية من رقادي، وتهلهل وجهي بابتسامتها، وتعتز نفسي عجبا ولأسمع أيها النائم، انهضhellip;
كان هذا في غبشة الفجر، إذ وجدت نفسي أمسك آلة الحلاقة، وأتقدم ببطء إلى النهر، وأقف عارضا نهاري، أرفع بصري، وأمده في عرض السماء بينما الفجر يتمطى وينبسط بياضه فوقي، وعلى النهر الفائض .برهة تتبع برهة من الزمن، تتراكم، وترتعش يداي لترتفعا فوق رأسي، وتتفرد أصابعي، وتطرد خواء وهن السنين، ويسترخي الشعر المنفوش في ظل زحف الغيوم، وها أنا أسمع خفقا لأجنحة طيور مزغردة كأنها تحرر أسري، وأنا أحلق شعر رأسي بنفسي، وألملم تساقطه على الأرض، وأرميه في النهر، وأتابع اختفاءه، غسلت رأسي بماء النهر فتسرب وخز برد إلى جسدي، وتقاطر الماء على وجهي لاهيا غافيا على صدري hellip;وأنا أتمسك بعبوري عصور بابلية كما أراد جدي أن أصبح شاعرا .