سقطت طروادة، ودمرت بيد الإغريق بعد حرب دامت عشر سنوات، وقتل ملكها فريام، وولده هكتور، وكذلك باريس الذي أغوى هيلانة زوجة منلاوس ملك إسبرطة، وخطفها إلى طروادة التي كانت السبب للحرب، وبدأت رحلة العودة إلى الأوطان، إذ آذن الوقت أن يعود الإغريق منتصرين إلى بلدانهم، ومنهم عودة أوديسوس إلى ايثاكا لكن صادفته مصائب متوالية منذ رحلة العودة، فما أن يجتاز مهالك ليالي مرعبة، ويكابد طوال رحلته البحرية ليبلغ وطنه، تبدأ معانات أخرى، ويبدأ عذاب هائل، فيقاسي مشقات يبتليه بها إله البحر _ يوسيذون _ فينتشل بأمر من إله آلهة الإغريق _ زفس _ من بحر أسود غائم عظيم، فتغوص سفنه الاثنى عشر أعمق فأعمق في بحر مظلم مبهم، تائه فوق أمواج تردد العواء المدوي، وتلاطم السفن للارتطام بنتوءات صخور عملاقة، وأخاديد رهيبة، وهي في دوامات هذا المضيق، وتحملها الريح إلى جزر عجيبة مسحورة، ويقتل الجنود، ويعود اوديسوس للبحر، فتهب عاصفة شديدة، فيفقد الاتجاه في عرض البحر العميق، ويشق عباب البحر الفسيح، فيبقى في التيه المائي يعاني من أهوال، ويلاقي من الغرائب في الجزر، فها تهب عليه ريح عاتية لتحطم سفنه،، وتنزلق في عمق المياه، وتتمزق الأشرعة البيضاء المنشورة وفقا لقاعدة الريح، ولم ينج من هذه المصيبة إلا أوديسوس من الغرق في البحر، فيحتضن صخرة، ويصرخ : ( أخشى أن تمسك بي العاصفة من جديد، وتحملني إلى البحر العميق ). ذلك كان في بحر شاسع مبهم، وظلال أشباح مرعبة، تطارده بالرغم من قرار _ زفس _ في مجلس الأرباب الذي عقد في بهو الأولمب : ( أن الوقت حان لإرجاعه إلى وطنه )، فظل في التيه عشر سنوات، وغائبا عن مملكته عشرين عاما، فكثر خطاب زوجته _ بنلوب _ وهددوا بقتل ولدها تليماخ، وبقتل ادويسوس إذا عاد، وطمعوا بملكه، وامتدت أياديهم إلى ثروته، وهم معربدين، ثقلاء من أمراء، ونبلاء في قصره، متجاوزين حرمة قصر سيدهم الغائب، فكانت بنلوب تتذرع بإتمام نسيجها من الطيور على سجادة في يدها، حيث تعمد على تقطيع الخيوط ليلا التي تنسجها نهارا، وهي تتطلع إلى استغلال الأعوام لحين عودة زوجها، متواصلة في مناورتها مع طالبي يدها، مخلصة، طاهرة، نبيلة، ذكية في أحرج ظرف تمر بها، وهي في انتظار عودة أوديسوس، ذات مرة حلمت بأن سربا من الأوز يتعرض لهجوم نسر ضخم دون أن تتمكن الخلاص من مخالبه الحادة التي راحت تمزق أجساد الأوز، وتبطش بها، فتقع فريسة غضب، وقوة النسر.

كانت بنلوب تصحو في الصباح، ونفسها ملأى بالعذاب، وهي تود أن تذرف الدموع في كل يوم جديد آت، لأنه لم يظهر فيه أوديسوس ملكا لمملكته، فيصبح اليوم عبئا ثقيلا، والحياة غادرة، اليوم مثل غد، وهي تستيقظ، وتنهض من فراشها، وتمشي في غرفتها ذهابا وجيئة، وتختلي بنفسها حتى تبكي، فابنها رحل يبحث عن والده في البحار، هكذا بللت دموعها طيورها، تناجيها، تكلمها عن العودة، وتمشي أناملها الناعمة على الخيوط، وتواصل النسج ليفعم قلبها بالصبر، تتوهج وجنتاها، ويبرق لمعان من عينيها على السجادة، إنها تنسج طيورا جميلة شابة، مفعمة بالحيوية، وهي تقول : طر يا طير، طر..! وهي تقف قبالة البحر، تنظر إليه من خلال نافذتها، وتتراقص عيناها، فتشاهد السحب تمر فوق ايثاكا، ثم تناشد ذاتها طوال النهار، وأنصاف الليالي : يا ليتني كنت طائرا ! أحيانا تستنفد العبرات، ثم تعود إلى الهدوء في الظاهر، لكنها حزينة دائما، تذهب إلى غرفة التعبد، وتجلس على ركبتيها، وتقول :
_ أواه، أيها الإله الحافظ، عمت الفوضى بيتي، وأوديسوس لم يظهر من البحر، آه، ولدي أيضا لم يظهر من البحر، آه يا أوديسوس، تعال أخبرني عن محنتك !
_ أنه عائد، وسيعيش أوديسوس شيخوخته بسرور، ويموت فوق المياه، اذهبي، وانسجي الطيور، واستقبلي تليماخ، أنه عاد من البحر !

أقام تليماخ مأدبة بمناسبة عودته، وجلس المدعوون على مقربة من بنلوب يطلبون يدها، وكان هناك شيخا متسولا دخيل أشيب الرأس، يمتلأ وجهه بالتجاعيد، واللمعة تغيرت في عينيه، والندوب تغطي جلده، يدور متنكرا بين المدعوين ينهره هذا، وذاك، حتى أراد أحدهم أن يضربه، فلم يعرفه أحد، من يكون هذا الدخيل الفقير ؟ فكان يعرفه تليماخ، وعرفته مرضعته دون أن تتفوه بكلمة، وقد سألوا بنلوب إن أكملت نسج سجادتها، وأعطت كلمتها بالزواج، فأجابت : أعطيت كلمتي بالزواج من الرجل الذي يشد قوس نشاب زوجي، يوتر قوسه الصلب، ويخترق الأقراص الأثني عشر بسهمه مهما كان هذا الرجل hellip;ثم انسحبت لتكمل نسج الطيور على السجادة، وقد جعلت الخطاب يتنازعون فيما بينهم، فانطلقت مباراة رمي السهام، أخذ القوس سائر الخطاب، فألقوا به عاجزين عن رمي السهام، وفشلوا في تصويب الهدف، فأخذه العجوز، ورمى سهما من قوسه، فأصاب مبتغاه، فجأة هجمت عليه مجموعة من النبلاء والأمراء، فراح يبطش بهم بالتعاون مع ولده، وبنلوب تنسج الطيور في غرفتها، اهتزت السجادة، وتحولت طيور بنلوب التي أتممت نسجها إلى أرواح، على هيئة طيور، وتحولت إلى طيور بحر، تصدر منها ألحان فرح، وطارت هاربة عبر النافذة المفتوحة برشاقة، وحلقت بعيدا، وعاليا عن القصر، وصارت تطير دوما ليلامس صدرها لسان البحر الضيق، ويبدأ فورا النشوء فوق أعتى الأمواج الهائجة، فتصير الشواطئ، والأمواج بهيجة لعيونها دون ضباب، لامعة مضاءة، متألقة بهدوء، هذه الأمواج المتلاطمة، الطرية، المصقولة، تقضي الطيور حياتها عليها، تستمتع بدون آلام مع لطائف البحر، وتبصر من بعيد مملكة ايثاكا، تحمي البحارة، إذ لها قوة لا تقهر، تسيطر على أعتى الأمواج، وتواجه أي هزيمة مخيفة للبحارة، مهما أبرق الرعد برقا شرسا، ومهما كان الموج تلو الموج يحاول أن يطيح بالسفينة، وتحاول ابتلاعها الأعماق، ستكون معينا للبحارة، لأنها خلقت في ايثاكا، من أيدي بنلوب الناعمة، وستحلق فوق مياه ساطعة جميلة، وترسل الشمس شعاعها، ويهب النسيم العليل، فيعلو الصفاء البحر، ويكون الموج أليف مع الحياة، وإن حدث شئ لبحار، ستحمله على ظهرها في المياه الخالدة، لأنها طيور مأخوذة بنار الحب للبحار، فلها أجنحة بيضاء، إنها نوع خاص من الطيور نشأت من سالف الأزمان، مقدسة، قابعة في همس الليالي، في ضفائر الأمواج اللطيفة الهادئة، وربما _ الدافئة، تعير القمر ضوءا بأجنحتها، وتعير ظلال النجوم الصفاء، كأنما كل شئ نشأ منها مع المياه، فتهب كل ما تستطيع للبحارة، أي معجزة هذه التي تومض ومضات لامعة أثناء صخب البحر ؟!

أذهل بنلوب هذا التحول للطيور، فنزلت راكضة إلى قاعة المدعوين، فكان الخطاب قتلى يملأون القاعة، والدم ينزف من أجسادهم، وهي ترى أوديسوس قد فارقه الشباب، يمسك سيفا بيد مرتعشة، وابنه يقف إلى جانبه كما لو تم تنصيبه بالخلافة من بعده.