كان النهار الذي قد بدأ يغادر أزقة منطقة (عرفة)، نهارا مثل آلاف النهارات التي اعتاد عليه هذا الحي العمالي الذي يسكنه المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب منذ سنوات طويلة، تماما مثل بيوتهم المتلاصقة التي تأويهم إلى أحضانها كل مساء.كان يمكن لهذا النهار أن يذهب إلى حال سبيله كآلاف النهارات الأخرى، دون أن تجد نساء الحي فيه ما يشبع فضولهن بثرثرة جديدة لولا الصوت الذي يشبه الأنين الصادر من بيت أكوب الأرمني .
كان الجيران قد اعتادوا ـ قبل فرار ابنته آناهيد مع عبدالرزاق ـ أن يسمعوا منه كل مساء أغان استانبولية أو مقامات من (الخوريات *) التي حفظها أكوب من جاره (قره مردان) الذي يعمل معه في شركة النفط.
لكنه كان في هذا المساء يغني بالأرمنية، لحنا منسيا.لم تكن الأغنية ما اعتاد الجيران سماعها بعد الكأس الثالثة من أكوب:

ايكور..ايكور
آغفور آخجيك
كان صوته وحزنه يطغيان على البيوت المتلاصقة في الزقاق.
كان مساء متربا من أمسيات آب.. النساء جالسات ككل مساء أمام عتبات بيوتهن التي تبدو من فرط تلاصقها وكأنها تعيش من شريان واحد. منذ أربع أيام والنساء يثرثرن..كان موضوع الثرثرة الجديدة يكفي لهذا المساء ولأمسيات مقبلة:
ـ تبا لأناهيد ! كيف فعلت ذلك ؟؟
ـ إنني أشفق على أمها (بياتريس )..إنها في ذهول تام من فرط الصدمة.
ـ وهل يقبل إسلام من عاشت ست عشرة سنة مسيحية ؟
ـ ولم لا..يكفي أنها نطقت بالشهادتين..
كان صوت أكوب يهدر دون ملل مثل اسطوانة مشروخة:

ايكور..ايكور
آغفور آخجيك


* * *
مد الليل بساطه على المدينة والبشر.وبدأت حمرة (بابا كركر)* تمتد في سماء (عرفة)، دقيقة بعد دقيقة، وساعة بعد ساعة لتضيف عليها حمرتها.
ثمة شخص واحد كان يحس بآكوب، ويقاسمه همومه، هو جاره (قره مردان) التركماني الذي اعتاد أن يسامره كل مساء. كان وحده يحس بمدى الحزن الذي يعصف بصديقه أكوب..قال له هذه المرة من باب المواساة :
ـ هذا هو المقسوم يا عزيزي..هذا ما كتبه الرب على اللوح..لا حيلة ولا قوة لنا أمام ما يشاءه الرب..
لم يسمع أكوب صوت صديقه في ذلك المساء..كانت أناهيد في ذاكرته طفلة الأمس التي لم تكبر..حينما كان يسكر، كان يحرص على أمرين :الغناء، وتقبيل أناهيد من وجنتيها بعد كل كأس..
في ذلك المساء، كان أكوب محاصرا بمشاعر غامضة، غير محدودة، معجونة بالهم والذكرى والشوق والانكسار.لم يكن يعلم قطعا انه سوف لن يرى أناهيد بعد ذلك المساء المشؤوم إلى الأبد..

* * *

في اليوم الأول غيروا اسمها بأمر من حماتها، فأصبحت (ناهدة) بدلا من (أناهيد)..
في العام الأول من زواجها أصبحت أما..لكن ثمة أمر لم يغادر وجودها، لم ينفصل عن روحها وكيانها منذ أن وضعت رأسها على الوسادة في بيتها الجديد..
كانت تحلم أو هكذا تحس بفتاة صغيرة تحمل نفس ملامحها، ذات ضفائر مزينة بشرائط ملونة، تداهم ذاكرتها وروحها بعد منتصف الليل..تظل تناديها دون كلل آلاف المرات :


ايكور..ايكور
آغفور آخجيك
كان صدى صوت الشيطانة الصغيرة يرن في عقلها وأعماقها، كل ليلة تخلد فيها إلى نفسها..
في الليلة التي ماتت فيها حماتها بعد إصابتها بالشلل التام لمدة اسبوع، كان ذلك الصوت القادم إليها من خلف ستائر الماضي دافئا، حاضرا، دافقا، قويا، منتشيا، متحديا للزمن.ظل الصوت يدعوها ربما للمرة المليون:
ايكور..ايكور
آغفور آخجيك
مرت أيام طويلة.توالت مواسم وأعوام، ولم ترتح من ذلك الصوت المجهول الذي ظل نزيل ذاكرتها وروحها، يعمل على إثارتها واستفزازها. لم تكن ناهدة تهدأ إلا بعد أن تنظر بحنو إلى أولادها الثلاثة..لكن صوت الشيطانة الصغيرة ظل في حالة هجوم لا ينتهي، يقتحم أعماقها وسكينتها غير عابيء بحزنها أو فرحها..
حينما مات ابنها البكر بالتيفوئيد، ظل صدى الصوت يتردد بإصرار.كانت الشيطانة تقولها بحدة أحيانا، وأحيانا أخرى بسخرية.في سخريتها كانت تبدو وكأنها تنتقم من أناهيد في لحظات حزنها وأساها على ولدها..
في حفلة خطوبة ابنها الأوسط ظلت صاحبة الصوت تجدد النداء بإصرار نفي حين كانت عيونها تقدح شررا وحقدا..لم يكن وجهها هذه المرة طفوليا بل كان وجه ميت عانى من السهر طويلا..
ايكور..ايكور
آغفور آخجيك

بعد عشرين عاما، توفي زوجها بعد أن تقيأ دما.في تلك الليلة لم تهدأ الشيطانة الصغيرة.كان صوتها يتسرب إلى عقلها وكيانها.كان يبدو وكأنه قادم من مكان خرافي لا وجود له على الخرائط. كانت منطلقة، تطلق الضحكات والزغاريد.كانت تعلن عن فرحها لموت الزوج.ومع كل زغرودة كانت تنتقم لعشرين سنة انطوت..وظلت تردد بانشراح لا حدود له ما كانت تردده كل يوم :
ايكور..ايكور
آغفور آخجيك

* * *

بعد خمسة وعشرين عاما، لم تعرف كيف ساقتاه قدماها إلى هناك..إلى (عرفة)!..الحي الذي كان شاهدا على طفولتها وصباها..لم يكن قد بقي من الجيران القدامى أحد.حتى والدها أكوب كان قد توفي لتشمع كبده..وهاجرت أمها مع أخواتها إلى إنكلترا.لم يبق في الحي من شاهد على ماضيها وحاضرها..
وقفت أمام بيتهم القديم.لم تقف بل تسمرت قدماها أمام الباب. كان الباب مفتوحا.بدا وكأنه يسمع وجيب قلبها.مدت رأسها بتردد إلى صحن البيت. شجرة التوت التي طالما تمرجحت على أغصانها مع أخيها (زافين)، كانت تقف بصمت، شاهدة على حضورها السري.شاهدة خرساء لا حول لها ولا قوة.
فجأة ظهرت امرأة على الباب :
ـ تفضلي ؟
نظرت بصمت إلى ابنها الأصغر الذي كان ينظر إليها بحيرة واستغراب.لم يكن يدري أن أمه تقف في حضرة شاهد سري اخرس، أبكم لا ينطق.
ـ يا خالة..لقد كنا نسكن هذا البيت قديما.هل تسمحين لي أن ألقي نظرة عليه ؟
ـ تفضلي على الرحب والسعة.
خطت بهدوء إلى فناء الدار.وقفت في ظل شجرة التوت.امتلأت عيناها بالدموع.على أي غصن ترى تمرجحت في ذلك الزمن الجميل ؟
دخلت المطبخ الذي طالما ساعدت فيه أمها في إعداد الطعام والمزات لأبيها كل مساء.فتحت ببطء الباب المؤدي إلى غرفة الضيوف التي كان أبوها يقضي اغلب أوقاته مستمعا من راديو ماركة (سيرا) إلى البث التركي لإذاعة اريفان..ما أكثر ما ردد جارهم (قره مردان) بعد الكأس الثالثة تلك الأغنية التركمانية الأثيرة لديها :

قلعه نين ديبنده
بير داش اولايديم*
بدا لها أن أخوها زافين سيخرج من الغرفة الثانية حاملا لها مجلة (حواء).
كانت الحديقة مهملة.لكم كان والدها يعتني ويهتم بها !..من هذه الحديقة رأت عبد الرزاق وتولعت به وأحبته وhellip;أحست بالدوار.لم تعد تتحمل ذكرى تلك السنوات.البيوت لا تزال كما كانت، لكن أصحابها غادروها بعد سن التقاعد ليحل محلهم عمال جدد.. شكرت المرأة، وغادرت البيت..
كانت البيوت في موضعها.لم تتحرك من مكانها قيد أنملة، وكأن السنوات لم تعصف بها..ولكن أين الأهل والأحباب والجيران ؟.تأملها ابنها بانكسار:
ـ لماذا تبكين يا أمي ؟
واصلت طريقها نحو موقف الباص الذي طالما وقفت في ظله.سنوات وقفت هنا في هذا المكان وهي تحتضن حقيبتها المدرسية..غمرتها أمطار عشرات المواسم من ثقوب مظلة الموقف. لم تكن هي أناهيد فتاة الأمس المرحة التي تقف في نفس الموقف الآن، بل امرأة بدأت تخطو نحو الشيخوخة..وفجأة لمحت (مارتين ) أمامها.
لمع بارق أمل في كيانها، وصفق طائر الفرح بجناحيه في أعماقها..يا الهي !..ثمة شاهد من ذلك الزمن البعيد، أرتين مجنون الحارة..! يمتطي كما كان في تلك السنوات، سنواتها هنا، يمتطي عصاه ويقفز بها كحصان يسرة ويمنة..أسنانه تساقطت. كان يبدو مثل حصان عجوز على وشك ان تطلق عليه رصاصة الرحمة.
اقتربت منه، وسألته بلهجة استانبول :
ـ أرتين..ناصلسين ؟ (كيف حالك ؟ )
بدا أمامها كقطعة صخر مجرد من الأحاسيس، وكأنه يعيش في زمان ومكان آخرين.
ـ يا عم أرتين ألا تتذكرني ؟
حرك أرتين رأسه يمنة ميسرة، ثم واصل جريه بقدميه العاريتين وهو يصهل بصوت واهن مثل حصان عجوز، منطلقا بأقصى ما يستطيع مرددا :

ايكور..ايكور
آغفور آخجيك

هوامش:
* ـ ايكور..ايكور
*أغنية شعبية أرمنية تعني :
تعالي..تعالي
أيتها الفتاة الجميلة
* الخوريات : نمط شعري مؤلف من سبعة مقاطع قائمة على الجناس يغنى بعشرين مقاما.
* بابا كركر : نيران كركوك الأولية تقع في منطقة الآبار النفطية. ترتفع منها ألسنة اللهب منذ آلاف السنين.
* أغنية شعبية تركمانية :
ليتني كنت حصاة
على عتبة القلعة (قلعة كركوك (