كانت الشمس على وشك أن تغادر شارع الجمهورية، استعدادا لاستقبال مساء جديد. كانت السيارات تواصل طريقها بصخب مزعج. ثمة أناس مسرعين يمنة ويسرة وكأنهم يحاولون اللحاق بموعد مجهول.
كانت المحلات التي بدأت بإشعال مصابيحها، تضفي على الشارع لونا يكمل الصورة التي يجب أن يكون عليها الشارع كل مساء.
كان طرفا الشارع يحتضنان محلات كثيرة لا يجمعها رابط، لذلك ترتبط صورة الشارع بأصوات الأغاني المنطلقة من محلات بيع المرطبات، والروائح المختلفة التي ترتفع نحو السماء من المطاعم كطير يتعلم الطيران رويدا رويدا. زبائن يلتهمون السندويج والكباب والفلافل والكص بنهم وسرعة أمام المحلات التي تتقدم الوجبات السريعة أو في المطاعم وكأنهم يتناولون العشاء الأخير في حياتهم.
رائحة المشروبات الروحية تشرئب بعنقها من البارات المغلفة بزجاج مظلم، ورائحة العطور المنبعثة من محلات الكماليات التي تبيع العطور وأدوات التجميل النسائية تذكر المارة بالنساء، بينما رائحة الأدوية المختلفة النابعة من الصيدليات تذكرهم بالمرض ولربما بالشيخوخة أو حتى بالموت.
كان شيئا عاديا أن تلتفت أعناق المراهقين نحو الفتيات اللاتي يتهادين إلى جانب أمهاتهن المتلفعات بالعباءات السود، وكأنهن في حضرة شرطي قاسي القلب، يحسب للنظرة والآهة واللوعة ألف حساب. لا يقتصر هذا المنظر على مجرد نظرة شهوانية من العيون النهمة المتطلعة إلى الأجساد النسائية الشهية التي تتهادى أمامها، وتمشي في حال سبيلها على رصيفي الشارع بل كانت النظرات تترافق مع كلمة إعجاب أو مقطع أغنية او آهة حرى يطلقها بصوت عال مراهق يسكن الجنس كل خلاياه، مراهق لم يتمتع بعد بمتعة ملامسة جسد نسائي، لكنه رغم ذلك يحاول أن يغطي أن يغطي على هذا الجانب القلق في حياته بجعل آهاته وجمله مبالغ فيها ليسمعها إلى اللاتي يمرن من الرصيف بهدوء مشوب بقلق، بينما نظراتهن تفضح انتشائهن بكلمات الإعجاب المتطايرة يمنة ويسرة، والتي يطلقها معجبون مجهولون أمام المطاعم أو سينما (صلاح الدين) أو من رواد المقاهي المرصوفة مقاعدها على الرصيف، وهم يرتشفون الشاي ويتطلعون إلى النساء بنهم غير مبالين بالأغنية المنطلقة من قلب المقهى.
من محلات التسجيلات التي تستعد لإغلاق أبوابها، تنطلق الأغاني الأخيرة وكأنها تودع الشارع، لتلتقي معه في صباح اليوم التالي. بينما ينظر فريد الأطرش وعبدالحليم واحمد عدوية وحين نعمة ومي ووحيد وهابا بوجوه مبتسمة إلى المارة المنطلقين إلى موعدهم مع المساء بعيون ثابتة وملامح لا تتغير، وكأنها تتمنى لهم مساءا جميلا.
على نفس الشارع قد يخطو مجرم يحمل تفاصيل جريمته التي سيرتكبها بعد ساعات. قد يطلق فيها الرصاص على الرجل الذي استطاع أن ينتزع زوجته من أحضانه، أو يطعن بالسكين جسد شقيقته طعنا بالسكين الذي يخفيه تحت معطفه لمجرد أن ألسنة الجيران بدأت تلوك سمعتها. في الوقت الذي يسير إلى جانبه شيخ يسعل وهو يستحث خطواته مسرعا بدوره للوصول إلى جامع (الملا حسام الدين)، ليتحرر قبل لحظة من ضوضاء الشارع وصخبه إلى هدوء وسكينة الجامع بين مصلين يتمتمون بالأدعية، متضرعين إلى الله بخشوع.
المارة يبدون غير مبالين بالفتاة التي تمشي باستنكار، يعشعش القلق في كل تفاصيل وجهها الجميل، دون أن يعرف أحد منهم بأنها على موعد مع الموت، بعد ان أصبح هذا الحبيب المجهول أملها الوحيد، بعد أن كانت تخشى من مجرد ذكر اسمه. بل أن قلبها لم يطاوعها أن تلقي بنظرة الوداع على وجه أمها وهي متلفعة بالكفن في انتظار رحلتها الأخيرة. لم يبق ثمة أمل، الأفضل ان تنهي حياتها بنفسها بدلا من ان تنزل السكاكين طعنا على جسدها من قبل إخوتها عندما يكتشفون حملها. كانت تبدو مصرة على إنهاء حياتها بنفسها.سترحل مع جنينها الذي لن يرى النور، سترحل من جنينها قبل أن ترى عيناه شمس المدينة.
في محله كان (نهاد) ينظر إلى الساعة الجدارية بين لحظة وأخرى، فلا شيء سيثنيه عن استعادة ما خسره ليلة أمس على مائدة القمار.
لم تكن (ده للي صبيحة) المجنونة، قد أنهت بعد، جولتها اليومية التي تبدأ من الصباح الباكر ولا تنتهي إلا عند المساء.كانت تتطلع إلى وجوه رواد المقهى الذين ما أن رأوها حتى بدأوا بمشاكستها كعادتهم:
ـ صبيحة ! هل تتزوجيني ؟
ردت عليهم بعباراتها التي يحفظونها عن ظهر قلب:
ـ قواد.. روح اتزوج أمك !
ورغم ذلك يضحكون وكأنهم يسمعونها لأول مرة. مدت (ده للي صبيحة) يدها إلى أولهم تطلب صدقة على طريقتها:
ـ ياللا يا قواد اعطني دينارا !
لا يكل أحد الجالسين من تكرار قصة زواجها التي يعرفها الجميع، وكيف قاومت العريس وهو يستعد لخلع ملابسه استعدادا للوصول إلى فاكهة صبيحة:
ـ ماذا تفعل يا قواد ؟..هل تريد ان تنكحني ؟ أدبسز.. روح انكح أمك !
ويضحك الجميع بصوت واحد بين قرقرة النركيلة وفرقعة أحجار الدومينو، وكأنهم يسمعون الحكاية لأول مرة.
بقامته الطويلة وبدلته الأنيقة دائما كان (خاجيك) يقف أمام ستديو (صونا) بوقار متأملا المارة، وكأنه ملك يستعرض رعاياه، وهو يستعد لكتابة قصيدة فاشلة، تضاف إلى قصائده التي لا تثير الا سخرية زملائه، لكنه رغم ذلك لم يكن يأبه لذلك البتة، لأن قصائده أثيرة عنده، ويكفي انها تستوعب أحلامه.
زبون في مطعم (كباب نوزاد) يبدو قلقا وهو يحاول أن يسدد ثمن ما التهمه من الكباب والطرشي واللبن بالدنانير المزورة التي اشتراها من صديق له بدأ يتزوير الأوراق النقدية، بعد نجاحه الباهر في تزوير جميع الوثائق والشهادات الرسمية.
كان السكر يبدو واضحا على (خليل)، وهو في طريقة إلى (نادي المعلمين)،بعد ان تناول عدة قناني من البيرة في بار (عمر الخيام)، كعادته كل مساء، معتبرا ان البيرة إنما تنظف المعدة وتهيئها لقضاء بقية الليل على مائدة الخمر مع أصدقائه الذين يسبقونه دائما إلى النادي.
عندما مر الحاج رؤوف، الذي اعتاد أن يتمتم بالأدعية ويتظاهر بالتقوى، دون أن يستطيع أن يمنع عينيه من التطلع خلسة إلى أرداف الفتيات اللاتي يرتدين الجينز، محاولا بذلك إشباع الشيطان القابع في أعماقه، من أمام صيدلية (صلاح)، كان الأصدقاء الأربعة، يستمعون في بار (عمر الخيام)، إلى أم كلثوم للمرة المليون:
يا فؤادي لا تسل أين الهوى ؟
كان صرحا من خيال فهوى
كانت المائدة عامرة أمامهم بقناني (شهرزاد)، وكان السكر قد خيم سلطانه عليهم. كان كل منهما منشغلا بالحديث مع زميله الذي يجلس إلى جانبه، في موضوع لا صلة له بتاتا بما يتحدث فيه زميلاهما. وبسبب صوت أم كلثوم الطاغي كانا يسمعان بعضهما بالكاد.
تناول سمير ملعقة من (اللبلبي) وهو يقول بسخط، ان منال لا يمكن أن تحب تيسا أجرب مثل كمال , وإنها سترجع له نادمة، لكنه سوف لن يصفح عنها بل سيتزوج من ابنة خالتها المغرمة به نكاية بها.
أما عيون يشار وحمزة فكانت مسمرة على صورة مارلين مونرو المغرية في مجلة كانا يتطلعان إليها بنهم، وهي تحاول بضحكة كلها غنج ودلال أن تمسك بطرف فستانها الذي رفعته الريح، لتظهر ساقيها البيضاوين كالحليب. لم يتوقف حمزة من الإطراء على جمالها الأنثوي الأخاذ وشعرها الأشقر كسنابل حقل لم يحصد بعد، وصدرها الناهد باستداراته الشهية.
عندما خرجوا من البار،لم يكن أي منهم يمشي بخطوات ثابتة. كانوا يترنحون وهم يغمغمون بكلمات غير مفهومة وكأنهم يخاطبون أشخاصا سريين لا يراهم من أحد غيرهم.
توقف حمزة فجأة، بعد أن بدأت أضواء الشارع تتأرجح يمنة ويسرة، وكأن الشارع جالس داخل أرجوحة. تقيأ بقوة أمام محل كماليات عبدالقادر. قال له صوت سكران:
ـ عيب والله عيب..انه محل صديقنا !
رفع حمزة رأسه، ونظر إليه بعينين محمرتين دامعتين من شدة القيء:
ـ للذكرى.. للذكرى.. سيعلم في الصباح بأنني مررت من هنا !
في نهاية الشارع تفرقوا، سعى كل منهم في اتجاه حاملين معهم ظلالهم التي كانت تتأرجح يمنة ويسرة.
دفع حمزة الباب الخشبي الذي أحدث صريرا مزعجا في هدأة الليل، كانت أمه تحرص على ان تترك الباب مفتوحا. دخل كالبرق إلى غرفته الموحشة والتي فوجيء بها رغم الظلام الدامس غارقة في ضياء ساطع، أشقر، فتان.
لم يستغرب عندما وجد مارلين مونرو، مستلقية بكامل عريها كاِلهة على فراشه. لم يضيع وقته ليتأكد هل أن ما يراه حلم أم حقيقة. بل أمتد إلى جانبها بهدوء.
كانت البيوت والمحلات في الشارع نائمة، ماعدا المصابيح التي كانت تقوم بواجبها الليلي في إنارة ظلام الليل، في انتظار نهار جديد.


9 /1/ 2007الثامنة الا ربع صباحا