إلى روح أياد

ما خطر على باله يوماً أن يمشي في جنازته، يصلي عليها، يشارك في تشييعها إلى مثواه الأخير، يرى كيف يسجى في قبره، يهال عليه التراب و يدفن، يجلس في بيته أياماً يتقبل التعازي و التهاني سيان، لا فرق عنده بين الموت و الحياة، لكنها كانت مناسبة جمعته بأصدقائه الذين جاءوا يعزون بوفاته من مدن أخرى.
سافر سلمان بعد انقضاء أيام عيد الأضحى المبارك لزيارة أقاربه في وسط العراق، مكث عندهم ثلاثة أيام، عاد بعدها، أوقف سيارة أجرة، ألقى جسمه المتعب فيها، طلب من السائق أن يتوجه إلى البيت، شاهد قبل وصوله بقليل، أن الناس قد تجمعوا أمام بيته، ظن أن حادثاً قد وقع لأسرته و أن أحدهم قد فارق الحياة، و صَدَقَ ظنه حين تزامن نزوله من السيارة مع جنازة أخرجت من البيت، وضعت في سيارة حمل صغيرة، كانت تقف أمام الباب.
نظر الحاضرون إليه، لم تصدق أعينهم، شعروا بالخوف، قطعوا أحاديثهم، خيم عليهم صمت ثقيل، تسمروا في أماكنهم، فقدوا إنسانيتهم، أصبحوا لحظات خارج حدود الزمن، لكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى حالتهم الطبيعية، تمالكوا أنفسهم، تحركوا، تقدموا نحوه، عانقوه، هنئوه بسلامة الوصول، جاء ابنه يبكي، ألقى نفسه عليه، احتضنه، تعلق به، قبله كثيراً، بلل وجهه بالدمع، سأله الأب: من منكم فارق الحياة؟
لم يجب الابن، أخرج من جيبه ورقة مطوية، ناولها لأبيه، فتحها الأب، قرأها، كانت شهادة وفاة باسمه صادرة من مستشفى اليرموك في بغداد!!
سأل الأب ابنه: من جاء بالجنازة إلى هنا؟
قال الابن: أوصلها شخص لا نعرفه في سيارة أجرة، عاونه الجيران أنزلوها معه، أدخلوها إلى البيت، عانقني معزياً، أعطاني الورقة، اعتذر عن عدم مشاركته في التشييع، أبلغني أن الجنازة جهزت (غُسّلت و كُفّنت)، ودعني و غادر بسرعة.
سأل الأب ابنه مرة أخرى: هل عرفتم المتوفى؟
أجاب الابن: لم نكشف على الجنازة، اكتفينا بشهادة الوفاة، و أخبره أن نبأ الوفاة أذيع من جامع المدينة الكبير، و حدد وقت التشييع في هذه الساعة.
صعد الأب إلى السيارة، جلس بمحاذاة صدر الجنازة، طلب من ابنه أن يصعد معه، يجلس مقابلاً له في الجهة الأخرى، اقترح الحاضرون عليه ألا يشارك في التشييع متعللين أنه كان على سفر، لم يقبل اقتراحهم فصعد بعض أصدقائه جلسوا بجانب ابنه، طلب من السائق أن يحرك السيارة و يسير، ركب الحاضرون في السيارات التي كانت متواجدة، ساروا خلف الجنازة في موكب إلى مركز المدينة، توقف الموكب، أنزلت الجنازة، حُملت على الأكتاف حتى الجامع الكبير، صُلِّي عليها، أعيدت إلى السيارة، تحرك الموكب مرة أخرى إلى المقبرة، فدفنت في قبر حفر بجانب قبور العائلة.
جلس سلمان بعد انتهاء التشييع وحده في بيته، أخذت الشكوك تراوده، قرأ شهادة الوفاة مجدداً، ألقى باللائمة على نفسه لأنه لم يتعرف على الميت، نادى ابنه، طلب منه أن يتذكر ما حصل قبل وصوله، سأله: إن كان قد نسي شيئاً لم يخبره به؟
صمت الابن برهة، لمعت عيناه ببريق طفولي، أجاب: نعم


سأل الأب بلهفة: ما هو؟
قال الابن: أخبرني من أحضر الجنازة أن أباه عاد من الديار المقدسة، و أنه سيأتي من بغداد لتقديم التعازي، و ترك أباه و خرج.
ما علاقة الحج بما حدث؟ !، إنه لم يفكر بأداء فريضة الحج لأن ظروفه لا تسمح له بالتغيب عن البيت فترة طويلة، فهو أرمل منذ سبع سنوات، أب لأسرة من ثمانية أفراد، أكبرهم من الذكور لم يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، كما إنه ممن لا يستطيعون إلى ذلك سبيلا.
في العام الماضي طلب أخوه منه أن يقدم أوراقه لأداء فريضة الحج مرافقاً لأخته التي قتل ولدها الطبيب بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، فرفض، إلا أنه عاد و وافق مراعياً ظروف أخته، بعد أن عرض عليه أخوه أن يتحمل عنه نفقات أداء الفريضة إضافة إلى إعطائه مبلغاً من المال مصاريف جيب، و تعهد له بمراجعة أسرته يومياً أثناء غيابه و تلبية احتياجاتها، قدم أوراقه و أوراق أخته في ملف واحد إلى دائرة الأوقاف، استلم إيصالا منها بالاستلام، احتفظ به عنده، لكن اسمه أو اسم أخته لم يظهر في قوائم الحجاج في ذلك العام، تنفس الصعداء و شعر أن وزراً قد وضع عنهً، إلا أن اسمه ظهر في قوائم الحجاج في العام التالي، نتيجةً لإجراء القرعة، دون أن يظهر معه اسم أخته! راجع دائرة الأوقاف مستفسراً لإضافة اسمها معه، أجيب أن عليه مراجعة رئاسة الأوقاف في بغداد شخصياً، و أن مراجعته قد لا تؤدي إلى نتيجة مؤكدة لإضافة اسم أخته معه!!
إنه لا يجب مراجعة دوائر الدولة، لأن شعوراً بالانسحاق يلازمه حتى عند مراجعة المصرف لاستلام راتبه التقاعدي مرة واحدة في كل شهرين، عرض الأمر على أخيه، أيقن أن أخاه سحب ما عرضه عليه و تعهد به في العام الماضي، اقترح على أخيه أن يتنازل له لأداء فريضة الحج، لم يقبل أخوه اقتراحه، فقرر ترك الموضوع و عدم التفكير به، فاتحه كثيرون أن يتنازل لهم عن اسمه في القوائم لقاء مبلغ من المال رفعه بعضهم إلى ألف دولار أمريكي، لكنه رفض، لأنه يؤمن أن الدين ليس تجارة و يجب ألا يستغل لمآرب أخرى.
قرأ صديقه منذ أيام الدراسة الجامعية اسمه في قوائم الحجاج في الصحف، فأصابه العجب، كان يعرف أحواله المالية و أوضاعه الخاصة جداً، جاء إليه من بغداد، أراد أن يعرف ما الذي غير أحواله، قال أنه أراد أن يودعه قبل السفر، أخبره سلمان بما حدث و بقراره الأخير، أراد أن يرد جميل صديقه، عرض عليه أن يذهب لأداء فريضة الحج، لقاء تنازل يقدمه له عن اسمه، رحب صديقه بالعرض، حرر له تنازل وقعه الشهود و ختمه مختار المحلة بختمه، أعطاه أيضاً إيصال استلام الأوراق، طلب منه البقاء معه لتناول الغداء، لكن صديقه اعتذر، تعجل العودة، تعلل بإخبار عائلته و البدء لإنجاز المعاملة و الإعداد للسفر، فودعه متمنياً له الذهاب و العودة بسلام.
بعد أيام قليلة، استقبل سلمان في بيته شخصاً لا يعرفه، قدم له التعازي، أشاد بمناقب المرحوم، أخبره أنهما كانا معاً على مقعد واحد في رحلة الذهاب و الإياب إلى الديار المقدسة، أديا مناسك الحج سوية، لو يفترقا عن بعضهما هناك، و أن المرحوم تعرض إلى نوبة قلبية أثناء سير الحافلة قرب حي اليرموك، فادخله المستشفى، وحصل على شهادة الوفاة، و أضاف أيضاً أنه كان يعتقد أن المرحوم يسكن في بغداد، لكن أوراقه الرسمية بينت غير ما كان يعتقد، فجهز الجنازة و أرسلها مع ابنه إلى العنوان المثبت في أوراقه الرسمية، وفاءً منه له.
كان سلمان صامتاً يستمع دون أن يعرف شخصية المرحوم، حتى أخرج الضيف جواز سفر خاص بالحجاج و سلمه له، فتحه، فوجد الجواز يحمل اسمه و عنوانه، لكن الصورة كانت لصديقه الذي تنازل له لأداء فريضة الحج.
هم سلمان أن يصرخ و يبكي كالطفل، إلا انه تمالك نفسه، لكنه لم يستطع أن يمنع دموعه من الانسياب، لاحظ ضيفه ذلك، اعتقد أن الصورة أثارت شجونه، جددت حزنه، فأخذ يخفف عنه و يواسيه، فقال سلمان لضيفه: يقال أن من رأى في منامه شخصاً فارق الحياة، فإن كتب تفسير الأحلام تقول أن ذلك يعني إطالة في عمر الشخص الذي فارق الحياة، و سأله: هل لك أن تنبئني ماذا يقال عن شخص شارك في تشييع جنازته، صلى عليها، ألقى حفنة من تراب في قبره، و رأى نفسه يدفن في الحياة؟!
أجاب الضيف: إن كتب تفسير الأحلام لا تفسر الواقع، لكني أجزم أن ذلك الشخص فقد عزيزاً، أو أن صديقاً رحل عنه إلى الأبد، قال ذلك و قام واقفاً و طلب منه أن يستلم حاجيات المرحوم و أغراضه، فقام معه فوجد أن اسمه و عنوانه كان مسجلاً على الحاجيات و الأغراض.
استلم سلمان ما جلبه ضيفه معه، و طلب منه البقاء معه لكن الضيف اعتذر نتيجة للأوضاع السائدة، و وعد بزيارة أخرى، فودعه سلمان و سارع بالاتصال بعائلة صديقه، و أخبرهم بما حصل و طلب منهم الحضور و استلام ما كان معه من أغراض و حاجيات.