سفينة نوح
حتى آخر لحظة اعتقد ان الأمر مجرد إشاعة، وان هذه القلعة المطلة كنسر مهيب على مدينة كركوك منذ قرون لا يمكن ان تهدم. لم يصدق إلا بعد أن سمع بأذنيه صخب الجرافات، التي كانت تقضم كوحش بلا قلب، ما أمامها من بيوت وأحياء.
كان شحوبا أشبه بشحوب الموتى باديا على وجوه كل الذين كانوا يتابعون اغتيال (القلعة) وبيوتها. بعضهم كان لربما يبكي لرسائل حب قديم طمرتها الأنقاض تحت عاصفة من الغبار، وصور لطفولتهم وهم صغار يجلسون بهدوء في أحضان آبائهم متأملين العدسة بتفاؤل. أو كتبا وجدوا ذواتهم فيها.
كانت البيوت التي طالما شهدت أفراحهم وأتراحهم تتهاوى الواحدة بعد الأخرى، كانوا يعيشون نهارا أصابه السعار.
وحده المجنون، كان يعد البيوت التي تتهدم، وكأنه ذاكرتها السرية:
ـ هذا بيت الحاج نعمان الذي مات العام الماضي.
ـ هذا بيت حسنية التي احترقت في الحمام.
ـ هذا بيت غازي الذي استشهد في الحرب.
ـ هذا بيت أبو جنكيز الذي أصيب بالعمى بعد وفاة زوجته.
ـ هذا بيت ميسون، جميلة جميلات القلعة.
ـ هذا بيت رامز أفندي، الذي ورثه عن أجداده. انه أقدم البيوت.. لربما أقدم من سفينة نوح.
لم يسأله أحد من الجمع المحتشد،عن العلاقة بين اغتيال بيت من بيوت القلعة وسفينة نوح.
كانوا مكتفين بتأمل الطوفان!

الحزن يحلق عاليا
نادته أمه من حوش الدار:
ـ إلى متى ستظل في السطح؟.. اترك الحمام الآن وانزل قبل ان تصيبك رصاصة طائشة في هذا الزمن الأغبر؟
كان كعادته منغمسا في التحليق مع طيوره، ناسيا للحظات رائحة الموت الذي أصبح قاب قوسين او أدنى من الجميع.
فجأة ألقى نفسه دون وعي على الأرض، بعد دوي انفجار مرعب، أعقبه صمت قاتل. عندما فتح عينيه بعد لحظات رويدا رويدا.. وجد حماماته في الأعالي، تكاد تلامس زرقة السماء.
كانت تلك آخر مرة فيها حماماته، التي اختارت أغصان أشجار في مكان مجهول وطنا لها!

الشاعر
أنهى الشاعر قصيدته بعبارة:
في حفلة عزائي
أشرب قهوتي الأخيرة.
ارتشف رشفة من القهوة التي أمامه. ألقى نظرة حانية على الأسماك الملونة الصغيرة التي تدور وتسبح في نفس الحوض منذ سنوات. كانت تفتح أفواها مثل أول يوم وضعها في الحوض، وتهرع بنفس اللهفة في كل مرة يلقي فيها بطعامها.
أحس بالإشفاق على نفسه quot; حتى هذه الأسماك ستموت في وطنها ـ الحوض!quot;
أنهى رسالته التي كتبها لأعز أصدقائه:
quot; لربما لن أعود إلى كركوك ثانية.. quot;
أقفل المظروف، ومج نفسا عميقا من سيكارته.
ظل المظروف على مكتبه، وظل هو نائما قربه إلى الأبد،بعينين مفتوحتين، جامدتين.

معلم اللغة العربية
نظر معلم اللغة العربية إلى الباب بغضب. كان التلميذ الذي تأخر عن الدرس يطرقه بأدب استئذانا بالدخول.
انطلقت شرارة من عيني المعلم المختفيتين خلف نظارة سميكة:
ـ لماذا تأخرت عن الدرس؟
هبطت من فم التلميذ جملة حاول أن يجعلها مؤثرة على قلب معلم العربية:
ـ آسف يا أستاذ.. كنت أبحث عن ( كان وأخواتها)!

لاجئون
لم يتحمل القارب الهرم ثقلهم، فكان أن لفظهم إلى قعر البحر. كانوا مجموعة من الرجال والنساء والأطفال. بدلا ان ينزلوا في جزيرة يونانية، انحدروا بهلع إلى قعر مملكة جديدة: مملكة الأسماك والحيتان والقواقع وطحالب البحر!

الأخرس
كان يعتقد ان اسمه، جواز سفر للموت الذي سيصطاده في شارع ما، لذلك كان يحرص على عدم البوح به، محتفظا به كسر دفين أو كمفتاح مصدوء، ملقى تحت أطمار الأبنية التي حولتها الانفجارات إلى هرم من الأنقاض.
قرب تمثال ( المتنبي )، قطعت سيارة طريقه فجأة. نزل منها مسلحون. أحدهم سأله عن اسمه، المفتاح الذي قد يؤدي إلى تصفيته. أحدث الرجل المرعوب أصواتا غريبة،وأومأ بإشارات كثيرة.
ضحك المسلح الملتحي:
ـ يا جماعة اتركوه.. انه اخرس!
ثم عاد إلى السيارة تسبقه قهقهاته المتتابعة.

الأعمى
المذيع يقرأ بيان القيادة بحماس منقطع النظير. بيان وقف إطلاق النار بين العراق وإيران بعد ثمان سنوات من الحرب المدمرة.
صفق كل السكارى الموجودين في البار، بفرح حقيقي لنهاية حرب التهمت أحلامهم، وألغت وجودهم كبشر.
كان الأعمى الذي رصت قناني البيرة أمامه أكثرهم حماسا وتصفيقا. بعد فتور حماسته صاح النادل بأعلى صوته:
ـ سيد.. سيد! رجاءا خذني للتواليت، أريد أن أبول!

بلدي..يا بلدي!
جلس في المقهى وحيدا كعادته، بدا بتصفح جريدته التي يحرص كل صباح على شرائها.
نظر إليه النادل باستغراب، ثم ما لبث أن قال له بأدب جم:
ـ مسيو.. هذا لا يجوز!
نظر إلى النادل باستغراب، وسرعان ما فهم اعتراض النادل الذي قال:
ـ مسيو.. كل الزبائن ينظرون إليك.. لقد حضرت المقهى بالبيجامة!
رد على النادل بهدوء بارد:
ـ انه أمر عادي في بلدي!

الحفيدة
خرجت من المنزل متأنقة ومتعطرة. كذبت على جدتها:
ـ أنا ذاهبة كي ادرس مع سعاد!
عادت بعد ساعات بهدوء، دون أن تلاحظ جدتها، ان ثمة يد عابثة امتدت إلى شعر حفيدتها، ثم إلى صدرها، ثم إلى شفتيها، ثم إلى تضاريس جسدها الغض.
لم تجد تفسيرا للحيوية البادية عليها، والاحمرار الطاغي على وجنتيها.
ضمتها إلى صدرها بحنان:
ـ ستكونين الأولى ان شاءالله هذا العام، لو درست كثيرا كما فعلت اليوم!

قاص آخر زمن!
جلس كعادته قبل انبلاج الفجر. أيقظ قلمه النائم من رقدته. بسط الورقة على مكتبه. بدا قلمه يسوح فوقها. كان يريد ان يمسك بتلابيب قصته التي تأبى الاستسلام له.
اسقط عبارات، لوثت بكارة الورقة:
quot; كان الرجل يتطلع من القطار بعينين مخمورتين على المناظر التي كانت تبدو أمامه كلقطات سريعة من فلم فاشل quot;.
أحس أن هذه الجملة لا تحرث الأرض الخصبة في مخيلته. بدأ بعبارة جديدة:
quot;تأففت المرأة عندما قبلها زوجها. أف.. عشرون عاما وأنا أتحمل رائحة فمك الذي يفوح بالتبغ والخمر!.. ابتعد عني، واترك لي حرية التقيؤ!quot;.

لا.. لا.. أنه ليس صورة الرجل الذي في مخيلته. بدأ بعبارة جديدة:
quot; شنق الشاعر قصيدته، ثم شد حبلا على السقف، بدا بعد أن ادخل رأسه في فراغ الحبل المعقود وكأنه يلبس رباط عنق quot;.
بدأ بعبارة جديدة:
quot; التقيا بعد سنوات حب جارف، تدخل خلالها الزمن الغادر بينهما كجدار برلين. أراد ان يشهد غرفة الفندق أول قبلة محمومة لهما بعد كل تلك السنوات. أشاحت بوجهها عنه راغبة ـ ممتنعة، هامسة: لا تنس بأنني متزوجة! quot;.
شطب على هذه العبارة أيضا. وبدأ بعناد بعبارة جديدة:
quot; كان يهوى عراك الديكة، وكان يثيره إلى ابعد الحدود الدماء التي تصبغ أعرافها بحمرة قانية quot;.
في هذه اللحظة، فوجيء القاص بخروج الرجل من الورقة صارخا في وجهه:
quot; عليك اللعنة، منذ أيام وأنت تتقاذفني كالكرة يمنة ويسرة.. كف عن تعذيبي رجاءا!
يالك من قاص فاشل! quot;.