لقد مرت فترة مؤلمة في تاريخ مدينة بغداد لتصبح معرضا للموت الدائم يوميا، وقد مرت ثلاثة سنوات من تاريخ الاحتلال، وإن الشعور بثقة النفس : أن لا مخرجا لشبح الموت منها. وهذا شعور ينتمي إلى الأحداث نفسها، مدينة الموت الدائم، وما زالت في نفس النوع، ومع ذلك ترتبط مع إيقاع التغير الأكثر تشعبا، الأكثر اتساعا، لا تعد فترة طويلة جدا، ولا تكفل استقرارا، فالتحول أحدث عمقا حاسما، تحول وجه عالمها بعمق أكثر مما طرأ عليها خلال مجمل العهود السابقة من تاريخها الإنساني، وحسب، والموت هو علامة دالة على هذا التحول، وذات يوم من أواخر السنوات الثلاثة، ربما _ هو إسقاط المسافة بين نوم بائع الخضرة، وترحاله، أصبح مرتحلا في كثافة القتل، إذ لا ثقة له في تجاوزه، هكذا استحوذ القتل على مخيلته، بلا تغير في ظل ظروف اليوم في عالم التغير، إنه طور جديد من التغير، يا له من حزن ! حزن يفوق تحمله على مجابهته، يبدو له أنه مدفون في تابوت تحت الأرض في مقبرة ( ك ). هذا يؤلمه كثيرا، وهو ساقطا في قبره، فالعالم الذي يعيشه مع الموتى هو العالم الحتمي له، إنه عالم الغربة الخانق الذي تتزاحم فيه الموتى بشكل يومي، وهناك قوى ما تتخذ موقفا مضادا لهم، وهم المحتلون، والإرهابيون، الذين يدكون آلاف قنابل الحروب فوق رؤوسهم، الحروب لا تنتهي منذ أن قبر في قبره، إنه إدراك عال وعميق بالأذى والظلم، إذ كل واحد متيبس في موته، يرهقه الإحساس بأنه مظلوم، يريد أن يخرج من قبره، ويصحو، ليرى الأحياء، ويوقف بشاعة الحروب، لأن المقبرة امتلأت بالموتى، وبائع الخضرة يردد : ( أن الموتى ينهضون، وإنهم يريدون أيضا تجريد النهايات المفزعة بالموت ). ياله من حزن ! فالأحياء وراء كل معانات الموتى، لأنهم يضجون على الأرض، فلا زالت قنابلهم تتساقط على الموتى، رأى شبحا لأم تحمل على كتفها مسخنة، وهي في طريقها إلى نهر دجلة، إلا أن إرهابيا أوقفها، وأستوضح عن هويتها، ثم قتلها، فسقطت المسخنة فارغة من الماء، وأبناءها في انتظار عودتها، وقد حاور بائع المخضر، روح رجل، كانت عظامه منفصلة عن بعضها، الذي أجريت له مراسيم مناسبة في دفنه بما يليق به فوق الأرض، فعرف منه أنه كان ضحية سيارة مفخخة، فأبلغه إن خرج من قبره أن لا يقترب إلى التحشدات في الأسواق ,أن يكون حذرا من الشاحنات، خاصة تلك التي تنقل العمال فالإرهابي يخدع العمال، ويفجر سيارته بهم أو يقودهم للإرهابيين، وأخبرته روح أخرى أن بعض الدول المجاورة هي التي تدعم المليشيات، وأصحاب السيارات المفخخة، لمحاربة العراقيين عنصرا، وتكوينا، بغية معاقبتهم لأنهم أصحاب خيرات. حاول أن يبحث عن إرهابي، ليسأله : ( لماذا تقتل العراقي ؟ )، أعاقه ذلك لأنهم أشباح، لا يجد من يقترب منهم.
نهض بائع المخضر ملفوفا بعباءة سوداء من قبره ليشبع متعته، ونزعته، وميزته، أنه ينهض من بين الأموات، فهو مكون من عظام وروح، وله إسهام عقلي، ويبصر الأشياء، فتظلل بالظلام دون أن يكشف أحد طبيعته، متوحدا، منفردا مع نفسه، فذهب في بادئ الأمر إلى بيته، طرق الباب، لم يفتح، قفز على السياج، ونزل منه إلى البيت، لم يجد أحدا من أبنائه، سوى ورقة علقت على الباب : ( يجب أن ترحلوا أيها hellip;)، فأدرك إنهم رحلوا من البيت، دون أن يعرف، إلى أين ؟! فجأة مرت سيارة ذات رشاش رباعي، فركض باتجاهها، وهجم عليهم، فأثارهم الرعب، وفروا تاركين الشارع، إذ لم يروا مثله على الإطلاق، لم يبق أمامه سوى أن يرقص، ويتعبد، وحسب نفسه طابعا مقدسا، فصار يمشي بتباه، واستعلاء، حالما تشاهده مفرزة جنود، لم يقترب منه أحد، أنتبه إنه لم ير الناس في الشوارع، أيقن أن منع التجول يسود المدينة، اتجه صوب دكانه، فوجده مقفولا، فأحس بالحزن، وهو ينتشل نفسه من الظلام، متساميا، يسمو إلى نوع خاص من تشكل الوجود فشاهد سيارة حمل واقفة خلف مقودها شخص ملثم، أحس أنها تنوي شرا، فهجم على سائقها، وحطم رأسه، وبالتالي صار يطارد الإرهابيين، وينقذ عليهم، وذات لحظة أراد أن يمر قرب مفرزة الاحتلال فمنعوه، وهم يتكلمون بلغة لا يفهمها، وأطلقوا الرصاص نحوه، فزعق، وهجم عليهم، فهربوا نادمين، وربما هربوا إلى بلدانهم، إنه أشبه بالمنقذ الذي يعرض طريقته في مهرجان طقوسي، فصار يختفي في النهار، ويظهر في الليل، وصارت لحظة ظهوره لحظة ثابتة، ومن المؤكد صار الناس يتحدثون عنها، يتحدثون عن ميلاد مخلص، منتظر، إن ظهوره عيد غامض بطريقة معاصرة، وفي مقابل هذا الظهور رحل المحتلون، وقيد الإرهابيين بسلاسل من حديد، ووزعوا على البلدان العربية، كان ذلك في لحظة متسامية في جلب الآمان إلى بغداد، وهو الغرض الكامل المنشود، فيه تجلي، وأصالة العراقي، الأكثر نموذجا بظهوره المكتمل في تذكر الماضي والحاضر في وحدة شعبية لابد منها، فكان ظهوره الشيء الحاسم لانتشال الحياة اليومية من بؤسها، إنه شئ طبيعي تماما بالنسبة لعصر الفوضى، واللامعقول، وابتهال سماوي لتضمن لأهل بغداد الفضل، كما أيقن بائع المخضر، التحول في الوجود، وأن ممارسته، وطقوسه، وتعبده في الحياة لم يكن إلا كابوس الموت الذي يسود بغداد المفجوعة بعد أن نهض من منامه، ووجد ورقة تهديد : ( يجب أن ترحلوا أيهاhellip;) فجمع أهله، وارتحل مع أهله من المنطقة، وهكذا تشكل الكابوس أمام عينيه في صورة يتعرف عليها، وتخبره إظهارا لحقيقة تخيله، حقيقة مطمورة في نفسه تستدعيه من الأعماق، متخفية، تخاطبه لينجو بعائلته، وهذا ما حدث له من خلال التجلي في النوم، والطقوس اليومية التي تمر بها بغداد، فهذه خاصية متأصلة في طبيعة الحياة، تنطوي على مفارقة لتكرار إيقاع كوني، يسمو فوق كابوس الموت، إلا أن الأزمنة لا تمر على وتيرة واحدة، فلازالت مخيلته وهو صاحيا لها القدرة الشرعية لمشاعره العميقة بنزوعها الغريزي، القدرة على إنقاذ الوطن، ولو كان ذلك من خلال كابوس الموت.