في الوقت الذي كان جلجامش ثلثه إنسان، وثلثاه إله، ابن الآلهة ننسون زوجة ملك أوروك لوجالبندا، يستيقظ من التاريخ عجوز بلحية بيضاء، وشعر طويل أبيض، وبملابس سومرية، في غروب اليوم السابع من الشهر السابع، مفجرا الزمن، مفككا أجزائه، ليظفر بأسطورته ثانية، ويعيد محاولة مراجعة التاريخ، وإعادة كتابته، منتهجا كمالا خلقيا بعد ما رآه، ووجده في العالم السفلي، فجلس، وبكى ليس على موت صديقه أنكيدو، الذي خلقته آلهة الجنس البشري، آورورو من قبضة طين رمتها في الفلاة، بعد قرار الآلهة ليكون ندا لجلجامش، فسوف يتوقف طغيان جلجامش، وقسوته على رعيته، فكان يعاشر كل عروس في ليلتها الأولى، مما حدا بشعبه الشكوى عند مجمع الآلهة، فاستجابة الآلهة بخلق أنكيدو الذي نشأ في البراري بين الغزلان، يأكل الأعشاب، ويشرب الماء مع الحيوانات، يطوف الفلاة مع القطعان، فعرف جلجامش بهذا المخلوق الغريب، الشعر الكثيف يغطي جسده، فطلب من كاهنة حب من معبد عشتار أن تذهب إليه، وتغويه، وتستميله بمفاتنها، إلى أحضانها، تلامسه، ويلامسها ثلاثة أيام، هكذا تربصت له عند عين ماء ثلاثة أيام، فظهر، ووقع في مأربها، وعندما حاول العودة إلى البراري، أحس بثقل في ساقيه، وضعف في جسده، فعاد إلى كاهنة المعبد، التي تبدأ تخبره عن أوروك، وملكها جلجامش، وتعلمه أكل الخبز، وشرب الخمر، وتلبسه الثياب، وتدربه طريقة الحياة المدنية، وتشجعه على منازلة جلجامش، فتقوده إلى أوروك، وبينما جلجامش يضع قدمه على عتبة باب المعبد لاداء طقوس العيد،حيث تنتظره عروس هناك، فتصدى له أنكيدو، وتحداه، فدخل الاثنان في صراع شديد، وبشراسة، وطرح جلجامش أنكيدو أرضا، وانتهت الغلبة لجلجامش، وهكذا حظي أنكيدو أن يصبح صديقا لجلجامش. أجل جلس، وبكى جلجامش عما رآه في أوروك من خراب، فلم يبق منها إلا يباب، وأطلال، وفوضى، وها هو ذا لم يعثر على السور العظيم الذي بناه السومريون، ليحبط اللغط البشري كله، حتى لا يبقى من الماضي البعيد شيئا مخفيا، كل الأشياء تزول إلا العظيمة، والعجيبة، ولو أنها من الماضي برائحتها، ونكهتها، وتدوم فترة فوق أنقاض كل ما هو باق، كل شئ يبدو في انهيار، وهو يستوعب إعادة المعجزة دون شك، أصيلة، حقيقية، تتدفق استجابة، ودوام، لأن الدمار يعم أوروك والضجة تنبعث من كل مكان، وتتناهى إلى سمعه، فها هو ذا يأوى إلى شجرة نخيل، كانت عيناه ترشقان النخيل بنظرات لا تهملان سموها، براعتها، ثم تتراءى له كأنها منسلخة من تفجر الزمان، حقيقة كل ما فيها من عناقيد الرطب، تتجلى حزينة، وتحاول أن تتستر خفية على بؤسها، كانت النخلة تستهويه بجمالها، ورونقها، وقد استغرق في تأملها حتى أذهلته بحركة سعفها، وتبدو كما لو تومئ إليه عن تعاستها. النخلة تجذبه، وتتحدث معه بلغة خفية، لذلك لاذ إليها، وعاود النظر إلى البيوت الخربة، فقطب حاجبيه، وطرف بعينيه، وهو يبذل جهدا أن يفهم، ويسمع، ويرى، وهو يصرخ في أعماقه: - هذه أوروك بائسة، يتيمة! مضى عليه وقت، وهو يخف إلى الأشياء، كي يدركها، ويستوضح منها بنظراته، آنذاك، وقع نظره على الفرات الخالد، وتعدت نظراته إلى الضفة الأخرى التي لم تكن في حلة أنيقة، مزينة بالنخيل. غفي غفوة صغيرة قرب شجرة نخيل، وهو يتقلب في مضجعه مؤرقا عينيه السوداوين، مداعبا شعره الطويل، يستطيب أن يكون تحت تاج نخلة يستهدي بجمالها، وحسن قامتها، فبدا ساهيا أكثر مما هو غافيا، تأخذه الذكريات الخاطفة، العابرة، وتواكبه في يقظته رحلة أخرى، موغلة في البعد ناسجا خيوط دقيقة مترابطة في ذاكرته، تلك غابة الأرز، دخلها مع أنكيدو، وقتلا حارسها المخلوق الضخم والقبيح خمبابا، الذي عينه الإله إنليل إله الهواء، والعاصفة المدمرة، وأوكله برعاية الغابة، فقد اقتحما الباب المسحور، ثم أخذا يقطعان الأرز، ودارت معركة بين الطرفين، فمدهما الإله شمش بثمانية أنواع من الرياح هبت في وجه خمبابا، وشلت حركته، فانقضا عليه، وقتلاه. كانت تهز جلجامش صدمة عنيفة كلما تذكر موت صديقه، على أثر قرار الآلهة بعد أن عقدوا اجتماعا وقرروا أن يموت أحد البطلين عقوبة لهما على قتل خمبابا، والثور السماوي، فاختاروا أنكيدو، فلزمته حمى ثم أسلم الروح بين ذراعي كلكامش، فقد أخذه البكاء، وقطع شعره لحزنه على صديقه، ولم يدفنه إلا عندما خرجت دودة من أنفه، فهام على وجهه يطلب الخلود.تخضلت عيناه بالدموع، وأصيب بالذهول القاسي لخراب أوروك التي تعلق قلبه بها، وبمجتمعها، هكذا كان يحرك عينيه بقلق شديد، ويؤرقه الجفاء والفتور، فعرف المرارة، والخيبة وهو يبحث عن ماضيه جبروت وعظمة، وشهد الحياة، ماضي مستلة خيوطه القديمة من سور أوروك العملاق، ها هو ذا جلجامش منزو، وحيدا، يتراءى له عدوه يلتهم الحياة الذي رقد فيه، وشرب دمه، وتغذى على جسده، هذا العدو لا يعرف غير الموتى، ولذلك أطلق عليه عالم الموتى، من يدخله لا يعود، إلا أن الآلهة أجمعت على عودة جلجامش ليعود بأوروك إلى عظمتها هل يمكن استعادة زمنه ؟! هذا ما سأل جلجامش نفسه، ونهض واقفا مذهولا، أنه يسمع لحنا على قيثارة سومرية، أنغام تتردد ثم تتوقف، وتغيب، تحاكيه أثيرة، تخاطبه، وتتجاوب مع روحه، وتستقدم الذكريات، تنقذه من سباته، وتتفتق صورا من عالم ضائع، راعشة النغمة، مناسبة لهذا الزمان، انسياب دافئ، حنون، منعش، ترجيع من نسيم الفرات، يتعاطف مع النغمة، كائن حي تداعب أصابعه القيثارة، تنسيه عالم الأموات، تقدم جلجامش نحو مصدر النغمة، والدمعة نفسها متعلقة بعينه التي ودع فيها أنكيدو، كان يمشي، ويصغي منتشيا، طربا، لأنها لصيقة بأوروك، وقد ميز من ثنايا النغمة: جلجامش حي! أجل جلجامش حي، إذ تسللت روحه من العالم السفلي، طافية فوق الفرات لأن قبره تحت مياه الفرات، هاجت شجونه، بعد ما انفردت به نغمة: جلجامش حي! كانت النغمة متمهلة، بطيئة، محددة، فجأة، أصبحت سريعة، غيرت نمطها، متكررة، حزينة، نقلته إلى هيامه بالبحث عن الخلود، سكن اللحن، ثم انطلق متسارعا ثم اختفى. وقف جلجامش أمام كوخ صغير من القصب،والبردي، الذي منه أنطلق اللحن، دفع الباب، ووقف عملاقا قبالة عجوز تداعب أصابعها القيثارة، فتمتم بصوت خافت متعجب: - سيدوري!
: - أجل، سيدوري ساقية حان الآلهة منذ أن ضاع الزمان!
: - أنا الملك جلجامش، هل تتذكريني ؟!
: - أجل، أتذكرك جيدا عندما كنت ترتدي جلود الأسود، أشعث، اغبر، متعب، هائم في البراري، تبحث عن الخلود.
: - أين الآلهة، أين المعابد، أين سورها الضخم، أين السومريون ؟!
: - الآلهة هزمت، المعابد حرقت، السور خرب، السومريون أخذهم الطوفان ؟!
: - أين أجد اوتناباشتم ؟!
: - في جزيرته المسحورة بالأهوار، وليرافقك ملاحه أورشنابي، أنه على ضفة الفرات ؟!
انطلق جلجامش بسرعة، إلى حيث أشارت له سيدوري، وكان أورشنابي يحتطب لسيده، وهو الوحيد الذي يستطيع بقاربه الوصول إلى الجزيرة، الذي يصاب بالشلل كل من يصل مياهها، وهي مليئة بكنوز الذهب، وتسمى جزيرة حفيظ، ولها دروب خفية بين القصب والبردي، فإلتقاه أورشنابي ببهجة لا مثيل لها، وتخضلت عيناه بالدموع، وهو يردد: - الغزاة دمروا أوروك، دمروا وادي الرافدين hellip;
: - أريد أن توصلني إلى أوتناباشتيم الذي استطاع تحقيق الخلود من دون السومريين hellip;
: - لقد انتهى كل شئ hellip;لأنك دست على الرقم السحري، وحطمته، وهو الوحيد الذي يساعدنا على عبور المياه المسحورة hellip;فالذي تلامسه المياه تسحره، وتشله في مكانه hellip;
فبعد التداول، وتقليب الأمور، توصل اورشنابي إلى فكرة مفادها: يجدفان بالمجداف لقطع نهر الفرات، والدخول في الأهوار، وهناك يحتطب جلجامش مائة وعشرين قصبة، طول الواحدة ستين ذراعا، تستخدم كمردي، يدفع القارب به، ويتركه في المياه حتى لا تلمس يديه المياه، وتسحره، وهكذا فعل جلجامش، ودخل القارب بين دروب مظلمة تحت القصب، ومنافذ صعبة، وجزر مخيفة، تطير منها البلابل، وطيور الوز، والبط، والبرهان الجميل الشجاع الذي يفصل الدجاج المائي أثناء عراكه، وإلا يهاجمها، وينقرها برؤوسها. كانت المياه صافية، والهواء ساكن فوقها والطيور ترفرف مغردة، ولم يدرك جلجامش نفسه إلا وهو يمر بمنفذ مظلم، تواجهه جزيرة صغيرة، دارها قصب وبردي، يقف في واجهتها أوتناباشتيم وبجنبه زوجته، رحب بهما، وقص عليه جلجامش ما جرى له من عذاب في العالم السفلي، وكيف خرج منه بأعجوبة، وطلب منه أن يحدثه كيف نال الخلود، وكيف انهارت أوروك، ووقعت تحت الاحتلال ولم يبق من السومريين سوى سدوري، واورشنابي. حدثه عن طوفان الفرات بعد انزعاج الآله من التطور الحضاري الذي حققته أوروك، مستخدمة أسلوب الإنتاج التعاوني، فكثرة المحاصيل، والثروة الحيوانية، وحصل الشعب على الرفاه، وقلت ساعات العمل، فأكثر الشعب من الاحتفالات حيث عيد رأس السنة يطول إحدى عشر يوما، وقررت أن تقضي على آخر بذرة فيه، وهكذا فاض الفرات، وأمطرت السماء، وأظلمت الدنيا، بينما أنا كنت ملك شورباك، وأخبرني بقرار مجمع الآلهة الإله أيا الذي حضر الاجتماع، وأوحى لي بإنقاذ الجنس البشري من الفناء ببناء سفينة عملاقة أضع فيها زوج من كل كائن حي، فحشرتها بأهلي وأصحابي من ذوي المهن، وأبحرت في الفرات والأمواج تتقاذف السفينة ستة أيام، وفي اليوم السابع انتهى الطوفان، ورست السفينة على قمة جبل نصير، فنزلت من السفينة، وقدمت ذبائح قربانا للآلهة، فشمت الرائحة، وتجمعت حولها، وفرح الإله أنليل بإسباغ نعمة الخلود علي، وعلى زوجتي، ثم قال: - والآن يا جلجامش ماذا تريد الخلود أم إنقاذ شعبك ؟!
كانت يده تسترسل على لحيته، وعيناه مخضلتان بالدموع، وهو يتفكر بالإجابة، فقد فشل الاختبار الأول أن يكون يقظا ستة أيام في الزمان المفقود، وعندما أخبره أوتناباشيتم برجاء من زوجته أن لا يعود خالي اليدين إلى أوروك، أخبره عن مكان نبتة شوكية في المياه العميقة، مسكن الإله أنكي، ترجع العجوز إلى شبابه، فربط برجليه حجرين ليغوص في عمق المياه، واقتلع النبتة بعد أن أدمت يداه، وقطع حبل رباط رجليه بالحجرين، و نط إلى سطح المياه فرحا، وهو يشكر أوتناباشتم، ويردد (سأجعل شيوخ أوروك يأكلون منها، وعندما أصبح عجوزا سآكل أنا منها ). كان جلجامش يتذكر، ويتفكر في الزمن المفقود، وهو شاب، نزل إلى بركة باردة صافية بغية أن يستحم، ووضع النبتة على الضفة، فجاءت حية، وأكلتها، ونزعت جلدها القديم، هكذا جلس جلجامش بعد خروجه من البركة، وبكى، حيث فقد إمكانية عودة الشباب من الشيخوخة، أجل، كان جلجامش يتفكر، ويتذكر، فأجاب بصوت خافت بعد أن سحب نفسا عميقا من داخله
: - إنقاذ الشعب hellip;
: - خذ هذه القلادة الذهبية، وعلقها إلى عنقك، فسيصدقك شعب وادي الرافدين hellip;
أخذ القلادة، وعلقها إلى عنقه، وودع اوتناباشتيم وزوجته، أما أورشنابي فطلب منه أوتناباشتيم أن يرافق جلجامش، ولا حاجة له به، وأنه سينتقل إلى جزيرة أخرى.انطلق الاثنان عائدين إلى سيدوري، وقصا لها لقائهما بأوتناباشتيم، فسألت جلجامش: - ماذا ستفعل ؟!
: - سأدعو الشعب إلى الوطن الواحد، وانسحاب المحتل hellip;
: - وأنا، ماذا سأفعل ؟!
: - ستلحنين أغاني الحرية والسلام.
والتفت إلى أورشنابي، وقال له: - أما أنت، سترفع راية وادي الرافدين، وتطرزها بالكلمات عدالة، حرية، مساواةhellip;