يتبنى الناقد والمخرج المسرحي ياسر عبد الصاحب البراك مؤسس جماعة الناصرية للتمثيل، مفاهيم وآليات يرى فيها مصدراً من مصادره المهمة في أداء رسالته في المسرح، حيث يقول دائماً (أنا مسرح يتحرك). ومن هذه الآليات تراه يعمل وبشكل مستمر على آلية يصطلح عليها اسم: آلية (المثاقفة) وهي من وجهة نظره التبادل المستمر للثقافة بواسطة التواصل بين المثقفين، والعمل على أن يكون كل فرد هو مصدر ملهم لتفعيل ثقافة الآخر. فتراه يرى فيها (أي المثاقفة) منهجاً يومياً يمارسه مع جميع من حوله، أصدقائه.. أقاربه.. بل حتى زوجته وأطفاله الصغار. انه يحاول أن يجعل نفسه وكل من حوله مصادر مشعة لنشر الوعي الثقافي عموماً، والوعي المسرحي بشكل خاص، بحكم تخصصه المسرحي.
إن البراك يحاول أن يسخّر كل الخدمات التي تظهر لتفعيل تلك الآلية، فحين دخلت خدمة الهاتف النقال، بدأ يحثنا على اقتناء خطوط هاتف، يستطيع من خلالها كما أعتقد أن يظل على تواصل مستمر مع أصدقائه في كل زمان ومكان قد لا يكون فيه معهم، في منازلهم وفي أماكن عملهم، بل معهم حتى في مخادعهم الزوجية، انه يحاصرهم بشكل فعال حرصاً منه على أن لا تضيع أية فرصة لمحاضرة أو درس أو رأي.. انه يحاول أن يذكرهم في كل وقت أنهم مسرحيون، يذكرهم حين تسحبهم مشاغل الحياة.

وهنا يعلمهم الدرس الأول في المسرح.
ففي مساء الثلاثاء الماضي 1/6/2005 , وكعادته حين يشاهد أي عمل مسرحي مهم، أو برنامج ثقافي، أو لقاء مع مثقف ما على القنوات الفضائية المختلفة. أرسل للجميع (مسجات) كاتباً بها: (سعد الله ونوس على قناة إل بي سي الفضائية).
كان مساء الثلاثاء موعداً للبراك وأصدقائه مع المسرحي سعد الله ونوس وسيرة حياته وتفاصيل بعض أعماله. سعد الله ونوس كان دائماً موضع نقاش وعرض وتحليل في ورش جماعة الناصرية للتمثيل، حيث ينشط البراك وأصدقائه. فكانت الشاشة الصغيرة تلك الليلة ملكاً لسعد الله ونوس والمسرح الحقيقي.
الجميع كان يستمع لسعد الله ونوس رغم مرور سنوات على رحيله، فهو لازال يعلمنا. سعد الله ونوس كتاباً مهماً يفيض مسرحاً وحباً وحياة، كونه يرى في المسرح دعوة بريئة للحب والحياة، وكون الحياة هي مسرحاً وحب، وكون الحب هو مسرحاً تلونه الحياة. إنها جدلية الحياة والحب والمسرح وعلاقتها التي ألم بها سعد الله ونوس وعمل عليها طوال حياته المسرحية الغزيرة بالنتاج المسرحي العملي والنظري على حد سواء.
هنا قفزت في مخيلتي تساؤلات، تشظت فيما بعد لتصبح مقلقة ومربكة، دعتني إلى رفع قلمي هذا المساء. هذه التساؤلات تبدأ من نقطة غاية في الأهمية مفادها.. كيف يجب أن تكون علاقة المسرحي بالمسرح؟ ثم مرت هذه التساؤلات بمقام الخالدين في المسرح، كيف كانت علاقتهم بمسرحهم ليخلد، ويخلدون معه؟ وهنا وكمسرحي عراقي بالتأكيد قفز تساؤل مسرحي عراقي.. كيف هي علاقة المسرحي العراقي اليوم بمسرحه؟
لا أراني أبداً مقيماً أو طارحاً لأراء أو أفكار جديدة لكن المسرح علمنا أن يكون السؤال هو بداية الإجابة، كون الإجابة هي نقطة الانطلاق نحو التغيير، ألسنا في فترة التغيير !
سعد الله ونوس صور لنا علاقة حقيقية وصادقة مع المسرح، فجعل منه همه اليومي الذي يعمل على أن يكون مصدرا من مصادر الحياة والتغيير.. وحين صرح في المقابلة قائلاً: (لم يستطع المسرح أن يغيّر الواقع، لكنه بالتأكيد لم يجعله أسوء) بيّن فهمه المبطن لدور المسرح، كون سعد الله ونوس على يقين كامل أن المسرح قادر حقيقي على تغير الواقع، لكن أرى انه أراد بهذه الكلمة أن يصور وضع المسرح العربي الآن بأنه قاصر عن أداء دوره في التغيير، وأعتقد أن أحد أهم أسباب ذلك هو علاقة المسرحيين العرب المتدهورة بمسرحهم.
سعد الله ونوس يفهم واقع المسرح العربي بشكل واضح، فلقد عمل ونظّر على بناء مفاهيم وأسس متينة للمسرح العربي من خلال تجربته المسرحية.
أنا أرى، أن العلاقة بين المسرح والمسرحيين مبنية على أساس (عبادي) بحت، و (العبادية) هنا أعني بها القدسية التي يجب أن يتعامل بها المسرحي مع المسرح ككيان مقدس. هذه القدسية (العبادية) لم يتصف بها المسرح بشكل طارئ أو مكتسب، وإنما أرى أن المسرح الإغريقي وعمالقته آباء المسرح الخالدون، تركوا لنا بصماتهم إلى يومنا هذا في خلق (روح المسرح) وكلنا يؤمن أن للمسرح روح اتصفت بالقدسية (العبادية)، من حيث الطقوس والأجواء الممسرحه التي تميل إلى الميتافيزيقيا تارة والى البحث في ما وراء المادة المسرحية تارة أخرى.. إنها فعلاً محاكاة لروح المسرح العبادية.
(عبادية المسرح) وكونه مكاناً مقدساً كما صرح بها الكثير من المسرحيين، هو المفهوم الذي طرحه لنا سعد الله ونوس في ثلاثائه الماضية، يعلمنا.. أن هذه العلاقة هي التي تجعل من المسرحيين كسبة حقيقيين لمعطيات القدسية في المسرح. أما الطارئون والانتهازيون وحتى المستخفون واللامبالون، لقدسية المسرح، فأراني أعتقد أن (روح المسرح المقدسة) لاشك ستثيبهم الفشل والضياع على خلاف ما وهبت سعد الله ونوس من الخلود.

فربما ديونسيوس لازال يرعى المسرح!
من هنا لابد لي أن أتساءل هل ما يحصل من انتكاسة في المسرح العراقي هي تحصيل حاصل لنوع العلاقة التي تربط المسرحيين العراقيين مع مسرحهم؟ هل التراجع الملحوظ لتأثير المسرح في المجتمع العراقي هو لارتباك هذه العلاقة؟
إن ثلاثاء سعد الله ونوس والتي ألهبت مشاعر البراك وصحبه حتى ذرفوا دموع الحزن على ونوس ودموع الحزن على واقع المسرح ودموع الحزن على واقع المسرحيين. هي نفسها التي وضعت أيديهم على درس مهم في العلاقة الصحيحة بين المسرح والمسرحيين. وما خلود سعد الله ونوس وآراءه في المسرح إلا نتاج طبيعي لتفهم هذا الرجل لتلك العلاقة. ونحن في المسرح العراقي اليوم في أمس الحاجة لشخوص مسرحية تتفهم هذه العلاقة وتحاول أن تصحح مسارها، بعد أن طغى عليها أشكال وشخوص أساءوا إلى رسالة المسرح المقدس !