الحلقة الأولى

لقد أوعدت قراء موقعي الروحي "إيلاف" أن افصل لهم بسيرة النبي الكريم، وذلك من خلال تقييم جديد للنصوص الواردة في كتب السيرة، متناُ وسندا، وفي ضوء قراءة تفتش دائما عن المخفي، باعتباره هو الجوهر التاريخي، ولذا قد لا يهمني نص طويل مفصل بقدر ما يهمني نص عابر، مهمل، ولا أقيم وزنا لتقييمات دينية سابقة لهذا الصحابي أو ذاك، فتلك قضية أخرى. ولم أنطلق في هذه الكتابة من بواعث دينية صرفة، رغم أني لا يمكن لي أن انفيها، لأني في ذلك أكون مكابرا، وأتناقض مع منهجي الذي يؤكد على أهمية السابقة التاريخية والثقافية و البيئية في التفكير والاستنتاج، بل حتى في هوية المنهج، ولكن أحاول أن أتجرد جهد الإمكان، و أنطلق بقدر الممكن من الحرص على اكتشاف أو مقاربة الحقيقة إن شاء الله تعالى.
والحقيقة لقد أبتلي التاريخ الإسلامي خاصة السيرة النبوية بكتاب لا يجيدون قراءة النص بهدوء وصبر، ويفتقدون إلى منهجية الغوص في دواخل النصوص، وليس الآن محل كلامي عن هذه القضية، فقد أتطرق إليها لاحقا، ولكن استغل الفرصة لأبين عشرة مقاربات في تعاملي مع النص الذي يتصل بالسيرة النبوية، أسطرها على عجل وربما نفصل بها في فرصة مناسبة.
1: النظر في السند نظرة دقيقة فاحصة، ولا أكتفي بكتب الجرح والتعديل، على أني آخذ بجرحها، ولا ألزم نفسي بتوثيقها الإيجابي.
2: التدقيق بالمتن، على صعيد الموازين اللغوية.
3: عرض النص على القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم أصدق وثيقة تاريخية عن النبي والرسالة المحمدية، وليس هنا مجال لبيان كيفية هذا العرض ومستحقاته.
4: المقارنة بالنصوص الأخرى مما يحكي لنا عن السيرة.
5: عرض النص على قيم ومعايير وتقاليد وثقافة العصر الذي عاشه النبي الكريم.
6: تحكيم المعايير الواقعية في النص والابتعاد عن لغة المعجز.
7: التعامل مع النص على أساس الشك المسبق.
8: استخلاص القدر المشترك فيما تعددت الصيغ، بعد عرض النصوص للنقد السندي والموضوعي والعقلي والقرآني.
9: نقد المؤرخ، طريقة ورواة.
ولي عودة لكل فقرة بالتفصيل إن شاء الله.

أربع سرايا
كثيراً ما يخلط الناس بين الغزوة والسرية، فيما هناك فرق بين المصطلحين، فإن الغزوة بقيادة النبي الكريم نفسه، كما هي غزوة بدر وأحد وغيرهما، فيما السرية هي بقيادة أحد أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ويحصي المؤرخون ثمان وعشرين غزوة للنبي أو سبع وعشرين تسع منها قتالية، وحققت تسع عشرة منها مقاصدها بدون قتال، وقد استغرق ذلك سبع سنين من سيرة النبي. فيما كان عدد السرايا سبعا وأربعين سرية، في غضون تسع سنين.
يتعرض كتاب السيرة إلى السرايا التي بعثها رسول الله منذ دخوله المدينة وحتى معركة بدر التي أختلف في توقيتها بالضبط، ويختصر لنا ابن حجر العسقلاني الاختلاف بقوله (أما غزوة بدر فمتفق عليه بين أهل السير: ابن إسحاق وموسى بن عقبة وأبو أسود وغيرهم، واتفقوا على أنها كانت في رمضان، قال ابن عساكر: والمحفوظ أنها كانت في يوم الجمعة، وروي أنها كانت في يوم الاثنين، وهو شاذ، ثم الجمهور على أنها كانت سابع عشرة، وقيل ثاني عشرة، وجمع بينهما بأن الثاني ابتداء الخروج والسابع عشر يوم الوقعة) / تلخيص التحبير 4 / 89 /، وهي وقعت في السنة الثانية للهجرة كما هو معلوم. وقد أحصى هؤلاء الكتاب أربع سرايا قد بعث بها الرسول خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة نسبيا. وهي كما وردت في كتب السيرة، ما يلي: ــ
الأولى: سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب... ويجعلها ابن إسحق السرية الأولى، فيما خالفه الزهري وموسى بن عقبة والواقدي، فذهبوا أن بعث حمزة كان قبل بعث عبيدة بن الحارث. قال ابن اسحق: (فكانت راية عبيدة بن الحارث ـ فيما بلغني ــ أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام) / سيرة ابن هشام2ص 245 /

الثانية: سرية حمزة بن عبد المطلب بن هاشم... ويؤرخها الواقدي بقوله (وكانت سرية حمزة بن عبد المطلب في رمضان، على رأس سبعة أشهر من مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم) / ص 9 /. ويعلق ابن اسحق على ذلك بقوله (وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أنَّ بعثَه وبعث عبيدة كانا معا، فشبه ذلك على الناس... ص 246).

الثالثة: سرية سعد بن وقاص حسب تصنيف ابن اسحق (وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ ا لخرَّار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيدا) ص 251، ويضيف الواقدي بأن هذه السرية كانت على رأس تسعة أشهر من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابعة: سرية عبد الله بن جحش، وفيها نقرا في سيرة ابن هشام (وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب... وبعث معه ثمانية من رهط المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد.... سيرة ص 252)، وكانت على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجرة الرسول الكريم على حد ذكر الواقدي (ص 13)، تسمى سرية (نخلة)، لأنها متوجهة إلى هذا المكان بالذات بأمر النبي الكريم، ونخلة هذه، بستان ابن عامر الذي يقرب من مكة.

مناقشة الواقدي
يورد الواقدي خبر سرية حمزة بن عبد المطلب بلا سند، ويذكر في تضاعيف روايته ((بعثه في ثلاثين راكبا شطرين، خمسة عشر من المهاجرين، وخمس عشر من الأنصار ص 9) ويفصِّل في الأسماء، ولكن الواقدي نفسه يروي بما يناقض هذا الكلام، وذلك في نهاية حديثه عن سرية حمزة بالذات (حدثني عبد الرحمن بن عياش، عن عبد الملك بن عبيد، عن ابن المسيب وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قالا: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الأنصار مبعثا حتى غزا بنفسه إلى بدر، وذلك أَنَّه ظن أنهم لا ينصرونه إلاّ في الدار، وهو الثبت.... ص 10)، وكرر الرواية في حديثه عن سرية سعد بن أبي وقاص، ولكن بصيغة تعليلية أخرى (... وذلك لأنه شرطوا له أن يمنعوه في دارهم... ص 11) . وهناك ثمة فرق بين الصورتين من التعليل، ولكن الرواية مرسلة كما هو واضح، لأنها تنتهي عند سعيد بن المسيب، وهو تابعي، كذلك عبد الرحمن بين سعيد بن يربوع، فقد توفي في سنة تسع ومائة عن عمر وهو ابن ثمانين سنة (التهذيب 6 / 376)، فهو ليس صحابيا. وهنا ملاحظة دقيقة، أن الواقدي صدَّر الرواية بصيغتها الثانية، أي كما رواها في حديثه عن سرية سعد بن أبي وقاص بقوله (فيقال...)، مما يعني أنها ضعيفة أو ليست ذات ثقل يقيني لديه، فكيف نجمع بين هذا التصدير التمريضي وبين قوله (وهو الثبت...)، في نهاية الرواية في صيغتها الأولى أي في مجال كلامه عن سرية حمزة بن عبد المطلب؟
أن هذا الاختلاف ليس سهلا، فهو دليل على ارتباك الواقدي في اتخاذ الموقف الأخير، فهو بدايةً يُمضي ما يفيد المناصفة بين الأنصار والمهاجرين في السرية، ثم ينقض ذلك بروايته عن سعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، ثم يتردد في ذات الرواية أثناء إيرادها في كلامه عن سرية سعد بن أبي وقاص الصحابي المعروف؟

هل هذا تاريخ؟
وهل هذه مادة تاريخية يمكن تشييد بناء تاريخي متين بالاتكاء عليها؟
يرى صاحب الطبقات ما عليه ابن اسحق، من أن النبي الكريم لم يغز في الأنصار حتى بدر (قال بعضهم: كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار، والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنصار مبعثاً حتى غزا بهم بدرا، وذلك أنهم اشترطوا له أنهم يمنعونه في دارهم، وهذا ثبت عندنا ص 6).
من كل هذا الاستعراض يمكن الاطمئنان إلى أن الرسول لم يغز بأنصاره من أهل المدينة، حتى غزا بدر، والتعليل هو التعاهد ا لذي كان بين البني والأنصار، ذلك أنهم شرطوا له أن يمنعوه في دارهم.

بين الواقدي وابن اسحق
هناك خلا ف بين المصدرين في زمن السرايا الثلاث، أي سرية الحارث بن عبيدة، وسرية حمزة بن عبد المطلب، وسرية سعد بن أبي وقاص، ففي حين يجمعها الواقدي في السنة الأولى من مهاجرة الرسول الكريم، يجعلها ابن اسحق في السنة الثانية، ويعلق الطبري على ذلك بقوله (قال أبو جعفر: وقال ابن اسحق في أمر كل هذه السرايا ا لتي ذكرت عن الواقدي قوله فيها غير ما قاله ا لواقدي، وأن ذلك كله كان في السنة الثانية من وقت التأريخ... 3 ص 17). والطبري يشير بقوله هذا إلى ما جاء في السيرة لابن اسحق (وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ـ يقصد عبيدة بن الحارث ـ حين أقبل من غزوة الأبواء، قبل أن يصل المدينة... ص 245)، ولما كانت سرية الحارث هي الأولى في رواية ابن اسحق، يثبت لديه أن السرايا الثلاث هذه كانت في السنة الثانية من المهاجرة الشريفة.
ولكن الزعم يطلق على الظن، وفي مصباح اللغة أكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه، ولا يتحقق... وأخيراً هو اعتقاد لا يبتني على أساس موثق !
أورد ابن اسحق خبر سرية سعد بن أبي وقاص بلا سند، وفي عرض خاطف لا يتجاوز بعض كلمات، ولكن الواقدي يقول (فحدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج يا سعد حتى تبلغ الخرَّار، فإن عِيراً لقريش ستمر به، فخرجتُ في عشرين رجلاً أو أحد وعشرين على أقدامنا، فكنا نحن نكمن في النهار، ونسير في الليل،حتى صبَّحناها صبح خمسٍ، فنجد العير قد مرَّت بالأمس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ ألاّ أجاوز الخرار، ولولا ذلك لرجوت أن أدركهم ص 11)، مما يعني أن خبر الرواية مسند لدى الواقدي، فهل يجبر ذلك النقص في رواية ابن اسحق؟
رواية الواقدي صحيحة السند حسب معطيات علم الرجال السني لولا أن يكون راويها الواقدي، فالرجل متفق على ضعفه عند السنة (اعلام الذهبي رقم 172)، لأن بقية السند ثقاة في كتب الرجال السنية، ولكن رغم ذلك أشك فيها ، لأن كل رواة السند ينحدرون من صلب سعد بن أبي وقاص، ومثل هذه الظاهرة تثير الشك، مهما قيل عن توثيقهم. فـ (أبو بكر إسماعيل هو بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ... تهذيب 1 / 592)، و(عامر بن سعد بن أبي وقاص هو عم إسماعيل ومن ثم شقيق محمد بن سعد أبي وقاص... تهذيب ص 5/ 106). على أن ابن اسحق كما قلتُ يأتي على ذكر سرية ابن سعد في سطرين، فيما فصَّل الواقدي إلى حد ما ، ويتوسط ابن سعد بين الاختصار والتفصيل (ص7).