قد أتفق مع الكاتب المصري الأستاذ فهمي هويدي في بعض ما طرحه في مقاله الأخير ( درس الحالة التركية)، غير أنني أختلف معه إختلافاً جوهرياً في النتائج الذي انتهى إليها.
صحيح أن التجربة الإسلامية التركية، التي نعاصرها، ونعاصر نجاحاتها، هي تجربة إسلامية في (التعريف)؛ وصحيح ndash; أيضاً - أنها حققت على أرض الواقع من النجاح في السياسة وفي الإدارة وفي العلاقات الدولية مع الآخر، ما تدعمه الأرقام قبل الأقوال. أما الذي أختلف معه عليه (إيحاءاته) بأنها تجربة استقت من ثقافة الأخوان المسلمين، ومن التراث (الإخواني) في مصر، الكثير من عوامل نجاحها.

التجربة التركية الإسلامية تقوم أساساً على المزاوجة (عمليا) بين علمانية أتاتورك وبين (فقه الواقع) في التراث الإسلامي مع قدر كبير، و كبير جداً، من التطوير والتحديث ومواكبة متطلبات العالم الحديث؛ الأمر الذي جعلها تنتهي إلى هذا النموذج الذي يتكون كفلسفة من شقين: العلمانية الأتاتوركية و الإسلام المنفتح، وهذا يعني أن الفصل بين هذين الشقين يعني انهيار التجربة بالضرورة. بينما أن ثقافة الأخوان المسلمين، كانت، وما تزال، ولم يتغير خطابها حتى الآن، تعتمد في أفكارها وحلولها وتجربتها، على اعتبار أنها حركة تستقي من (الأممية) و (الثقافة العثمانية) كفكر أغلب مفاهيمها.

فإذا كان الأخوان المسلمون سيقتفون أثر التجربة التركية، ويستفيدون منها، كما ينصح الكاتب، فيجب ndash; أولاً ndash; أن يتخلوا عن دور (المعلم) ويرضون بدور (التلميذ). ويعترفون بأن خطابهم (التقليدي) كان (طوباوياً) لا يميز بين الخط الرفيع الفاصل بين (الوعي و اللاوعي) في مضامينه التفصيلية الدقيقة، وهذا ما أفشلَ تجربة (الإخوان) في السودان، وسيفشل الإخوان في مصر لا محالة، لأن السياسة لا تبنى على الطوباويات، وإنما على الواقع.

غير أن الأستاذ هويدي الذي صفق ذات يوم للتجربة (الخمينية) في كتابه (إيران من الداخل) هاهو الآن يُصفق للتجربة (الإخوانية) في مقاله الأخير، ويخلط الأوراق، ثم يُحاول أن يجيّر نجاح الأتراك (المسلمين) إلى الأخوان المسلمين، معتبراً أن النجاح في مصر هو الأصل، وأن (الأتراك) لم ينجحوا في تجربتهم لولا محاكاة ثقافة الأخوان، وكتاباتهم، ومنها كتاباته هو شخصياً، الذي (تفاجأ) عندما عرف أنها ترجمت للتركية كما جاء في مقاله. وهذا لا يستقيم مع واقع الخطاب الإسلامي التركي ولا مع مرتكزاته الفلسفية من جهة، ولا مع خطاب الإخوان المسلمين و مرتكزاتهم الفلسفية من جهة أخرى. وربما أن أستاذنا هويدي وهو يكتبُ هذا المقال، نسي، أو تناسى، أنه في كتابه (إيران من الداخل) الذي أصدره في الثمانينيات، وهو أول كتاب تعرفتُ على الأستاذ هويدي من خلاله، كان يوحي ndash; أيضاً - آنذاك بنفس الإيحاءات، عندما اعتبرَ أن الثورة في إيران استفادت وتبنت نفس أفكار الحركة الإسلامية في مصر واجتهاداتها. ولا أدري الآن، وبعد الفشل والمآزق الكثيرة والفقر المدقع التي انتهت الثورة الإيرانية، وانتهت بالمواطن الإيراني إليه، هل مازال مصراً على أن ثقافة الأخوان هي السبب، أم أن الأمر تغير، وأصبح حسن البنا هو الذي بعث أردوغان (فقط) من جديد، ولا علاقة لحسن البنا بآية الله الخميني؟.. ولن أستغرب أبداً لو (جلدنا) الأستاذ هويدي بمقال جديد يؤكد فيه أن مهاتير محمد ndash; أيضاً - الذي قاد ماليزيا المعاصرة هو الآخر كان إخوانياً، قرأ لحسن البنا، وسيد قطب، وعبدالقادر عودة، وبالتالي لولا هذه الثقافة ndash; أعني الإخوانية- لما انضمت هذه الدولة الإسلامية إلى النمور الآسيوية!. خطاب الأستاذ هويدي يُذكرني بخطاب الكتاب الإسلامويين الذي يُصرون بمناسبة ودون مناسبة على القول أن الثقافة الإسلامية هي الأساس الذي قامت عليه حضارة الغرب، ولولاها لكان العالم يغط في سبات عميق. نفس المنطق ونفس القياس.
الأخوان المسلمون، كفكر وثقافة ومن ثم حركة، هي امتداد (للخلافة العثمانية). تأثر مؤسسوها وأساطينها بفكر جمال الدين الأفغاني، الذي كان المعلم الحقيقي للشيخ محمد عبده أحد أساتذة وملهمي مؤسس الجماعة كحركة حسن البنا. وجمال الأفغاني كما هو معروف كان يسعى إلى (الحفاظ) على الإمبراطورية العثمانية، ويقاوم تفككها، ورفع من أجلها، وتحقيقاً لإبقائها، فكرة (الوحدة الإسلامية) كشعار.. يقول الكاتب (عبدالله خليفة) في مقال له تحت عنوان (جمال الدين الأفغاني) ما نصه: (الوحدة الإسلامية بالشكل العثماني تعني الحفاظ على هذا السجن الكبير للشعوب، وعلى الرابطة الدينية التقليدية، ومقاومة الظهور الحديث للشعوب والأمم بالشكل القومي، وبالتالي عدم تصعيد الوعي الديمقراطي الحديث). ومن نافلة القول أن تلميذ الأفغاني ومحمد عبده الشيخ محمد رشيد رضا كان المُلهم والأستاذ لحسن البنا مؤسس الأخوان المسلمين. وعلى خطى فكرة (الوحدة الإسلامية) سار البنا، وشيد أركان حركته بطابع (أممي)، وليس بطابع وطني أو قومي، وقاوم كل حركات (الوطنية) من هذا المنطلق، كما شن على (العلمانية) حرباً شعواء، واعتبرها لا تتفق البتة مع الإسلام.. يقول - مثلاً - وهو يرد على الدكتور طه حسين حين نشر كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) ما نصه : ( الذي نخالف فيه الدكتور طه حسين، وغير الدكتور طه حسين، ممن يؤمن بفكرته هذه: ادعاء أن هذا التفريق بين (الدين والسياسة)، وبين الدين والقومية، وبين الدين والعلم، نافع لنا متفق مع تعاليم ديننا. هذه دعوى ينقصها الدليل النظري والدليل التاريخي، وتتنافى مع مصلحتنا ومقومات نهضتنا. والذي يريد أن يُجرِّد الإسلام عن معناه القومي، وعن معناه الثقافي، يريد بمعنى آخر ألا يكون هناك شيء اسمه الإسلام تؤمن به هذه الأمة وتدين به). ومازال الإخوان يُـقدّسون أقوال المؤسس الشهيد، ويتداولون أفكاره، ويرددون أقواله، ويعضون عليها بالنواجذ.
والسؤال: هل التجربة الإسلامية التركية المعاصرة تتفق أو تحاكي مثل هذه الأسس الأممية، وهذه المفاهيم التي تختلف في جوهرها وبواعثها مع الأسس التي ينادي بها إسلاميو تركيا ؟.

يقول عبد المنعم سيد علي مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في القاهرة: (لقد تعاملت الحكومة الإسلامية (المعتدلة) في تركيا مع الرغبة في التكامل مع أوروبا والغرب من خلال تعزيز (التقاليد العلمانية) في تركيا؛ والحدّ من نفوذ المؤسسة العسكرية وتأثيرها على السياسة الداخلية والخارجية والأمن؛ واتّخاذ خطوات جريئة في تحديث الدولة التركية. كما تقرّبت حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من أوروبا من خلال تحسين علاقة تركيا باليونان واتّخاذ موقف معتدل في المشكلة القبرصية). وفي المقابل فإن من أهم أدبيات الإخوان، وبالذات سيد قطب تحديداً، إشعال جذوة العداء ضد الغرب، واعتبار أن الحضارة الغربية ما هي إلا (جاهلية القرن العشرين) كما وصفها سيد قطب، وكما يصر على وصفها شيوخ الإخوان ومنظريهم. فأين التلاقي بين هذه الحركة وبين الأخوان المسلمين بالله عليكم؟
ومع أنني معجب إلى حد كبير بالنجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية، في المزج بين متطلبات (العلمانية) وبين (الإسلام المنفتح) الذي حققه رجب طيب أردوغان في تركيا، وأتمنى أن يحذو حذوه الإسلاميون العرب، بما فيهم الإخوان، فإنني أشدد هنا أن الإقتداء بالحركة الإسلامية التركية تتطلب من حيث البدء أن يكون الأساس الفلسفي الذي تنطلق منه التجربة أساساً علمانياً. دون ذلك ستبقى التجارب الإسلامية السياسية تنتقل من فشل إلى فشل إلى الأبد. ولعل تجربة سودان الترابي كانت بمثابة ( جهيزة) التي قطعت قول كل خطيب.