الازمة السياسية التي تعصف بالعراق وما يلازمها من مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية بالغة التعقيد لم تكن امرا مفاجئا او غير متوقع في مجتمع أنهكته المصائب والويلات ويكاد يفتقر الى قيادات ومؤسسات معروفة بتمرسها وخبرتها في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وان هذه الظاهرة مألوفة في معظم الدول الخاضعة لآنظمة شمولية ـ والعراق كان منها ـ حيث تحرص تلك النظم الحاكمة على الغاء القوى المناهضة لها وتشويه سمعتها وبالتالي حرمانها بكل الوسائل غير الحضارية من ان تسهم اسهاما حقيقيا في رسم السياسات او صنع القرارات حتى اصبح المواطن العادي ـ وخصوصا الشباب أدوات اي تغيير محتمل ـ لا يتوقع ان يطل عليه زعيم عدا الذي نشأ وهو يشاهد صوره ويسمع خطاباته يوميا.
وما حدث بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق كان متوقعا حين غاب فجأة صاحب الصوت والصورة وظهرت بديلا عنه وعن حاشيته شخصيات لم تكن وجوهها أو أسماؤها مألوفة لدى المواطن العادي المحروم قصدا من وسائل الاتصال والمعلومات.. رغم ان تلك الشخصيات كانت تمارس نشاطا سياسيا ملحوظا في الخارج ولفترات طويلة وتعتقد ان لها قواعد شعبية واسعة في الداخل في ظل مناخ الاضطهاد والقمع السائد في البلاد.
وعندما بدأت تنمو ثمار التغيير السياسي شيئا فشيئا بعد انهيار النظام الدكتاتوري وشاعت اجواء حرية ابداء الرأي وتشكلت تنظيمات وتيارات سياسية ذات مناهج مختلفة مع ظهور بوادر العملية السياسية وجد المواطن العادي نفسه امام وجوه عديدة وتسميات وممارسات لم يكن معتادا عليها ابان الحكم الاستبدادي.. فوقف حائرا يبحث عن جماعة يثق بها تنتشله من ماضيه المؤلم وتنقله الى غد واعد يعوضه عن معاناته ومظالمه.. وبسبب افتقاره الى الخبرة اوالقدرة على التمييز بين اهداف هذه الجماعة او تلك, لجأ الى من يحس باقترابه اليه دون غيره ليس على أساس الاتفاق مع الفكر السياسي او المنهج الاقتصادي والاجتماعي وانما لكونه أقرب اليه عائليا وعشائريا ومذهبيا وعرقيا ومناطقيا.
وبسبب اخفاق غالبية التنظيمات السياسية الجديدة منذ البداية في توضيح مناهجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية واحتضان المواطن العادي وكسبه الى صفوفها, فقد تشظى المجتمع على اساس ولاءات متباينة ومتعاكسة على الاغلب.. علما ان النظام الدكتاتوري كان قد صنف المجتمع العراقي حسب ولاءات تخدم مراميه في الهيمنة على موارد البلاد البشرية والمادية.. فكانت الخطوط الفاصلة واضحة بين ابناء المجتمع العراقي.
وهنا لا بد من الاشارة الى ان نخبا اجتماعية حاولت التملص من هذا التقسيم والتشظي المفروض عليها ففضلت الوقوف على جانب الطريق وامتنعت عن الانتماء لهذه الجماعة او تلك رغبة في الحفاظ على استقلالية أرائها .. لكنها وجدت نفسها وحيدة في خضم نزاع عنيف احتدم بين تلك الجماعات واصبحت كأنها تُعصر بين حجري رحى احدهما مذهبي يحمل راية الدين ويدعو لقيام دولة اسلامية ـ شيعية ام سنية ـ والاخر قومي يلعن أمريكا ويشتم اسرائيل ـ مخلصا او مدعيا ـ وتلف الضبابية دعوته بشأن شكل الدولة او نظام الحكم الذي يريد .. لكن هذه الرحى بحجريها الثقيلين تمتلك قوة كبيرة ومؤثرة للدوران والسحق وستطحن معها المجتمع العراقي برمته ان استمرت دون توقف.
هل هذه الصورة المتشائمة تعني ان لا طريقا للخروج من الازمة؟ الجواب كلا. الحل يكمن في فك الارتباط.. اي ان تفك الاحزاب والتنظيمات السياسية اللاعبة على الساحة العراقية والمواطن العادي ارتباطاتها بأساليبها العتيقة في معالجة الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وتبدأ من جديد.. وهذه الخطوة لا تعني ابدا الالتفاف او التنصل عن المسؤولية الثقيلة التي يتحملها الجميع لأنقاذ البلاد قبل فوات الاوان .
كيف؟
كخطوة اولى ..يجب تسمية الاشياء بأسمائها.. فينبغي على حزب البعث الذي اخفقت تجربته في الحكم طوال اكثر من ثلاثين عاما لآسباب ذاتية بحتة ان يفك ارتباطه بصدام حسين وفترة حكمه الدكتاتوري قبل كل شئ .. ويتخلى عن نهجه ومساعيه لآقامة دولة الحزب الواحد بالقوة ويقبل مقتنعا بالنظام التعددي الديمقراطي وان يبادر الى بدأ صفحة جديدة تحت اسم جديد كما فعلت احزاب شيوعية وقومية وغيرها بعد ان فشلت تجاربها السابقة في الحكم.
وبهذه المناسبة لا بد ان يفك الحزب الشيوعي العراقي ـ المعروف بتأريخه السياسي الطويل ـ ارتباطه بماضيه ايضا ويغير اسمه خصوصا وان الانظمة الشيوعية في العالم اختارت طرقا ومناهج بديلة على اصعدة سياسية واقتصادية واجتماعية مثلما حصل في الصين والاتحاد السوفيتي وبلدان اوروبا الشرقية وغيرها عدا كوبا وكوريا الشمالية التي ما تزال تستجدي المعونات من الغرب وبعض المجتمعات الفقيرة التي لا تبحث عن وسائل عملية للخلاص.
وعلى حزب الدعوة الاسلامية ان يبدأ صفحة جديدة ايضا وتحت اسم وشعار جديدين خصوصا وان الاسلام دين قائم ولا يحتاج الى دعوة.. وكذلك الحال مع المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق.. فعليه ان يختار اسما جديدا حيث ان لا ثورة اسلامية او غير اسلامية في العراق وانما هناك دولة ديمقراطية تؤمن بالانتقال السلمي للسلطة وتحترم حقوق الانسان.. كما ينبغي على الجماعتين العراقيتين ان تفكا ارتباطهما سياسيا وعقائديا بايران.. فرغم ان ايران كحكومة كانت لهما بمثابة الحاضن لنشاطاتهما ابان العهد الدكتاتوري الا ان ذلك يجب ان لا يردعهما عن توجيه النقد او اللوم لأيران متى ما استوجبت الظروف فان ذلك ليس نكرانا للجميل.. ولا يجعلهما يشعران بانهما مدينان سياسيا للدولة الجارة مدى الحياة.. ولا حراجة ايضا في محاولة الخروج من دائرة المسميات والعناوين الدينية التي اتسمت بها نشاطاتهما السياسية في العهد الجديد.. اذ ان ذلك يعيد للأذهان هوس صدام حسين ـ وحكام عرب آخرين ـ بوضع اسمه على كل شيء عدا مجازر اللحوم والمقابر!
وكذلك يتعين على الحزبين الكردستانيين الرئيسيين ان يفكا ارتباطهما بالماضي حينما كان الكرد ضحية ابشع نظام دكتاتوري.. وان يعلنا كونهما جزءا اساسيا من العملية السياسية والمجتمع العراقي ويعملا على رفع العلم العراقي ـ بعد الاتفاق على علم جديد ـ فوق اراضي الاقليم دون غيره.
وينطبق ذات الشئ على الحزب الاسلامي اذ يمكن اضافة كلمة (الديمقراطي) او اية عبارة ملائمة اخرى للأسم انسجاما مع التحولات الديمقراطية في البلاد.. وكذا الحال مع القوميين من العرب والكرد حيث ينبغي منهم الاقرار بان العراق الان يعيش في القرن الحادي والعشرين وأن أسس العلاقات الدولية سياسيا واقتصاديا وستراتيجيا قد تغيرت ما يستدعي اعادة النظر جذريا بمعاييرهم ومناهجهم ودعواتهم السياسية القديمة والتفاعل مع كل هذه المتغيرات بصورة ايجابية.
وكما ان على المواطنين العاديين ان يدركوا انهم احرار في التعبير عن آرائهم مهما اختلفت.. وان انتماءهم الى حزب او جماعة لا يعني ابدا وقوعهم أسرى ورهائن ذلك التنظيم والالتصاق به دون وعي كامل لما يترتب على ذلك الانتماء في المستقبل.. فلا ضير او عيب في ان ينقلب المواطن على حزبه متى ما وجده يبتعد عن طموحاته او يخفق في تحقيق وعوده.. او ان يصرح باختلافه مع رؤى وأفكار وتفسيرات زعيم حزبه او عشيرته او مذهبه..
ومن الجدير تذكير بعض الكتاب والادباء والاعلاميين الذين يتناولون الشأن العراقي بمنظار عمره اكثر من عشرين او ثلاثين عاما الى ضرورة فك الارتباط مع افكار ومفاهيم وعبارات مكررة هيمنت على تجاربهم الماضية ولم تعد تنسجم مع الواقع الجديد.
فمن اجل ديمومة الحياة وتطورها وبناء الانسان الجديد في مجتمع مسالم آمن لا بد من تعزيز الارادة لفك الارتباط بالماضي السلبي والمسبب للضرر كوسيلة لمحاولة حل الازمة العراقية من خلال القبول بالتطوير والتحديث والتجديد في الافكار والقيم والمعتقدات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. والثورة عليها ان اقتضى الامر.
التعليقات