1 ـ شئ من التاريخ الأوروبي القريب:

نشأ التيار نحو الوحدة الديمقراطية في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ومشاريع إعادة التعمير التي كانت تحتاج لجهود جماعية، ومنها مشروع مارشال. في عام 1951 اتفقت كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ على تأسيس ما سميت بالمجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ. وفي 1957 تمت اتفاقية روما التي أقامت "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" أو السوق الأوروبية المشتركة، ومعها المجموعة الأوروبية للطاقة النووية. وفي 1958 كانت اتفاقية روما التي أقامت مجلس الوزراء والبرلمان الأوروبيين. وفي 1973 زاد عدد الدول لتسع بانضمام بريطانيا والدانيمارك وإيرلندا، من 6 إلى 9 دول. وفي عام 1979جرى أول انتخاب مباشر للنواب الأوروبيين. وبعد عامين انضم اليونان. وفي 1986 انضمت إسبانيا والبرتغال. وفي العام نفسه تم الاتفاق على قيام سوق حرة موحدة تضمن الحركة الحرة للأشخاص والسلع والخدمات والرساميل. وفي 1992 اتفاقية مايستريش التي قررت الانتقال نحو عملة موحدة في 1999، وكذلك السير نحو وحدة سياسية. وفي 1993 ومع دخول اتفاقية مايستريش قيد التنفيذ تحول اسم المنظمة إلى " الاتحاد الاوروبي". وبعد عامين أصبحت الدول الاثنتا عشرة خمس عشرة بانضمام كل من النمسا وفيلندا والسويد. وفي 1995 كانت اتفاقية شينغين التي أزاحت الرقابة على تنقل الأشخاص بين دول شينغين. وفي 2005 انضمت كل من قبرص وإستونيا وهنغاريا وليتوانيا وسلوفاكيا ومالطه وبولونيا وجمهورية جيكيا وسلوفاكيا وسلوفينيا فصار العدد 25 دولة، وكان مفروضا انضمام بلغاريا ورومانيا بعد عامين. كما تم توحيد العملات باستثناء بريطانيا التي لا تدخل اليوم في إطار اليورو.
في حزيران 2004 انعقدت القمة الأولى للاتحاد والتي قررت سن دستور موحد لتكامل الوحدة، واختير الرئيس الفرنسي الأسبق ديستان لرئاسة اللجنة. إن هذا الدستور هو اليوم محور الجدال السياسي العاصف حاليا في فرنسا خاصة وكذلك في هولنده.

2 ـ جديد الدستور:

أ ـ انتخاب رئيس للمجلس الأوروبي لمدة عامين ونصف قابلة للتمديد مرة واحدة فقط. حاليا تكون الرئاسة دورية بين الدول الأعضاء.
ب ـ اختيار وزير واحد للخارجية باتفاق مع الرئيس ويكون الوزير نائبا للرئيس ورئيسا لمجلس وزراء الخارجية.
ج ـ يمكن اتخاذ قرار ما لو جمع من حوله 55 بالمائة من الدول الأعضاء التي تمثل 65 بالمائة من مجوع السكان.
دـ يقدم البرلمان الحالي اقتراحا لتوزيع المقاعد البرلمانية يراعي نسب عدد السكان على أن يكون عدد المقاعد 750 مهما كان عدد الدول.
ه ـ اتخاذ القرارات بالأكثرية المقررة ما عدا مسائل تتطلب الإجماع كالميزانية وجزء من السياسات الاجتماعية، والتعاون البوليسي، والسياسة الخارجية، والدفاع.
و ـ بإمكان مليون مواطن من عدد مهم من الدول أن يقدموا للمجلس الأوروبياقتراحا بسن قانون.

ح ـ
يمكن لأية دولة عضو الانسحاب، وهذا حق غير موجود في الاتفاقيات الحالية.
في السياسة الخارجية تكون تحت تصرف الاتحاد خدمات دبلوماسية مشتركة. القرارات تكون كما اليوم بالإجماع.
أما في السياسات الاجتماعية التي تثار حولها اليوم ضجة يسارية فرنسية عاصفة، فإن الدستور لا يتبنى مجرد نموذج اقتصاد السوق ، بل يتبنى ما يدعوه " الاقتصاد الاجتماعي للسوق" الضامن للعمالة التامة.
[ هذه الخلاصة ندين بها لدراسة نشرتها جريدة لبراسيون اليسارية الفرنسية بتاريخ 22 أيار الجاري. ]

3-على ماذا يدور الهيجان الفرنسي الراهن؟

تبدو نسبة الرافضين للدستور المقرر طرحه لاستفتاء عام يوم الاحد في ازدياد، بل وتشير بعض استطلاعات الرأي إلى رجحان عددهم فوق المؤيدين. والكفة على كل حال مترجرجة.
يكاد معظم المراقبين والمعلقين الفرنسيين والأجانب يتفقون على ان معظم الهواجس والمخاوف التي أثارها المعترضون لا علاقة مباشرة لها بالشان الأوروبي والدستور، بل ناجمة عن مشاكل داخلية سواء في فرنسا او هولنده، ولا سيما تزايد السخط على الحكومات. وكان الرئيس شيراك وهو المؤيد القوي للدستور والموقع عليه مع بقية الرؤساء، قد اختار استشارة الفرنسيين عبر استفتاء عام وليس عن طريق الاجتماع الموسع للبرلمان بشقيه الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. إن معظم الدول اختارت تشريع الدستور في البرلمان ماعدا ستا، منها فرنسا،
اختارت الاستفتاء. وتلاحظ جريدة لوموند الفرنسية أن اليسار هو عادة يشك في النوايا وراء أسلوب الاستفتاءات نظرا لأنه قد استخدم في الغالب الأعم من بعد الثورة الفرنسية من جانب الحكومات اليمينية. وتتساءل الصحيفة عن أسباب عدم إثارة موضوع أسلوب أو نظام الاستفتاء في الجدال الساخن الدائر.

والحقيقة أن موضوعا معقدا كموضوع الدستور من الصعب الاستفتاء الشعبي عليه حتى في بلد متقدم شعبا ومجتمعا كفرنسا. فالدساتير شأن قانوني وكذلك سياسي دقيق، وليس بإمكان الأكثرية من الشعب دراسة وتحليل تفاصيل بنودها ومدلولها. الاستفتاء يكون أسهل في موضوعات شديدة الوضوح، وتخص نقطة أساسية واحدة مفهومة لجماهير الناخبين. وطبعا في بلدان العالم المتخلف تكون الاستفتاءات مجرد بيعة كما حدث مؤخرا في مصر. أما موضوع العراق ودستوره والاستفتاء عليه فمستقل عن مقالنا هذا برغم أن العبر الدولية مفيدة وضروري استيعابها.

إن الملاحظ وبوضوح هو أن كلا من اليمين العنصري المتطرف واليمين " الميامن"، واليسار "المياسر"، وهم نصف الاشتراكيين بزعامة الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي فابيوس، والحزب الشيوعي، ومنظمات الخضر وأقصى اليسار، قد قاموا ويقومون بتحريف الموضوع بإثارة النرجسية الفردية الفرنسية والمخاوف والهواجس. فأقصى اليمين واليمين الميامن [من أمثال ديفالية]، يثيرون المخاوف على مكانة فرنسا ودورها. ولوبين يثير المخاوف من انضمام تركيا مع أن الموضوع غير مدرج في الدستور، كما يخوف الفرنسيين من وافدات الهجرة لاستقبال "زبالة" الدول الشرقية، وكذلك الإشارة للتطرف الإسلامي المتصاعد. وديفاليه، الذي كان قبل سنوات يشيد ب"لبرالية أوروبا" يناقض نفسه اليوم حين ينضم لقوى اليسار المعترضة بالتخويف من أن الدستور سيجعل أوروبا في قبضة لبرالية مغالية.ومن التناقضات الصارخة في مواقف الرافضين أنهم جميعا يريدون فرنسا مستقلة قادرة على التعامل المتكافئ مع أمريكا ولكنها في الوقت نفسه ترفض دستورا يعطي أوروبا ومنها فرنسا مكانة وقوة أكبر بإمكاناتها وسكانها ال450 نسمة.

إن الحرب على اللبرالية تشكل إيديولوجيا اليسار الفرنسي تحت هوس معاداة العولمة. وكنا قد عالجنا ذلك في مقالنا المؤرخ في 20 مارس الماضي تحت عنوان:" عندما تعمى أوروبا، لاسيما اليسار، بهوس العداء لامريكا." فالعولمة عندهم مردافة للهيمنة الامريكية ومعادية للعدالة الاجتماعية، وتعني زيادة فقر الفقراء وزيادة غنى الأغنياء والاتساع المتزايد للشقة بينهم في العالم. وكما بينا هناك، فإن مناهضة العولمة تحمل تناقضات عميقة وعجيبة: إنها تحارب الرأسمالية الديمقراطية اللبرالية التي تقدم العون للدول الفقيرة، وتقدم ضمانات اجتماعية كبرى للسكان، وتحارب منظمة التجارة الدولية التي تعمل على جعل التجارة الدولية غير وحشية، في حين لو طبقت البرامج والشعارات العاطفية لدعاة مناهضة اللبرالية والعولمة كغلق الحدود، ووضع الحواجز في وجه السفر ، لما استطاعوا هم استخدام تلك العولمة نفسها لنقل مظاهراتهم الصاخبة من مكان لمكان! وقد تظاهروا بعنف ضد مؤتمر لقمة الدول الصناعية كان ضيوفه البارزون زعماء إفريقيا القادمين لطلب زيادة المساعدات.

الواقع أن معظم قوى اليسارتفضل الاقتصاد المبرمج والمركزي للدولة على النمط شبه الشيوعي الذي بانت عيوبه القاتلة.

خوف اليمين المتطرف من "ذوبان " فرنسا، وخوف اليسار الرافض من العدوان على المكاسب الاجتماعية الكبرى المضمونة قانونيا في فرنسا. والحال أن الدستور لا يمس تلك المكاسب ولكنه يطمح لخلق اكثر من عشرين مليون فرصة عمل على مدى السنوات القادمة. ومشكلة البطالة مزمنة في فرنسا وغيرها؛ وفي فرنسا وحدها ثمة حوالي ثلاثة ملايين
شخص عاطل. ومعلوم ان ساعات العمل في فرنسا هي الأدنى والأقل أوروبيا، وأن الاجور والمرتبات هي من بين الأكبر على النطاق الاوروبي، وللعاملين في الخدمات العامة ضمانات كبرى ضد الفصل وفي فترات البطالة المؤقتة. وهذه المكاسب هي التي تخشى شغيلة وموظفو القطاعات أن يمسها الدستور بالضرر مع أن المخاوف وهمية كما يحلل المراقبون الموضوعيون. ويخشى هؤلاء أيضا من حرية حركة الخدمات وهو ما نصت عليه مادة من الدستور جمدت بطلب فرنسي رسمي. كما حذفت من الدستور بطلب فرنسي أيضا فقرات من الديباجة أشارت للأصول المسيحية لأوروبا وهو ما اعتبره العلمانيون مخالفا لمبدأ العلماانية. ونضيف أن الدستور كتب برئاسة فرنسية لا غيرها.

لن ينهار الاتحاد الأوروبي بالرفض الفرنسي يوم الأحد ولكنه سيصاب بضربة كبرى تكون لها عواقب خطيرة على مصيره. ولربما سيؤثر ذلك على الاستفتاء الهولندي، الذي تصاعدت فيه موجة الرفض لا لعلاقة ذلك بصلب الدستور بل لمشاكل داخلية كمخاطر الإرهاب الإسلامي، وخوف السويين جنسيا على مكاسبهم . إن في البلدين حكومتين راحت شعبيتهما تتآكل ، مما يحول السخط والتذمر على الأداء الحكومي إلى رفض لدستور يعطي لأوروبا قوة سياسية وتنفيذية قوية، ذات دور اكبر في المحفل الدولي، ويجعل ممكنا حل المشاكل الامنية ومشاكل الهجرة بطريقة اكثر إحكاما وحسما. وقد قامت إسبانيا مؤخرا بإعطاء الهويات لثلاثة أرباع مليون مهاجر غير شرعي، وممكن لفريق واسع منهم الانتقال
لدول أوروبية أخرى. إن مثل هذا "السخاء" الخطر لا يمكن حدوثه تحت اتحاد أوروبي له دستور موحد وجهاز تنفيذي مركزي. وقد أشارت مقالات اخيرة إلى أن الرفض الفرنسي سيترك الباب واسعا لصعود الدور الآسيوي والصيني خاصة، اقتصاديا وسياسيا، فتبح أوروبا مهمشة بين القوتين الامريكية والصينية ـ الآسيوية. وأمريكا تفضل بدورها التعامل مع اوروبا مركزية الإدارة بدلا من تصرف كل دولة في الشؤون الدولية الكبرى على هواها كما جرى في موضوع العراق، وكما نخشى أن تؤدي سياسة المجاملة الأوروبية الراهنة من إيران لنتائج مماثلة.

إن تصاعد الرفض اليساري الفرنسي يعري الكثير من أمراض المجتمع الفرنسي ولا سيما النزعة الفردية المغالية، والميل لرفض كل إصلاح جديد كما حصل ويحصل مع الطلبة والمدرسين الذين قاوموا على مدى عقود كل إصلاح لمواقع الخلل في النظام التعليمي شبه المريض. والنقابات العمالية تعارض منذ سنوات مطلبا شعبيا واسع النطاق يطالب الحكومة باتخاذ تدابير لضمان الحد الأدنى من الخدمات سيما في النقل عندما يضرب عمال وموظفو القطاع العام للخدمات، مع أن في الدول الأخرى ضمانات للحد الأدنى. فحرية الإضراب والحق المشروع باستخدامه لا يعنيان الإضرار ببقية السكان وهم الاكثرية، فيمكن تنفيذ الإضراب مع ضمان حد ما من الخدمات للشيوخ والمرضى وبقية فئات السكان. اما هنا فحق الإضراب صار يعني حتى منع العمال الراغبين في العمل من العمل واستخدام القوة لمنعهم!، وهو انتهاك لحق مشروع آخر هو الحق في العمل. وجدير بالذكر ان عددا من كبار الشخصيات اليسارية الإيطالية، باستثناء الشيوعيين، وجهت نداء لليسار الفرنسي يناشده بالموافقة على الدستور؛ وهذا أيضا موقف زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي وموقف زعيمه المتقاعد جوسبان.

إن من شهد مظاهرات وتجمعات قوى اليسار الرافضة ضد الدستور لن يغيب عنه أن موضوع الدستور مغيب أصلا، وأن "كلا يغني على ليلاه"! فالزعيم الاشتراكي فابيوس يبحث منذ الآن عن مركز رئيس الجمهورية ولا مانع عنده ان يقف كتفا لكتف مع الزعيم الفوضوي للمزارعين جوسيه بوفيه الشهير بقيادة مظاهرات عنيفة لتدمير محلات الهمبرغر. ومعروف ان المزارعين الفرنسيين يحصدون فوائد قرارات الاتحاد الأوروبي ويرفضون تنفيذ واجباتهم بموجب نفس القرارات. كما دل يوم "التضامن مع المسنين"، قبل أيام على هذه العلل الفرنسية الفردية. فقد قررت الحكومة منذ عام جعل يوم عطلة دينية يوم عمل بلا أجور على أن تصرف عائدات اليوم على خدمات المسنين، الذين توفي منهم قبل عامين حوالي 15 ألفا في حر استثنائي. لكن نسبة اكثر من الخمسين بالمائة من موظفين وعمال رفضت العمل.

إن النخب الفرنسية الحاكمة مسؤولة لحد كبير عن هذه البلبلة والخلط في الشارع السياسي الفرنسي سواء بعدم قيامها بالشرح الكافي لأهمية الوحدة الأوروبية وعلاقتها بالمصالح الفرنسية، أو بمجاراتها في غالب الأحيان لهوس اليسار ومطالبه غير الواقعية، والميل للتهدئة السياسية والاجتماعية.

سيكون يوم الأحد المقبل يوما هاما لأوروبا، فالرفض الفرنسي سيصدع الاتحاد، ولا سيما وفرنسا كانت من الدول المؤسسة والنشيطة لمشاريع الوحدة الأوروبية؛ كما انه سوف يضعف موقف فرنسا بين الأوربيين الذين سيحملونها هي مسؤولية فشل المشروع الأوروبي الاتحادي.