"أنت تقول أن جميع الآراء جديرة بالاحترام. فليكن، هذا هو رأيك. أما فيما يخصني، فأنا أقول عكس ما تقوله، هذا هو رأيي، وعليك أن تحترمه". جاك بريفير

قصيدة "براءة" للشاعر مظفر النواب

وهنا، ظهر نوع جديد من الأدب "البطولي"، الشعر على وجه الخصوص، حمل رايته، الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب. هذا الشعر تبرعم وأزدهر داخل السجون والمعتقلات العراقية، وقتذاك. وكان الغرض الرئيسي من كتابته هو، رفع معنويات السجناء، وغالبيتهم من الشيوعيين العراقيين. ومن أشهر القصائد التي انتشرت وذاع صيتها، من بين قصائد تلك المرحلة هي، قصيدة " براءة"، وهي قصيدة تستحق التوقف عندها، هنا، لعلاقتها بصلب الموضوع الذي تناقشه هذه السطور، أي مفهوم البطولة. ويتوجب علينا، هنا، أن نشير إلى الظرف التاريخي السياسي الذي قيلت فيه تلك القصيدة.
فبعد نجاح الانقلاب العسكري الذي نفذه حزب البعث وحلفائه، في 8 شباط/ فبراير 1963، زج بأعداد غفيرة من المعارضين للانقلاب، داخل السجون والمعتقلات. وكانت حصة الشيوعيين العراقيين ومؤيديهم، هي الأكبر. ومورست ضد أولاءك السجناء صنوف من التعذيب والإهانات، التي استمرت حتى بعد سقوط تجربة 8 شباط، وتفرد عبد السلام عارف بالسلطة. من تلك الأساليب لجوء إدارات السجون إلى إحياء أسلوب كان شائعا في العهد الملكي، يتمثل في إجبار السجناء السياسيين "الشيوعيين على وجه التخصيص" على التبرؤ من الحزب الذي ينتمون إليه، وإجبارهم على إشهار تلك البراءة على الملأ، من خلال نشرها في الصحف اليومية. وحالما تنشر البراءة يتم إطلاق سراح السجين. و بالطبع، فان إدارات السجون والسلطات السياسية كانت تهدف من ذاك الأجراء إلى كسر شوكة السجناء و"تسقيطهم" وإبعادهم نهائيا عن ممارسة أي نشاط سياسي، وكذلك، وهذا هو المهم، كسر شوكة الحرب الذي ينتمون إليه. وكانت تلك الممارسة واحدة من أحط الممارسات التي طبقتها السلطات السياسية العراقية، منذ حقبة النظام الملكي، لمحاربة النشاط السياسي في البلد، عن طريق امتهان كرامة المواطن. وإذا كان أسلوب البراءة قد طبق، كما ذكرنا، خلال العهد الملكي، إلا انه شاع كثيرا بعد انقلاب 8 شباط 1963، لكثرة أعداد الشيوعيين الذين زج بهم في السجون والمعتقلات. في تلك الظروف بالذات، كتب الشاعر مظفر النواب قصيدة "براءة".

قصيدة "براءة" تروى على لسان امرأة عراقية، تخاطب أخيها السجين الشيوعي، الذي خارت قواه وتبرأ من حزبه. وفي القصيدة صور شعرية تثير الرعب، لفرط قسوتها، ولتحميلها الكائن البشري بما هو فوق طاقته البشرية. وتعتبر تلك القصيدة قطيعة مع ما كان قد نشره النواب من قصائد سابقة لها، والتي اعتبرت، وما تزال، انعطافة تجديدية كبرى في مسيرة الشعر الشعبي العراقي. فبعد أن كانت قصائده السابقة على قصيدة "براءة"، تتميز بالرقة والحلاوة والطراوة الشعرية والإنسانية، تميزت قصيدته )براءة( بقسوة مفرطة، وحث على القتل، وتمجيد للعنف.
تخاطب بطلة قصيدة )براءة( أخيها السجين الشيوعي، بعد أن تبرأ من حزبه، بقولها: لقد تحملت كثيرا من الأذى والإهانة على أيدي السجانين، وأنا انتقل من سجن لأخر لرؤيتك. وكنت أمني النفس ببقائك صامدا بوجه جلاديك. أما الآن، وقد ورضيت أن تتبرأ من حزبك، فأنا اشعر، ليس بالندم فحسب، وإنما بالعار. ثم تتوالى صور القصيدة، الواحدة أقسى من الأخرى. فتقول الأخت لأخيها: لقد كنت أرضى أن يرضع الكلب، حتى الكلب، من حليبي على أن لا تتبرأ من حزبك، وكنت سأرضى لو أنك ذبحت بيدك جنيني الذي أحمله داخل أحشائي، على أن لا تتبرأ من الحزب. وفي نهاية القصيدة، تعلن الأخت براءتها من أخيها، مثلما تتبرأ العشيرة من امرأة زانية، فتعلن الأخت أمام الشعب قائلة: يا شعب، هذا الذي تراه أمامك، لم يعد أخي ولا أبننا، فنحن براء منه.

قصيدة "براءة" كانت تهدف، كما قلنا، إلى رفع معنويات السجناء " الشيوعيين" العراقيين. وقد شاعت القصيدة في تلك الأيام، شيوعا لا مثيل له، حتى أنك لا تجد صالونا من الصالونات الأدبية، لا يتحدث عنها. ونجحت القصيدة كثيرا في تحقيق الغرض الذي نظمت من اجله. وطبقا لما رواه سجناء سياسيون عاصروا تلك الفترة، فأن عدد السجناء الذين كانوا يتبرأون من حزبهم، انخفض كثيرا مباشرة بعد شيوع تلك القصيدة. ولا بد أن الشاعر مظفر النواب قد شعر بالزهو والسعادة، مثلما سيشعر بذلك أي شاعر أخر، في مثل ظروفه، وهو يرى كيف نجحت قصيدته في شد أزر رفاقه السجناء، وتقديم هذه الخدمة الكبيرة لحزبه الذي كان ينتمي إليه. لكن، السؤال هو، ما هي الأهداف الحياتية الكبرى، أو دعونا نقول الأهداف الاستراتيجية، التي ترمي إلى تحقيقها قصيدة "براءة"، وهل تتفق أو تتعارض تلك الأهداف مع الأهداف الكبرى، وليست الآنية العابرة، التي يفترض أن الشيوعي، اليساري، الحداثوي، المتمرد والتقدمي، مظفر النواب وحزبه يرميان إلى تحقيقها ؟

الملاحظات التي يمكن تسجيلها، سعيا للوصول إلى إجابة على السؤال السابق هي ما يلي:
أولا/ القصيدة هي دعوة صريحة للقتل. وأي نوع ؟ قتل الأجنة وهي في الأرحام!
ثانيا/ تتعامل القصيدة مع الحزب السياسي )الشيوعي(، ليس باعتباره مؤسسة مدنية حضارية، وإنما باعتباره )عشيرة(، وتتعامل مع المنتمي لهذا الحزب، ليس باعتباره إنسان فرد حر، ينتمي إلى أي حزب متى ما يريد، ويهجره متى ما أراد، وإنما باعتبار العضو الحزبي، فردا من أفراد العشيرة، عليه الخضوع لأعرافها، حتى الموت.
ثالثا/ تتبنى القصيدة التقاليد العشائرية "المحافظة"، التي يفترض أن الشاعر وحزبه التقدميين يعملان للقضاء عليها، وخصوصا تلك التقاليد التي تنص على هدر دم ابن العشيرة، غسلا للعار، أو على الأقل التبرؤ منه، عندما يشذ عن أعرافها وتقاليدها، وعلى وجه الخصوص، المرأة عندما ترمى بتهمة الزنا، حتى قبل أن يتم التأكد من حدوث التهمة، أو معرفة الأسباب الموجبة.
رابعا/ تنظر القصيدة إلى الإنسان، ليس ككائن بشري له أهوائه وزلاته ونقاط ضعفه، وإنما كفرد/ هرقل، لا يعرف الإنكسار الإنساني، أبدا.
خامسا/ لو جردنا القصيدة من ظرفها السياسي الذي كتبت فيه، أي منع السجناء الشيوعيين من التراجع، فإننا نجدها قصيدة تصلح لكل جهة سياسية، وغير سياسية، سواء كانت، شيوعية أو بعثية، "تقدمية" أو "محافظة". فهدف القصيدة هو، الحث على الصمود أمام العدو. والعدو، كما نعرف، يتنوع باختلاف الظرف والزمان. وبالامكان الاستشهاد بهذه القصيدة حتى من قبل الخصوم السياسيين والأيدلوجيين والطبقيين، الذين يناضل الشاعر وحزبه ضدهم. ومن يدري، فلعل خصوم النواب السياسيين، الذين كتبت تلك القصائد ضدهم، استعانوا يتلك القصيدة ذاتها، لرفع معنوياتهم، عندما وجدوا أنفسهم داخل السجن.
سادسا/ كرست هذه القصيدة، من الناحية الشعرية، مظفر النواب ك"داعية" و"محرض" سياسي، بعد أن كان صاحب ثورة شعرية تجديدية، حققت فتحا كبيرا في عالم الشعر الشعبي العراقي.

ومرة ثانية نقول أنه من البطر النقدي، نزع تلك القصيدة من سياقها التاريخي/ السياسي، والتعامل معها كعمل أدبي معلق في الفراغ. لكن هذا القول لا يمنعنا من أن نذكر، أيضا، أن تلك القصيدة شجعت ورسخت ثقافة العنف، بأشكاله الأكثر قسوة ودموية. وكانت تلك القصيدة، في رأينا "ثورة مضادة"، فنيا وإنسانيا، لتلك الثورة الرومانسية التجديدية الكبرى التي قادها النواب، قبل كتابة قصيدة "براءة".

4- قطار الموت

في 3 تموز/ يوليو 1963، وكانت الحكومة التي يقودها حزب البعث ما تزال تمارس عنفا ضاريا ضد معارضيها، امتشق عسكريون ذو مراتب صغيرة جدا في الجيش العراقي، بقيادة عريف/ رقيب، اسمه حسن سريع، يشاركه عدد من صغار العسكريين، وكذلك مدنيون يحتلون مواقع دنيا في السلم الاجتماعي العراقي، )حدادون، نجاورن، عمال بناء(، سلاحهم، وتوسلوا به لإسقاط النظام البعثي القائم الذي كان قد وصل إلى السلطة بالقوة المسلحة في 8 شباط/ فبراير 1963. وأخذ يطلق في الأدب السياسي، لاحقا، على تلك المحاولة أسم "حركة حسن سريع"، أو "حركة 3 تموز". ولم تمر سوى ساعات معدودة على بدء تلك الحركة، حتى تم القضاء عليها، بنفس القوة العسكرية التي بدأت فيها. ومرة أخرى، أشعلت تلك المحاولة، في بدايتها، مثلما في خاتمتها المأساوية، مشاعر العنف، وأصبحت حافزا أضافيا، للحديث عن البطولة وتمجيدها.
فالذين ناصروا تلك المحاولة وأيدوها، أطروا كثيرا على شجاعة المشاركين فيها، ووصفوهم بأنهم " الرجال الذين اقتحموا السماء"، مستعيرين بذلك وصفا لماركس كان قد أطلقه على رجال كومونة باريس. وعندما قدم، لاحقا، قائد تلك المحاولة، العريف حسن سريع، أمام أحدى المحاكم العسكرية لمحاكمته، فإنه دافع بقوة عن زملاءه الذين شاركوه المحاولة، وأعلن انه وحده يتحمل مسؤولية تخطيط وتنفيذ المحاولة، ساعيا بذلك للضحية بنفسه من أجل إنقاذ حياة زملاءه الآخرين الذين اشتركوا معه في التنفيذ.
هنا، اتخذت البطولة بعدا شعبيا و "ديمقراطيا" جديدا. فلم تعد البطولة مقتصرة على النخب السياسية، أو كبار القادة العسكريين، وإنما شملت، أيضا، صغار العسكريين، من الذين يتبوأون أدنى المراتب في سلم المؤسسة العسكرية، وداخل المجتمع، أيضا. وراح الشعراء الموالون لتك المحاولة يؤلفون أشعارهم، واصفين بها بطولة " الأسد" حسن سريع الذي لم يتخاذل أمام خصومه السياسيين، وأصر أن يفدي زملاءه بروحه.
أما الذين قضوا على "حركة حسن سريع" وأخمدوها، فأنهم شرعوا يتحدثون عن البطولة النادرة التي تم فيها القضاء على الحركة، وخصوصا ما قام به رئيس الجمهورية آنذاك، عبد السلام عارف، عندما ركب أحدى الدبابات ودخل على ظهرها معسكر الرشيد للقضاء على تلك المحاولة.
وسنرى لاحقا، كيف أن رئيس الجمهورية عبد السلام عارف "سيجير" مساهمته في قمع "حركة حسن سريع" لصالح رصيده الشخصي، أي لتعزيز مواقفه "البطولية" السابقة، وليوظفها، أيضا، للانقلاب، لاحقا، على حلفاءه "البعثيين"، وطردهم من الحكم يوم 18 تشرين الثاني عام 1963، رغم أن هولاء هم الذين نصبوه رئيسا للجمهورية في 8 شباط 1963.
وجاء قيام "حركة حسن سريع"، وإفشالها ليشعلا، من جديد، ممارسات عنف قاسية، وظفت فيها، هذه المرة، التكنولوجيا الحديثة، كوسيلة جديدة لإلحاق الأذى بالخصوم السياسيين.
فبعد فشل "حركة حسن سريع" عمدت الحكومة البعثية القائمة آنذاك، إلى تسفير عشرات الضباط المعتقلين لأسباب سياسية، وجلهم من الشيوعيين، وشحنتهم داخل قطار مخصص، أصلا، لنقل البضائع، ليتوجه بهم إلى سجن "نقرة السلمان" الواقع على أطراف الصحراء. ولولا الصدفة وحدها، ومعرفة سائق القطار في اللحظة الأخيرة بنوعية "الحمولة البشرية" التي كلف بنقلها، لهلك جميع الذين حشروا داخل القطار. وأطلق مناهضو الحكومة على ذاك القطار تسمية "قطار الموت"، وهي تسمية ما تزال متداولة حتى ألان، في الأدب السياسي العراقي.
هنا، أيضا، توفرت فرصة جديدة لتمجيد البطولة. وبدأت المخيلة الشعبية تتفنن في الحديث عن المعاناة البطولية النادرة التي تحملها "ركاب" قطار الموت. لكن هذه الواقعة كشفت، أيضا، عن بعد أخر للعنف الذي كان يمارسه العراقيون، بعضهم ضد بعضهم الآخر. ذاك البعد تمثل، لأول مرة، باستخدام التكنولوجيا الحديثة، المعدة لأغراض سلمية مدنية حديثة " القطار" لتعذيب سجناء سياسيين عراقيين من قبل مواطنيهم. سنرى، لاحقا، كيف أن التكنولوجيا الحديثة ستستخدم، على نطاق واسع، لتعذيب السجناء السياسيين، عندما عاد البعثيون ثانية إلى الحكم عام 1968، وكيف أن " الحاسوب"، وهو أرقى أشكال التكنولوجيا الحديثة، طبق، أول ما طبق، خلال حقبة حكم صدام حسين، في دوائر المخابرات، لصالح ترسيخ سياسة العنف، قبل أن يستخدم لأغراض علمية مفيدة. فقد سمحت الثروة النفطية في منتصف السبعينات من القرن الفائت، بشراء أحدث أنواع " الحاسوب" لغرض استخدامه في دوائر المخابرات، كوسيلة نافعة لرصد حركات المعارضين السياسيين، من قبل السلطات الحكومية، قبل أن يتم استخدام الحاسوب داخل الجامعات، مثلا. لقد كانت تجربة " قطار الموت" رائدة، من حيث استخدام التكنولوجيا، لأغراض سياسية محددة هي، تثبيت ممارسة العنف، وإلحاق الأذى بالخصوم السياسيين، والتشهير بهم.
في الواقع، ان تجربة "قطار الموت" لم تكن حالة فريدة من نوعها في تاريخ ممارسة العنف السياسي داخل العراق. إنها امتداد "معاصر" لممارسات مشابهه لها تمت قبل مئات السنوات. قطار "الموت"، كوسيلة تكنولوجية حديثة، حل في القرن العشرين، محل "الدابة" التي كانت تستخدم، قبل قرون، كأداة تشهير بكل مارق لقيم المجتمع، عندما كان يوضع على ظهر دابة، حليق الرأس، ويطاف به في الأسواق والمحلات العامة، أمعانا في تحقيره والانتقام منه.

وفي نفس الوقت، وربما في نفس اللحظات ذاتها التي كان يشرف خلالها عراقيون على تكديس بعض من «مواطنيهم" العراقيين، داخل عربات " قطار الموت"، فإن رفاقهم الآخرين كانوا منهمكيمن، داخل معتقل قصر النهاية، بتقطيع )بالمعنى الحرفي( أجساد أعداد أخرى من " مواطنيهم" العراقيين، وسمل عيونهم من محاجرها، ورش الملح فوق الجروح، إمعانا في التعذيب وزيادة في الألم. وفي تلك الحالات كلها، فأن " البطولة الهرقلية " هي الرابح الأكبر. "الجلادون" يمارسون بطولتهم من اجل تركيع خصومهم السجناء، و"الضحايا" المساجين يمارسون بطولة مضادة من أجل تركيع خصومهم، و عدم الامتثال لأوامرهم. لكن، أي أغراض وأي أهداف حياتية كبرى، غير الأهداف السياسية الآنية، كانت تبغي تحقيقها تلك البطولات المتصارعة ؟ لا شيء. فقد أثبتت الأيام والتجارب السياسية التالية في العراق، إن تلك البطولات كانت مجانية، لا معنى لها، أو بطولات عبثية. والدليل هو، أننا سنرى لاحقا، أي بعد مرور خمس سنوات، وتحديدا في عام 1973، أن أولاءك " الجلادين" و"الضحايا" إياهم، عادوا فنسوا خلافاتهم تلك، أو تناسوها، وشكلوا اتحادا " أخويا " فيما بينهم، أطلقوا عليه أسم " الجبهة الوطنية ". إذن، أين البطل الحقيقي، في هذا الحال، ومن هو ؟ البطل الحقيقي هو "البطولة"، الباحثة دائما وأبدا، وبأي ثمن، عن " بطل " يجسد قيمها. و" قيم " البطولة التي نتحدث عنها، هنا، يجب أن تتم، أو تنجز بالعنف، والعنف وحده.

5- "أبطال" كثر يتقاتلون للفوز ببطولة شاغرة

منذ نجاحهم في تنفيذ انقلاب 8 شباط، 1963 و حتى يوم واحد قبل 13 تشرين الثاني عام 1963، وجد "الأبطال" الذين كانوا وصلوا إلى السلطة في 8 شباط 1963 )تماما مثلما حدث لنظرائهم الذين نجحوا قبلهم في تنفيذ 14 تموز 1958 (، أن أمامهم مشكلة حقيقية تتمثل في تحديد من منهم " البطل الحقيقي " ؟ هل هو عبد السلام عارف، أو احمد حسن البكر، أو منذر الوندواوي، أو طالب شبيب، أو علي صالح السعدي، أو صالح مهدي عماش، أو هاني الفكيكي... الخ. ؟ كل واحد من هولاء ومن غيرهم كان يريد احتكار البطولة لنفسه، دون الآخرين. وباستثناء عبد السلام عارف الذي كان معروفا للعراقيين، إثر مشاركته في ما حدث في 14 تموز/ يوليو 1958، فأن هولاء وغيرهم من زملائهم، لم يكونوا، بطبيعة الحال، " أبطال" قبل 8 شباط 1963، وإنما أصبحوا كذلك، بعد 8 شباط. ولكن البطل لا يعد يرضى، حال تشكله وظهوره إلى العلن، بلعب دور ثانوي، أو ما يعتبره هو شخصيا، دورا ثانويا، حتى لو كان هذا الدور منصب وزير أو رئيس وزراء، إنما يظل يبحث له عن دور "شامل وساحق" يلائمه ك"بطل"، أي أن يتربع على رأس هرم البطولة. وهكذا، فأن الصراع سرعان ما بدأ بين اولاءك "الأبطال" الذين ظهروا إلى الوجود بعد 8 شباط 1963، من أجل أن يحسم كل منهم الأمور لصالحه ويفوز لوحده بالبطولة، وفي مواقعها المتقدمة جدا، وليس في الصفوف الخلفية. بمعنى أخر، أن البطولة كانت غائبة في تلك الأيام ولم تكن موجودة. كان إطارها موجودا، فقط، ولكن دون وجود صورة بطل يشغل الإطار.

فرغم أن عبد السلام عارف كان، رسميا، رئيسا للجمهورية، آنذاك، إلا انه لم يكن، من الناحية الفعلية والواقعية، الرئيس، أو القائد، وبالتالي، فأنه لم يكن "البطل" الحقيقي. كان عبد السلام عارف "ظل" لبطل، أو بطل رمزي. فعبد السلام يعرف، مثلما كان كان زملاءه البعثيون يعرفون، أنهم هم الذين جاءوا به من بيته ونصبوه رئيسا للجمهورية. أي، أن عبد السلام عارف لم يشارك شخصيا في إنتاج البطولة التي ألت إليه صباح 8 شباط 1963، وإنما عثر عليها على طارقة الطريق، فالتقطها، أو سمح له بالتقاطها. وهذا أمر يتعارض، بالكامل، مع شروط ومواصفات "البطولة" التي نتحدث عنها. وسنرى لاحقا كيف أن عبد السلام عارف تمرد، حتى يصبح "بطل" "حقيقي"، على نظامه الذي كان هو، شخصيا، رئيسا له.

ولكن قبل أن ينفذ عبد السلام محاولته، كان منذر الونداوي، رئيس الحرس القومي، آنذاك، قد سبقه لملأ إطار البطولة الذي ظل شاغرا منذ 8 شباط 1963. فقد اعتمد الونداوي، الذي كان طيارا في الجيش العراقي، القوة المسلحة يوم 13 تشرين الثاني عام 1963، وقام بقصف مكتب رئيس الجمهورية، عبد السلام عارف. لقد كان الونداوي يتصرف في تلك اللحظات، استنادا إلى رصيده "البطولي" السابق، عندما بادر، لأول مرة، في 8 شباط، إلى قصف وزارة الدفاع، للقضاء على عبد الكريم قاسم.

وعندما فشل الونداوي، تقدم، هذه المرة، عبد السلام عارف نفسه، ليملأ إطار صورة البطولة الذي ظل فارغا. وكان عارف يتمتع بكل المواصفات الضرورية والمطلوبة ل"البطولة": فهو عسكري بمرتبة كبيرة، ومساهم رئيسي في تنفيذ العملية العسكرية التي أطاحت بالنظام الملكي صباح 14 تموز 1958، وسجين سابق محكوم عليه بالإعدام، ومشارك رئيسي في إفشال الحركة العسكرية التي تم تنفيذها في 3 تموز 1963، بالإضافة لامتلاكه للسان سليط لا يرحم أحدا، وجرأة تصل حد التهور في تنفيذ الأهداف التي يرسمها لنفسه. ضف لذلك، فأن " الأبطال" الذين كانوا يحيطونه، وقتذاك، كانت قد أنهكتهم خلافاتهم، بما فيه الكفاية، بعد أن تم تسفير بعضهم إلى أسبانيا، وبقاء بعضهم الأخر يتصارعون فيما بينهم داخل العراق، غارقين في مشاريعهم "البطولبة". إذن، كل الظروف الذاتية، الشخصية، لدى عارف، ومعها الظروف الموضوعية، كانت تناديه أن يكون بطلا.

ولهذا، سرعان ما امتطى عبد السلام عارف أول دبابة صادفته، وقام بإذاعة "بيانه الأول" في صباح 18 تشرين الثاني عام 1963، وأعلن فيه حل " الحرس اللاقومي". وحالما فعل ذلك، فأن جميع " الأبطال" الذين كانوا يتصارعون على الفوز بموقع "البطولة"، ألقوا، فورا، بأسلحتهم، واستسلموا ل" البطل" الجديد. سنرى، انه منذ 18 تشرين الثاني 1963، وحتى 14/ 4/ 1966، وهو يوم مقتل عبد السلام في حادث الطائرة، فأن إطار البطولة شغلته صورة واحدة هي، صورة " البطل" عبد السلام عارف، بعد أن توارى أمامه جميع " الأبطال"، وأصيبوا بالخرس، ما خلا محاولات "بطولية " محدودة جدا نفذت، ولكن إثناء غياب عبد السلام عارف خارج البلاد، مثل محاولة عارف عبد الرزاق في منتصف شهر أيلول عام 1965، والتي عدل عن تنفيذها في اللحظة الأخيرة، وهرب بعد ذلك إلى مصر، خوفا من انتقام عبد السلام عارف.
وما خلا محاولة عبد الرزاق عارف اليتيمة، للفوز ب"البطولة "، فأن الساحة السياسية، طوال فترة حكم عبد السلام عارف، خلت تماما من "الأبطال" العسكريين والمدنيين، على السواء. فقد انشغل جميع " الأبطال"، لأنهم وجد أنفسهم أمام "بطل حقيقي" مهاب الجانب، "بالمناورات والمساومات والدسائس والمكر والخداع"، على حد تعبير أحد رجالات ذلك العهد، هو الوزير عبد الكريم فرحان. أي أنهم كانوا منشغلين في تملق "البطل" عبد السلام عارف، و الحصول منه على مكاسب خاصة لهم. واستمرت هذه الحال إلى اليوم الذي قتل فيه عبد السلام عارف في حادثة الطائرة يوم 14 نيسان 1966، عندما أضحى إطار البطولة، مرة أخرى، فارغا من صورة "بطل" يملأه.

"اللابطل" عبد الرحمن عارف يثير شهية "الأبطال"

تماما، في اللحظة التي أذيع فيها نبأ مصرع عبد السلام عارف، في 14 نيسان 1966، أستيقظ، وعلى حين غرة، "أبطال" من كل صنف ولون، بعد أن كانوا يغطون، قبل ذلك، بنوم عميق. ومنذ ذلك اليوم وحتى يوم 17 تموز 1968، فان العراق لم يشهد صراعا على " البطولة " مثلما شهد خلال تلك الفترة.
في الواقع، أن تلك الفترة الممتدة من 14 نيسان 1966 وحتى 16 تموز 1968، تعتبر "الفترة الذهبية" في تاريخ العراق، التي تجلى فيها استعراض عضلات " البطولة " السياسية، أفرادا وجماعات. وكان ذاك أمرا متوقعا جدا، بسبب عامل رئيسي هو: بقاء إطار صورة "البطولة " فارغا من "بطل" يملأه، طوال فترة حكم عبد الرحمن عارف.
فقد كانت جميع متطلبات "البطولة"، فرديا وعسكريا وسياسيا، غير متوفرة لدى عبد الرحمن عارف، عندما أصبح رئيسا للجمهورية.
من ناحية الخصال الشخصية، كان عبد الرحمن عارف "طيبا إلى ابعد الحدود، متسامحا، يكره العنف والقسوة، يستجيب للرجاء، لا يعرف الحقد وينسى الإساءة "، على حد تعبير الوزير السابق، عبد الكريم فرحان. وهذه خصال أخلاقية "هشة"، أو "مخنثة"، تتعارض، تماما، مع قيم "البطولة" السائدة التي نعنيها في هذه السطور، وما تزال سائدة حتى الآن. فمواصفات البطل العراقي الذي تسيد المشهد العراقي السياسي، منذ 14 تموز 1958، بل وقبل ذلك التاريخ، أيضا، كانت تنص على أن يكون البطل قاسيا إلى ابعد الحدود، عنيفا، لا يعرف التسامح أو المغفرة، وحقودا لا ينسى ولا يصفح عن الذين أساءوا له.
ومن الناحية العسكرية، لم يعرف عن عبد الرحمن عارف خوضه لمعارك عسكرية، أو اشتراكه في انقلابات عسكرية، ناهيك عن كونه لم يدخل كلية الأركان العسكرية.
أما من الناحية السياسية، فان عبد الرحمن عارف لم يكن منتميا لأي حزب سياسي، وقد أصبح رئيسا للجمهورية، فقط لأنه شقيق الرئيس المتوفى، عبد السلام عارف. ووفقا للرطانة الشعبية البطولية، فان عبد الرحمن لم يصبح رئيسا "بذراعه"، إنما بفضل قرابته للرئيس المتوفى.
وإذا كان عبد الرحمن عارف بهذه المواصفات " اللابطولية "، فأن رئيس وزراءه، آنذاك، الدكتور عبد الرحمن البزاز، كان يجسد الصورة المضادة ل"البطولة" السائدة. فقد كان البزاز أستاذا جامعيا، سلاحه الوحيد هو قلمه، وتحصيله الأكاديمي. وهذه الميزات لا تساعد صاحبها لان يكون "بطل"، بل أنها تنقص من مكانته "البطولية" في أعين "الأبطال. ولهذه الأسباب، فأنه في اليوم نفسه الذي أصبح فيه عبد الرحمن عارف رئيسا للجمهورية، ومعه الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيسا للوزراء، فأن "الشهية البطولية " سرعان ما تفتحت، وعبرت عن نفسها، على شكل اجتماعات ومناورات قام بها، على عجل، كبار الضباط المتنفذين أنذاك، رغم أنهم لم يحركوا ساكنا طوال حكم "البطل" عبد السلام عارف. وقد أثارت تلك التحركات "البطولية" حفيظة الدكتور البزاز، عندما صرح قائلا، في مؤتمر صحفي عقده في تلك الأيام: " إن شهية الضباط للحكم انفتحت بعد الحادثة )مقتل عبد السلام عارف(، شأن من يشتم رائحة الشواء". وكان البزاز صائبا في ما يقول. ففي نفس اللحظة التي كان يتحدث خلالها البزاز، كانت مجموعة من كبار الضباط تجتمع، لمناقشة " فكرة احتلال بغداد بقطعات تزحف من الشمال" للإطاحة برئاسة عارف وحكومة البزاز.
ولأن عبد الرحمن عارف لم يكن، بسبب مواصفاته التي ذكرناها، "بطلا"، فإن أطار البطولة ظل فارغا، يبحث عن من يملأه. وطفق جميع "الأبطال"، مدنيين وعسكريين، أفراد وجماعات، يحاولون ملأ إطار البطولة، الذي ظل فارغا، دون صورة "بطل" تملأه، سواء عندما كان الدكتور البزاز رئيسا للوزراء، أو حتى عندما أصبح الفريق طاهر يحيى رئيسا للحكومة.
في كتابه )حصاد ثورة(، المكرس للحديث عن تلك الفترة، يورد مؤلفه الوزير السابق، عبد الكريم فرحان، العنوان الفرعي التالي: "ربان عاجز وحرس متآمر".
"الربان العاجز" الذي يعنيه فرحان هو، رئيس الجمهورية، عبد الرحمن عارف. و"الحرس المتآمر" هم كبار الضباط الذين كانوا يحيطون برئيس الجمهورية. وتحت هذا العنوان الفرعي، كتب الوزير فرحان ما يلي: "ركب الغرور مجموعة الداود/ النايف وشجعها ضعف رئيس الجمهورية واستجابته لجميع المقترحات وثقته المطلقة بها، وبدأوا يعملون لإقصاء عبد الرحمن عارف وإحلال العقيد إبراهيم الداود محله، وجرى الاتصال بصعب حردان، أمر الانضباط العسكري وغيره. )... (وقال الداود معتدا ومتباهيا، لقد كان جمال عبد الناصر برتبة مقدم، أما أنا فعقيد، وسخر من ضعف رئيس الجمهورية) عبد الرحمن عارف (". ثم يقول فرحان في مكان أخر من نفس كتابه المذكور: " تميز النصف الأول من شهر تموز عام 1968، )أي قبل انقلاب 17 تموز 1968 ( بنشاط غير اعتيادي شمل معظم الكتل والجماعات وبعض السفارات، وتمت لقاءات بين أطراف طامحة متربصة للاتفاق على توزيع الأنصبة والمناصب. )...( ودوت بضع طلقات قرب القصر الجمهوري استسلم على إثرها عبد الرحمن عارف) في 17 تموز 1968 ( بعد أن تبين له أن لواء الحرس الجمهوري هو القائم بالانقلاب، وأنى له )عارف( أن يقاوم وبمن يستعين إذا غدر به وخانه حراسه أبناء لواء الرمادي .. كان )عبد الرحمن عارف( غافلا لا يميز العدو من الصديق".
واضح، أن الوزير فرحان أراد أن يقول أن الرئيس عبد الرحمن عارف، إنما راح ضحية تسامحه، وثقته بأصدقائه والمقربين منه، وترفعه عن أساليب الوشاية والغدر، واستخدام العنف، كوسيلة للدفاع عن حكمه. وهذه صفات مضادة، تماما، لمواصفات " البطولة" السائدة، وهذه الصفات نفسها هي التي شجعت اولاءك الذين يحيطون بعارف، أن يستعرضوا عضلاتهم البطولية. وسنرى كيف أن جميع أولاءك "الأبطال"، صمتوا، تماما، وتواروا، تماما، عن مسرح الأحداث، بعد أن رأوا أمامهم "بطل" "حقيقي" أسمه صدام حسين، بل أن بعضهم، بما فيهم فرحان نفسه، وطاهر يحيى وعبد العزيز العقيلي وآخرين، ارتضوا مجبرين أن يكونوا، ووفقا لشهادة فرحان نفسه، مهرجين، يجبرهم صدام، وهم داخل السجن، على الرقص مثلما ترقص أي مطربة. وسنرى، أيضا، كيف تحول البعض من كبار هولاء العسكريين، وهم داخل سجن قصر النهاية، إلى صبيان داعرين، يشتم أحدهم الأخر بعبارات نابية، بينما هم يشعرون بالهلع، إذا وقفوا أمام مدير السجن، آنذاك، ناظم كزار، وفقا لشهادة فرحان، أيضا.
ومنذ ذلك التاريخ، أي 17 تموز/ يوليو /1968، بدأت الدولة تحقق طفرات نوعية، فيما يخص قوتها ومركزيتها وشموليتها، وكذلك فيما يخص جهدها في السيطرة على المجتمع، أفرادا وجماعات. وبوصول صدام حسين إلى السلطة وتفرده في حكم البلاد، في نهاية السبعينات من القرن الماضي، أصبح من الصعب التفريق بين الدولة وبين الحاكم، من جهة، وبين الدولة والمجتمع ومؤسساته المدنية، بما فيها حزب البعث الحاكم، من جهة ثانية. لقد تحولت الدولة، وربما لأول مرة في تاريخ العراق، إلى الحكم والخصم، في آن واحد. ثم ذابت الدولة داخل شخص واحد هو، صدام حسين، وأصبح هو الحاكم والمربي والقاضي، بل والمرجع الروحي، أيضا. وفي غياب كاد أن يكون شاملا، للطبقة الوسطى، نتيجة القمع أو سوء الأوضاع الاقتصادية أو الحروب أو الهجرة، أفتقد المجتمع قلبه الذي يضخ، تقليديا، الدم داخل جسد المجتمع. وكلما اشتد ساعد صدام وقويت شوكته، كلما كان العراق يتحول، بأكمله، إلى ما يشبه سجن كبير، يستطيع نزلاءه أن يلفظوا داخله أي كلمة، إلا مفردتي الديمقراطية والحرية. وقد استمر هذا الوضع الغريب والاستثنائي، حتى لحظة سقوط نظام صدام حسين.

المقال هذا جزء من كتاب يُنشر قريبا في مكتبة إيلاف