فجأة تحول الاعلام العراقي من رسمي مركزي متزمت الى اعلام يفترض ان يكون حرا دون رقابة ودون هيمنة للدولة عليه.. هذا التحول الذي طرأ بين عشية وضحاها لم يشهد مرحلة انتقالية او مقدمات او اي تمهيد له لارتباطه المباشر بالتغيير السياسي ولا زال الصحفي في الاعلام المقروء والمسموع والمرئي لم يشف بعد من خوف عمر طويلا يطارده شبح الرقيب واثار القيود السابقة.. نلاحظ ذلك في مقابلات الصحفيين مع المسؤولين او اثناء تناولهم لمواضيع حساسة يقابل ذلك ميل المسؤول الى هيبة يعتقد ان الخوف هو اساسها فالسلطة بالمعنى الفولكلوري العراقي تعني ( ان يرتعد الموظف ممن هو اعلى منه في السلم الوظيفي). المسؤول العراقي ايضا وجد نفسه فجأة في مناخ غريب كل الغرابة عن نهج كل الحكومات السابقة ولا بد ان يتعلم معايير جديدة في الهيبة والاحترام.. قد ينسى الصحفي احيانا التقويم فيخاطب المسؤول باللغة نفسها التي كان يخاطب بها مسؤولا في العهد السابق وفي الوقت نفسه قد ينسى المسؤول انه في وضع اخر فيقلد سابقيه، في الكلام على الاقل، دون ان يدري.
هل اصبح الاعلام حرا..؟
ان السبب اعلاه ليس هو الاول في تقييد الكلمة من قبل صاحبها فما اسلفت ليس سوى ظاهرة طبيعية ترافق التحولات الجذرية في كل مجتمع وفي كل مكان ، الا ان ما يكبل الاعلام حقا هو:
-قيام جهات اجنبية بتمويل فعالية اعلامية من اي صنف كان تجعلها رهينة للتمويل واصحابه علما بأن الممول سيكون مجنونا ان لم يفرض شروطه وما يقال او لا يقال في تلك الوسيلة الاعلامية والحالة هذه هي ظاهرة تكاد تكون عامة وهي لا تعني البتة نشوء اعلام حر بل استبدال وزارة الاعلام العراقية السابقة بجهة قد تسمح لها بالكثير لكنها تؤشر بكل قسوة خطوطها الحمراء وتملك وسيلة عقابية صارمة: قطع التمويل.. اننا نجد اعلاميين ابرياء يعملون هنا وهناك دون ان يتقاضوا الحد الادنى من اجورهم بينما نجد نفرا يدعي انه يملك وسيلة اعلامية مع انه لا يملك الا ما يضعه في جيبه مستخدا جهازه الاعلامي كما يستخدم بعض الشحاذين اطفالهم في التسول.
-ازاء حالة عدم الاستقرار الامني وهيمنة الاحزاب على الشارع يخشى الصحفي من طرق مواضيع يعرف مسبقا انها لا تروق لهذا الطرف او ذاك كما يخشى من استهدافه من عناصر ارهابية.. لذلك فهو يمشي في درب محفوف بالمخاطر يخاف كل لحظة ان يصطدم بالارصفة الضيقة التي تفرضها هذه الحالة.
-هذا المناخ يفرض حالة تدجين غريبة يصبح فيها الاعلامي اليفا جدا في كتاباته واعماله فيفقد دوره ويستسلم لمتطلبات السوق.
-ان ظرفا قاهرا يبرز امام الاعلامي داخل العراق اما الموجودون خارجه فلا عذر لديهم سوى ولعهم بالحياة الهانئة للدواجن وعليهم تسمية الاشياء بغير اسمائها ومن حسن الحظ ان هذا يشمل القلة في الخارج.
الاعلام العراقي تحرر من قيود ليقع في قيود وشباك اخرى واصبح يكرر مصطلحات جديدة دون ان ينال افق الحرية المنشود فلا زال العاملان القويان يلعبان الدور الاكبر في الاعلام: الخوف والمصلحة.
ان ثقافة القبول بالرأي الاخر جديدة علينا ندعيها احيانا ولكننا لم نعتد على هضمها اذ لم يسبق ان كان الحوار سيد الخلاف في التاريخ السياسي العراقي الحديث وكان النزاع الفكري مصحوبا بالعنف الذي تطفح به الذاكرة العراقية ، ان مواجهة هذه الحالة لا تتم بالاستسلام لها بل مناقشتها على كل الاصعدة وحبذا لو تضمن الدستور القادم تشريعا يمكن بموجبه اصدار لوائح قانونية تنظم العمل الصحفي وتمنع منعا باتا التمويل الاجنبي من اي جهة كانت وتمنح الاعلامي حصانة المهنة كما تنظم علاقات الاعلام باجهزة الدولة كما هو حاصل في الدول الديمقراطية.
وبانتظار حالة افضل لا ينبغي ان تسود ظاهرة التدجين تحت تبريرات مختلفة ويمكن اعتبار هذه المرحلة انتقالية في الاعلام تجد فيها الغث والسمين وهي بحاجة الى دعم الاتجاهات السليمة في المرحلة فالزمن وحده ليس كفيلا بان يقودنا نحو ما ننشده.
ان اي حكم بحاجة الى اعلاميين احرار بقدر حاجته الى المعارضة او الى البرلمان فدون ذلك لن نجد غير المصفقين الذين لم يستطيعوا ان يفيدوا صدام حسين بشيء.