إذا أخذنا بنظر الاعتبار تأثير النسق الاجتماعي في بلورة ظاهرة معينة في شكل معين، مميز عن سواه، نجد أن المنشأ الثقافي لتصورات الشاعر العربي المعاصر عن نفسه - أي عن أهمية الشاعر ودوره في الحياة - يتشكل من بعدين، الأول هو صورة الشاعر في التراث والتاريخ العربيين، حيث هو لسان حال الجماعة وضميرها والمدافع عن حياضها، وبالتالي فعلى نوعية مبادراته تعتمد معنويات الجماعة.وهذه مسألة غاية في الأهمية، لأن المجتمع العربي القديم، وبحكم ظروف حياته غير المدينية وغير العملية، كان مجتمع معنويات، من حيث هو مجتمع مُثلٍ وقيمٍ لا يمكن الحياد عنها، لأنه لا يمكن تصور الحياة بدونها. وبالتالي فلا فكاك في حياة كهذه بين الشاعر وبين الجماعة. فهو المُعبـّر والمؤ‎كّد والمدافع عن تلك القيم والـمُثل. ولذلك فقد كان الشاعر العربي في قلب الدراما الاجتماعية. وهو من أوائل المؤثرين والمتأثرين بـها سلباً وإيجابا، ما جعله ضحية لها في كثير من الأحيان. ضحيتها أو شهيد تطاحنها والتباساتها. فالشاعر العربي القديم غالباً ما مات مُطارَداً أو مقتولاً !! الأمر الذي أضاف لصورة الشاعر في خيال الناس هالةً قدسية أو شبه قدسية، وحتى عندما تغير النسق الاجتماعي العربي بعد مجيء الإسلام، حيث استمد طبيعته من بنية الدولة الإمبراطورية في العهدين الأموي والعباسي، فإن صورة الشاعر كمواطن تراجيدي، لم تتغير من حيث الجوهر، بل كُرّست أكثر فاكثر، فليس المصير المأساوي لأمرىء القيس وطرفة بن العبد يختلف عن مصير المتنبي أو دعبل الخزاعي أو الحلاج الكوفي، مثلاً لا حصراً، الأمر الذي جعل كل هذا بمثابة خلفية تاريخية لتصورات الشاعر العربي المعاصر عن نفسه ودوره في الحياة. أما البعد الآخر لهذه الصورة، فهو متأتٍ من تعريفات الثقافة الأوربية المعاصرة للشاعر خاصة في بداية وأواسط القرن العشرين، والتي تم تعميمها عندنا عبر الترجمات المتداولة، فالشاعر ( هو مهندس النفس البشرية ) وهو ( الرائي )...الخ. وهنا سنجد بأن كل شيء في هذه الصورة يبدو مغرياً، متلائماً مع نرجسية الشاعر أو الشاعر الـمُقترح، إذ يجعله طابعها الدرامي أقرب إلى البطل المأساوي. فهي صورة (مثالية ) إذن. لكن وبسبب من مثاليتها هذه، فهي تنطوي على ورطة سلوكية وثقافية معاً. ورطة يظل الشاعر العربي المعاصر يدفع ثمنها، وعلى الصعيدين ذاتهما، السلوكي والثقافي، طوال حياته. وذلك لأن صورة مثالية كهذه، مركبة بما يلائم نرجسيته وتصوراته عن نفسه، هي في واقع الحال، لا يمكن أن تتطابق مع طبيعته الإنسانية المتناقضة والتي لا تخلو من نقاط ضعف كأي إنسان آخر، إذ كثيراً ما يجد نفسه أمام بؤسه وضعفه وجهاً لوجه. وفي تأرجحه بين الرغبة في ( تمثيل ) دور البطل التراجيدي وبين تناقضاته اليومية كإنسان عادي. فهو كثيراً ما يجد نفسه في حالة مُحرجة إزاء الجمهور. فهذا الجمهور المحكوم بدوره بصورة الشاعر المثالية، هو جمهور متحمس ومرهف، يسكنُ التاريخُ العربيُ الطويلُ خيالَـه ووجدانَـه، وهو في الآن ذاته مُحاصر بشروط حياة قاسية، هي ظروف الخذلان الحضاري والسياسي المفروضة عليه، بحكم الحالة السائدة عموماً في بلدان العالم الثالث، وهو بالتالي جمهور مخذول شعورياً ومُتعَب روحياً، ينتمي سيكولوجياً لنسق البحث عن ( رمز ) أو ( رموز ) تسنده معنوياً. وهذه الحاجة المعنوية ستتخذ طابعاً مضاعفاً، بحكم غياب أو صعوبة الوصول إلى الأهداف الروحية والمادية المشروعة التي يريد تحقيقها هذا الجمهور دون جدوى.
إن هذا الإيقاع الثقافي والاجتماعي بأبعاده المختلفة والمتداخلة، هو الذي أنتج ظاهرة الشاعر الجماهيري ذي الصوت العالي الذي يـُنظّم صوت الجمهور وصخبه، ليمثل الحس والرغبة الجماعيين بالإعلان عن الوجود وتجديد صيرورة هذا الوجود، داخل النص الشعري وخارجه، مُحوّلاً الكلمات إلى دروع ومساند ومزارع وأناشيد لإنعاش روح الجمهور وخياله. وهكذا سيجد الشاعر العربي المعاصر نفسه، في ورطة مستمرة، بين حقيقته كإنسان بما تنطوي عليه من متطلبات وتناقضات ونقاط ضعف، وبين الصورة المثالية والرمزية المكرسة عنه !! لكن الحياة المعاصرة عموماً لم تعد بحاجة إلى مثل هذه الظواهر، ف( الرمز ) يعني سلطة مُعلنة أو مستترة ولكنها في الحالتين تمارس تأثيرها من موقع الهيمنة والقداسة على حساب حرية مشاعر الآخرين وحقوقهم وأولها حق الاختلاف.
وكل هذا أصبح من متعلقات الماضي وثقافة الماضي، ويمكن تصوره قائماً عند شعوب معاصرة لكنها ما تزال تعيش في الماضي وعلى فتات ثقافة الماضي كما هو الحال عندنا، وذلك بسبب تخلف الأنظمة السياسية في البلاد العربية، حيث هي محكومة من قبل عوائل تتوارث السلطة توارثاً، أو ديكتاتوريات عسكرية أو مدنية، وهي في الحالتين محكومة بعقلية بطريركية متخلفة. عقلية الشيخ أو السلطان أو القائد المطلق، تحرم المواطن من غالبية حقوقه المدنية والسياسية. لكن ورغم أن عملية التحديث والتنمية الحقيقية لا تقوم وتتطور إلا في ظل نظام ديمقراطي، نستطيع أن نرى أيضاً بأن عمليات التحديث وإيقاع الحداثة أصبحت تجتاح جميع مجتمعات العالم الثالث شاءت حكوماتها ذلك أم أبت. ومع زحمة السوق وازدياد الحاجات اليومية والاستهلاكية للناس، بدأت طريقة الحياة والمزاج العام بالتغيـّر، فلم يعد ثمة مكان لتلك ( الهالة ) الخاصة التي تُحيط بالشاعر أو الحاكم في خضم الإيقاع الاجتماعي الحديث، إذ أصبحت الظواهر والمفاهيم تتفكك ويُعاد تشكيلها باستمرار. فكل شيء أصبح مرتبطاً بالمؤسسة والبرنامج وسوق العمل، ومن هنا جاء الانقلاب في المفاهيم الجمالية والاجتماعية وفي قيم الحياة عموماً.
إن تجاور ثقافة الماضي التي ما تزال تحيا عندنا الى جانب الثقافة الحديثة جعلنا نعيش في حالة استثنائية هي حالة العيش في ظل ازدواجية ثقافية تتراوح بين استمرار تأثير ثقافة الماضي وبين متطلبات الحياة الحديثة بما تنطوي عليه من مفاهيم وظواهر جديدة. وهذه الازدواجية الثقافية في الواقع تشمل مختلف جوانب حياتنا. ومن عواقب ذلك ضمناً، وبسبب تعلق وعي ومشاعر الشاعر العربي المعاصر بين ثقافتي الماضي والحاضر ولأنه ليس بوسعه أن يتنازل أو يتقبل حقيقة كل هذه التحولات السريعة التي غيرت من طبيعة دوره ومكانته، سنجد إنه كلما ازدادت ( خيـبة ) الشاعر بالواقع والجمهور وقبل ذلك خيبته بنفسه، أي خيبته بالصورة المثالية التي رسمها لنفسه، فهو يحاول في كثير من الأحيان، إثارة الصخب من حوله، حتى لو اقتضى الأمر الظهور غير الـمحبب بمظهر الضحية.
أو الالتجاء إلى المبالغة والتهويل، أو إسقاط حالة الحصار النفسي التي يعيشها، بحكم أزمته وازدواجيته، على اللغة والجمهور معاً !! وبسبب هيمنة أجواء الخيبة هذه، نجد أن الصراعات المعلنة والمستترة بين الشعراء العرب المعاصرين أو حولهم، غالباً ما لا تؤدي إلى حوار أو تجدد ثقافي يُعتد به، بل هي أقرب إلى صراع محاربين على غنائم بائسة لحظة انتهاء الحرب. وهي غنائم التقرب من السلطة أو من الأحزاب المعارضة أو من الأمجاد الوهمية !! أي التحول إلى ماركة إعلامية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك !! وهذا ما يفسر أيضاً عدم وجود قيم ومفاهيم تتناسب مع طبيعة الحياة المعاصرة، تنظم علاقة الشاعر بنفسه أو مع الجمهور أو المؤسسة، ناهيك عن علاقة الشعراء بعضهم بالبعض الآخر !!
إن المفهوم الذي شاع مؤخراً عن ( المثقف الهامشي ) وضمناً ( الشاعر الهامشي ) في مقابل الصفات التي شاعت في المتابعات العربية المعاصرة مثل ( الشاعر الملتزم ) و (الشاعر الكبير )، يأخذ أهميته لا من كونه فقط إقراراً بواقع حال إنساني يجنب الشاعر الأوهام البائسة المتوارثة عن مهماته التاريخية أو الأسطورية المزعومة، بل - وهذا هو الأهم - من اعتبار الهامشية موقفاً ينطوي على رفض وتجنب ثقافة الماضي وأحابيلها واسقاطاتها السياسية الجديدة ومفاهيمها عن الشاعر وموقعه في الدراما الاجتماعية. أي رفض كل ما يؤدي الى تحميل الشاعر ما لا طاقة له على تحمله أصلاً - والغريب إن أدونيس ما يزال يروّج لمقولة ( أن مهمة الشاعر هي زلزلة الواقع ) التي يرددها بين وقت وآخر !! وكلام كهذا ينتمي للأوهام القديمة عن الشاعر طبعاً، ويستعمل الآن بطريقة نفعية للاستفادة من ازدواجية المفاهيم في الثقافة العربية المعاصرة.
إن الهامشية بـهذا المعنى الواقعي لا تنطوي على تنصل من المسؤولية الاجتماعية، بل على تحديد لشكل وأبعاد هذه المسؤولية، حيث يصبح الشاعر مسؤولاً إزاء نصه بصفته شاعراً، ومسؤولاً عن العالم بصفته إنساناً يعيش فيه، وليس بصفته عرّافاً أو بطلاً أسطورياً لكي (يزلزل الواقع ) !! وهذه خطوة ضرورية باتجاه تحديد المفاهيم لكي يكون السياسي سياسياً والطبيب طبيباً والشاعر شاعراً، وذلك للحد من تداخل المفاهيم والأدوار الشائعة في حياتنا العربية جراء الازدواجية الثقافية التي نعيش !!
ولكن من الضروري القول هنا، بان تحديد المفاهيم والأدوار، هذه الظاهرة التي نجدها واضحة في المجتمعات الديمقراطية في الغرب، إنما هي أيضاً ظاهرة مشروطة تستند للنسق الحضاري الذي أنتجها، أي إنـها لا تأتي بمحض الرغبة.
على إن محاولة إدراك خلفية هذا الالتباس في تداخل المفاهيم والأدوار عندنا، وفهم الأسباب التي أدت إليه، يـجعلنا أقل بلبلة في رؤية وتأمل ما يدور حولنا من تناقضات وأخطاء في الأقل.