تعليقا على الاستفتاء

خلال اليومين الأخيرين ثبتت نتائج استفتاء إيلاف إلا من بعض التغيرات الطفيفة في الكسور العشرية، وهو ما يسمح بإيراد بعض التعليقات الأولية عليها. لقد جاء السؤال بسيطا يتناسب مع مستوى جميع الشرائح الاجتماعية: "أتعتقد أن تدخل رجال الدين في السياسة خطأ؟". وكانت النتيجة أن صوت 4ر70% مع خطأ تدخل رجال الدين في السياسة. ورأى 1ر28% أن تدخلهم ليس خطأ. وقال 5ر1% فقط أن الأمر لا يعنيهم. ووصل عدد الذين أدلوا بأصواتهم إلى 5535 شخصا، وهو عدد كبير نسبيا.
هذه الـ (لا) الواضحة والتوكيدية ليست في حاجة إلى شرح أو تعليق، لأنها إجابة شافية ووافية على تدخل رجال الدين في السياسة. أما نسبة الـ 1ر28% التي ترى أن تدخلهم في السياسة ليس خطأ، فهي نسبة موجودة وفعلية وفعالة أيضا، ولا يجوز بأي حال من الأحوال إهمالها.
هذا الاستفتاء لم يطرح هكذا استغلالا لظرف ما، أو استشرافا لرد فعل ما على أحداث ما. والسبب يعود ببساطة إلى أن أحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لم تتغير كثيرا منذ عشرات السنين. وبالتالي فلو كان هذا السؤال طُرِح حتى قبل تفشي ظاهرة الإرهاب، لكانت النتيجة قريبة أيضا من نتائج اليوم. غير أن سؤالا بديهيا يظهر بشكل تلقائي: ماذا عن النسبة التي ترى أن تدخل رجال الدين في السياسة ليس خطأ؟! إنها نسبة كبيرة وملموسة (1ر28%).
إن الذين يرون أن تدخل رجال الدين في السياسة خطأ يتجاوز ثلثي المصوتين. وهو ما يعني بشكل أو بآخر أن هذه النسبة، الأغلبية، تقف بدرجة أو بأخرى ضد الصياغات الدستورية في المنطقة العربية، وضد تدخل المؤسسات الدينية (رسمية أو غير رسمية) في السياسة، وضد تلاعب الأنظمة السياسية بالدين الذي هو لعب بالنار في الوقت نفسه، وضد المؤسسات الدينية التي تضع عينا على السلطة وعينا على تفسير الله والقرآن، وعقلها يعمل بنشاط غريب في التوفيق بين سوء أحوال الناس الاقتصادية والاجتماعية وبين تبرير ذلك من أجل الحفاظ على مصالح متبادلة مع النظام السياسي.
لقد جاء السؤال في غاية البساطة ليبرز أحد الجوانب السياسية. ولكن السؤال "هل تدخل المؤسسات الدينية في حياة الناس والدولة صحيح؟" يبدو أكثر دقة، لأن رجال الدين لا يتحركون فرادى. فهم في حالة استنفار دائم، ولديهم هواجس عجيبة، وارتياب، وكأنهم يعيشون حالة طوارئ دائمة. إنهم لا يستطيعون التنفس بدون مؤسسات رسمية. وبالتالي يستخدم كل منهما (السلطة السياسية والمؤسسة الدينية) الآخر كغطاء، طالما لم يقترب أي منهما من مصالح الآخر. ولكن ماذا عن تلك المؤسسات التي خرجت عن الخط المرسوم وانتهجت سبيلا آخر لتحقيق مصالحها، والحديث يدور هنا ببساطة عن التنظيمات الإرهابية التي تعتمد تفسيرها الخاص للدين دستورا إلهيا؟
هذه التنظيمات أيضا أكثر استنفارا وتوجسا ورعبا، ولذلك فهي لا تستخدم فقط رصيدها السابق في الأيام الخوالي، عندما كانت هي المُفَضَّلَة لدى الأنظمة السياسية داخليا وخارجيا، ولكنها تلجأ إلى السلاح أيضا ضد أي من كان، وهذا هو الخوف والذعر بعينه.
الناس في حاجة دائمة إلى الدين، والدين بالذات، وليس إلى مجرد ثقافة روحية. وهذا حق لأي إنسان. أما الذي ليس من حقه، فهو التدخل في حياة الآخرين، أو الاعتداء على أرواحهم وممتلكاتهم وحقهم في اعتناق الدين الذي يرتضونه ويتوافق مع متطلباتهم الروحية. وعندما يتم ردم الهوة بين حرية الاعتقاد والتدخل في الحياة الروحية للآخرين وإعلان الوصاية عليهم باسم دين محدد، ستبدأ الخطوة الأولى نحو تحرير العقل. ولكن ماذا بشأن الدساتير التي تستند إلى وصاية دين على دين، وناس على ناس؟!
في الحقيقة، لم يحدث أبدأ وقرأت أن الله انتقى بعض الناس ليقوموا بمهامه على الأرض. ولم يحدث أبدا أن صدر أمر إلهي بكتابة دساتير تملي وصاية دين على دين أو سيادة معتنقي ديانة على معتنقي ديانة أخرى، لا في اليهودية أو المسيحية أو الإسلام أو البوذية أو الكونفوشيوسية، أو حتى عند عبدة البقر والنار والضفادع.
نتائج استفتاء إيلاف، إلى الآن، هي تصويت حقيقي ليس على خطأ تدخل رجال الدين في السياسة وحياة الناس الروحية والمادية، وإنما تصويت على انحطاط الدساتير الطائفية والعنصرية، وتصويت على فصل المؤسسة السياسية عن نظيرتها الدينية.