في كل مجتمع هناك ثقافة عامة وتقاليد تترسخ وتعيد إنتاج نفسها بصيغ مختلفة عبر الأزمنة، فيصبح لدى الناس ضمناً اعتقاد مفاده إن ثقافتهم وتقاليدهم هي الصحيحة وما عداها فهو خطأ أو غريب ويصعب فهمه. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار بأن هناك قواسمَ مشتركة بين القيم الإنسانية الأساسية التي تحمي الإنسان من الانحرف. والمقصود بالانحراف هنا هو كل سلوك إذا تم تعميمه فهو يؤدي إلى عرقلة السياق الطبيعي للحياة أو توقفها، مثل المثلية الجنسية التي يبتلى بـها بعض الناس لأسباب فيزيولوجية أو نتيجة لسوء التربية، وتعتبر هذه من المشاكل المثيرة للبلبلة في مجتمعاتنا. والواقع فأن هؤلاء الناس المثليين جنسياً ليسوا سعيدين بحالتهم، بل إن هذه المشكلة تنغص حياتـهم عملياً حتى لو بدو لنا عكس ذلك. فهي تجعلهم قلقين ومضطربين أو منـزوين لما يعانونه من ضغوط اجتماعية ليس أقلها الخوف من الفضيحة، الأمر الذي قد يخلق عندهم ردة فعل مضادة للمجتمع وأعرافه الأخرى، فيصبحون قساة أو يتقنعون بما يساعدهم للوصول إلى مناصب أو امتيازات معينة للمارسة تلك القسوة المرضية الناتجة عن حالتهم غير الطبيعية من جهة وعن الضغوط الشعورية التي يعانونـها من جهة أخرى .
لذلك أُعتبر الشذوذ الجنسي في الغرب مشكلة شخصية يعيشها أو يعانيها المثليون مع بعضهم، وذلك لإبعاد الضغوط الاجتماعية عنهم خوفاً من انعكاساتـها السلبية التي قد تحولهم إلى أناس خطرين. وربما بسبب هذا الموقف نجد بيننا من يعتقد بأن الحضارة الغربية تدعو للشذوذ والتهتك !! أو إن هذه هي صفتها الأساسية !! وربما كانت إحدى أهم المشاكل التي تعانيها ثقافتنا العامة هي افتقارها للمرونة في مناقشة بعض الظواهر المضطربة، فيتم الاكتفاء بإدانتها أو يصل الأمر الى درجة حجبها والتغافل عنها كما لو كانت غير موجودة، أو إنـها موجودة عند الآخرين فقط ، ليتم استغلال ذلك دعائياً عندما تحين الظروف الملائمة !!
مناسبة هذا الحديث هو مقال قرأته مؤخراً في عدد قديم لأإحدى الصحف العربية عنوانه (نماذج عن الحرية والديمقراطية في الحضارة الأميركية ) والذي استعرضت خلاله الكاتبة وقائع برنامج تلفزيوني أميركي معروف بتخصصه في عرض بعض العلاقات والسلوكيات الشاذة والـمضطربة في المجتمع الأميركي . ورغم إنـها أوضحت بان ( قوام البرنامج إحضار بعض الأطراف المتخاصمة حول موضوع ما، إلى أستوديو التلفزيون لإجراء حوار ومناقشة أمام الجمهور الموجود في الأستوديو. وبالنهاية استخلاص نتيجة وعبرة ) إلا أن قولها في مقدمة المقال ( يصرخ رئيس الولايات المتحدة الأميركية تعليقاً وتعقيباً على حادثة نيويورك قائلاً : إن صراعنا مع الإرهاب هو صراع حضارات .. نحن بنينا حضارتنا وارتضيناها ولن نسمح لأي كان أن يمسها أو ينتقدها أو يحاول تبديلها، ولذلك أعلنا الحرب على الإرهاب. وأضاف : إنه يدافع عن الحرية ! ) وتواصل الكاتبة ( نقدم في ما يلي نـموذجين للحرية على الطراز الأميركي بثتها شاشة إحدى القنوات التلفزيونية الفضائية .. ) ثم تقوم بترجمة الحوارات التي دارت بين أفراد عائلة متفسخة ليس لديها أية التزامات بشرائع السماء أو الأعراف الأخلاقية المتعارف عليها. ومن خلال ربط الكاتبة بين حديث الرئيس الأميركي عن الحرية وبين الحالة المزرية التي يعيشها أفراد تلك العائلة ودفاعهم الغريب عن حالة التهتك المطلق التي يعيشونـها مرددين ( نحن في أمريكا، نحن أحرار وقد ضمن لنا القانون هذه الحرية ) يفهم القارىء ان ما قصده الرئيس الأمريكي ب ( الحرية ) هي هذه الحالة المتهتكة تحديداً !! وهذه مسألة غير واقعية طبعاً، علاوة على كون هذا الطرح ينقل مشكلتنا مع الغرب ومع أميركا ضمناً، من قضايا سياسية واقتصادية كبرى تتعلق بمفهوم العدالة في السياسة الدولية، الى مسائل داخلية وتفصيلية تخص البعض في تلك المجتمعات. وبغض النظر عن خطأ مفهوم ( صراع الحضارات ) الذي كُتب عنه كثيراً، فأن هذا البرامج التلفزيوني يعطي صورة سلبية جداً عن الجانب البائس لمفهوم الحرية، وهو جانب مرفوض عند الغربيين أنفسهم، حيث الغالبية تعتز بحريتها وتدافع عنها لأنـها هي التي تحفظ كرامة الإنسان وأمنه، حيث لا تستطيع أية جهة أن تعتدي على حقوق الناس وكرامتهم وتبقى بعيدة عن يد القانون، إضافة لوجود قطاعات كبيرة من الغربيين يعيشون بطريقة محافظة أو معتدلة فيما يخص علاقاتهم العائلية والعاطفية، والنماذج التي يقدمها ( جيري ) في برنامجه، هي نماذج شاذة وغير سوية ولهذا السبب ولكونـها مثيرة للفضول والاستغراب فهي تستقطب قطاعات معينة من المشاهدين. لكن الكاتبة مستغربة من تصفيق الجمهور نفسه لجميع المتكلمين من أفراد تلك العائلة والتي تتراوح ( لغتهم ) بين الشتائم المشينة وبين ضرب الكفوف . فهي لم تستطع أن تدرك على ما يبدو بأن هؤلاء الناس جميعهم ضحايا وجميعهم مذنبون في ذات الوقت، وهنا مكمن المفارقة . والكاتبة ربما تصورت بان جمهور الأستوديو هو جمهور اعتباطي، في حين إن البرنامج برمته ما هو إلا تمثيلية مرتبة مسبقاً من قبل مخرج أو فريق إخراج يقوم بتوزيع الأدوار بين مقدم البرنامج ( جيري ) وبين أشخاص الفضيحة بالتنسيق مع جمهور تم اختياره سلفاً ليؤدي الدور المطلوب إخراجياً. وكل هذا يتعلق بتسويق البرنامج بصفته بضاعة تلفزيونية، أما ( نجاح ) البرنامج و ( حيويته ) فيعتمدان على ( بطل ) التمثيلية، والبطل هنا هو هذا ( التهريج ) والانفلات والمفاجآت التي يشترك فيها الجميع، وهذه طريقة تسويق هذا النوع من البرامج والتي تباع بمبالغ كبيرة، وعلى الطريقة الأميركية فالمشتركون في حفلات من هذا النوع، لا أحد منهم يخرج ( بدون حمص ) فالأجور مدفوع للجميع، ما عدانا نحن جمهور المشاهدين الذين نملك حرية كاملة في الاستمرار بالمشاهدة أو الانتقال الى قناة أخرى، بعيداً عن تحميل الأشياء أكثر مما تحتمل .
ولا بد من القول ختاماً، أن المنظومة الحقوقية التي يتكون منها النظام الديمقراطي في الغرب، تمثل نقلة نوعية كبيرة في تاريخ الأفكار الأخلاقية، وهو ما انعكس إيجابياً على مستوى الحياة ونوعيتها في تلك البلدان. إننا نظلم أنفسنا ونتعسف ضد وعينا عندما ننظر إلى هذه الحضارة العظيمة من خلال تفسير مغلوط لبرنامج تلفزيوني، والأكثر من ذلك نكون قد أخطأنا في تحديد طبيعة مشكلتنا القائمة مع الغرب، وهي في جميع الأحول لا تتعلق بصراع حضاري، فلكل مجتمع أن يختار الطريقة التي يرى بأنـها الأفضل بالنسبة له. مشكلتنا في واقع الحال لا تكمن في العدالة الاجتماعية والحريات الواسعة في الغرب والتي قد يستغلها بعضهم بشكل مضطرب، بل بالازدواجية السياسية التي تميز مواقف الأنظمة الغربية، فهي عادلة مع شعوبـها بينما تكاد سياستها الخارجية تفتقر للعدالة مع العديد من شعوب العالم الثالث، الأمر الذي قد يجد له تفسيراً في طبيعة التنافس الدولي الذي تقف وراءه الشركات الاحتكارية الكبرى، الأمر الذي يعيد الكرة إلى ملعب أنظمتنا : ماذا فعلت هذه الأنظمة لحماية شعوبـها من ذلك التنافس غير العادل. هل منحت مجتمعاتها الحقوق المدنية والسياسية كما هو الحال في الغرب ؟! هل قامت بالتنمية الاقتصادية والحضارية التي تحمي المجتمع من داخله ؟! ثم هل الانحرافات الأخلاقية مقتصرة على تلك المجتمعات فقط ؟! ألا توجد إنحرافات في مجتمعاتنا ؟! ثم ماذا نسمي هذا الصمت المريب من قبل المثقفين وغير المثقفين العرب إزاء المجازر اليومية الرهيبة بحق الأطفال والمدنيين في العراق ؟! هل يدل إرتكاب هذه المجازر والصمت عنها على سوية أخلاقية حقاً ؟! إليس ما يجري في العراق بدعم عربي وصمت مريب هو أكثر أنواع الإنحراف الروحي والسلوكي إنحطاطاً ؟!
الأسئلة كثيرة والحديث ذو شجون حقاً .
- آخر تحديث :
التعليقات