مع التطورات الكونية التي حدثت بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م وما تبعها من تأثيرات مختلفة أدت بشكل أو آخر لاندلاع أعمال العنف في رقعة كبيرة من البشرية وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق وانتشار ظاهرة التطرف الديني وسط قطاعات كبيرة من المجتمعات سواء في المنطقة العربية او القارة الأمريكية او المنطقة الاوربية، وبلا شك ان الأرقام البشرية التي راحت ضحية لهذا التطرف هي كبيرة مقارنة بكل الاحداث الدموية التي حدثت في المنطقة العربية والاسلامية في عهود ماضية، هذا الامر فتح الباب الواسع للنقاس في أكثر من محور حول ثقافة ارساء قيم الحوار المطلق من جهة والحوار بين الاديان من جهة والحوار الداخلي المسلم المسلم هذه الرغبة في اندياح الحديث عن الحوار كانت إحدي الافرازات الطبيعية للمشاهد المقززة التي اصبحت مالوفة لدي الناس اينما كانوا، ولكن كانت اكثرها إلحاحا حادث مقتل المخرج السينمائي الهولندي ldquo; فان جوخquot; على يد مسلم متشدد من أصل مغربي لم يدرك قيمة الحوار في دينه الذي يعتنقه، ومن هنا بالذات برزت أهمية فتح ابواب الحوار على جمع الصعد التي ذكرت آنفا.

هذه التداعيات وغيرها جعلت الديانة الاسلامية هي المعنية في المقام الاول بالبراءة من الفوضى التي عمت اركان العالم من أشخاص نصبوا أانفسهم حماة للدين، بل اوصياء على أمة بكاملها، كما هي معنية ايضا بتبيان المفاهيم الدالة على سعة الفكر الاسلامي من واقع القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهذا أكبر تحدي تواجهة الامة الاسلامية وكل من ينتمي للدين الاسلامي الحنيف في الرد على كل الاسئلة الملحة التي تتبادر الي اذهان غير المسلمين والاجابة الواضحة على علامات الاستفهام الكبيرة التي أصبحت واقعا مفروضا على الاحداث وعلى المجتمعات المسلمة، وخاصة تلك التي تعيش في العالم الغربي والاوربي.

ان تاريخ البشرية كله دليل على الدور الهام الذي يؤديه إنتماء الإنسان الديني والثقافي في حياته ودليل على إنفتاح الإنتماءات الدينية والثقافية لتأثيرات متبادلة تحقق حركة مستمرة في لقاح الحضارات والثقافات. الإسلام عقائد دينية والتزامات عبادية وخلقية ونظام حياة، وهو كذلك تجربة تاريخية باهرة وحضارة عالمية حية، لذلك شكل الإسلام وما زال المكون الأهم لهوية المسلم بل تعدى أثره معتنقيه إلى سواهم على نحو ماقال الاستاذ قسطنطين زريق: laquo;الإسلام هو الدين القومي لكل العربraquo;، وما قال رجل الدولة مكرم عبيد: laquo;أنا مسلم وطناً وقبطي ديناًraquo;. منذ القرن التاسع عشر تعرض العالم الإسلامي لاستعمار أوروبي صحبه فكر علماني يبشر بإبادة القديم وبناء مستقبل علماني على أنقاضه. ولكن عوامل عديدة أهمها إخفاق الأيديولوجيات الوضعية في القرن العشرين، والدور الذي أداه الدين في يقظة الضمير الإنساني بعثت تيارات أصولية قوية في كل الأديان تصاعد أثرها منذ الخمس الأخير من القرن العشرين.

وهنا لا بد من تبيان أمر مهم ان اشتقاق كلمة إسلام من جذر واحد في اللغة العربية تخرج منه كلمة السلام ذلك أن ثمرة الإسلام هي السلام مع النفس ، والسلام مع الطبيعة ، والسلام مع الآخرين جميعاً والسلام مع أمر الله في الدنيا والسلام منه في الآخرة في دار السلام ولو أن أهل الأرض استجابوا جميعاً لنداء الإسلام لتحقق وعد الله بنفي الخوف والحزن عنهم . وإذا ارتفع الخوف والحزن عن الناس فقد حلت بالناس المسرة وساد علي الأرض السلام

ولقد جاءت رسالة المسيح عليه السلام في نفس السياق التاريخي من الرسل الذين يصدق بعضهم بعضاً وجاءت دعوة عيسي عليه السلام لرفع الأصر والأغلال التي ضربها بنو إسرائيل علي أنفسهم بالتساهل فيما أمر به الله والتشدد فيما لم يأمر به وليناهض المادية الغليظة التي ناءت بكلكلها علي الحياة . جاء عيسي عليه السلام برسالة اليسر بعد العسر والمحبة بدل التباغض والعفو بدل الانتقام والسلام بدل الحرب ولكن رسالة المسيح عليه السلام جاءت خطاباً خاصاً لبني إسرائيل تجاوزت خصوصيات هذا الواقع الإسرائيلي لتخاطب كل الناس بعقيدة التوحيد وبحقائق الكون والحياة . وهكذا تعاقب الرسل في موكب تاريخي يصدق بعضهم بعضاً ملة واحدة للعالمين اسماها إبراهيم عليه السلام أمة المسلمين عندما دعا ربه وإسماعيل ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ( (البقرة). ولذا لم يكن غريبا ان الإسلام ومن مرجعية نصوصه يعترف بالتعددية الدينية تعددية تقتضي التعايش، والتسامح، والحوار،فالإنسان مجبول على فطرة دينية إيمانية: (فِطْرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ...).

ليس هذا فحسب الإسلام يعترف بقيمة إيجابية للأديان الأخرى: (إِن الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالنصَارَى وَالصابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). اختلف المفسرون في عبارة الصابئين، وعندي إن العبارة تشير للذين إهتدوا للإيمان من تلقاء أنفسهم أي دون رسالة مثل أمية بن أبي الصلت ـ وهذا المعنى يمكن أن يعمم ليشمل الذين سعوا إلى الله بذاتهم.
وقال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدينِ..)، وهي تؤسس للتعايش الديني، وقال: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..). إجازة للحوار، وبالإضافة لهذه النصوص الناصعة فإن من مصلحة الإسلام أن يعم التسامح والتعايش بين الأديان للأسباب الآتية: ـ الإسلام هو أوسع وأسرع الأديان انتشاراً في مناخ التسامح الحالي، ثلث المسلمين يعيشون أقليات دينية وسط أغلبيات دينية أخرى، والتسامح يكفل لهم حقوقهم.
أكثرية المسلمين يعيشون في دول هم فيها أغلبية، ولكن تعيش معهم مجموعات وطنية تنتمي لأديان أخرى ولاسبيل لتحقيق السلام معهم إلا عن طريق الاعتراف المتبادل والتعايش السلمي بين الأديان والثقافات.
تعايش وحوار الحضارات أحصى الدارسون ثماني حضارات حية وعشر ألف ثقافة مميزة، كل الحضارات والثقافات تشتمل على عناصر مميزة لها ولكنها جميعاً تحتوي على عناصر وافدة إليها من غيرها.
ونحن اليوم مواجهون بتحدي الدفاع عن أصل التدين في الأرض وهذا التحدي ينبغي أن يدفعنا نحو تجاوز الشكوك والتوجسات لنتعاون علي البر والمشترك بين الأديان، ولنبدأ صفحة جديدة من الحوار الذي يحيي مثالاً دينياً في كيفية التعامل مع الآخر باليسر والحسنى فقد ظلت الأمراض ملازمة لحركة المتدينين تعييهم بالعجز عن الحوار مع الآخر والعجز عن التعايش مع الآخر، وقد حانت الفرصة الآن وأكثر من ذي قبل بإرساء ثقافة التعايش السلمي بديلا لثقافة الاقتتال التي لم يجني احد منها شيئا.