تمهيد

المصدر الرئيسي لأخبار (معركة بدر) يكاد ينحصر في سيرة ابن إسحق (ت 151)، ومنها أخذ الطبري (ت 310) / التاريخ ج 3 ص 31 حتى ص 84 / ولكن الطبري أورد أخباراً أخرى ذات أهمية، سوف نتعرض لها في الحلقات المقبلة إن شاء الله، كذلك أخذ منها ابن الأثير (550 ـــ 630 ) بلا ذكر للمصدر، وقد بدأ حديثه عن المعركة بقوله (وكان سببها قتل عمرو بن الحضرمي وإقبال أبي سفيان بن حرب في عِير قريش...)، كذلك الحافظ الذهبي (ت 748) مشيرا إلى ذلك صرا حة بقوله (من السيرة لأبن أسحق، رواية البكائي) / المغازي ص 50 / وقبله أبن القيم الجوزية ( 597) في كتابه الشهير (المنتظم) ملحقا به كتابه الفقهي المستند على السيرة والموسوم بأسم (زاد المعاد)، وهكذا مع أكثر وأهم المصادر التي كتبت ودونت سيرة النبي الكريم، فإنها أخذت جل ما دونته من سيرة أبن اسحق، تا رة مع الإشارة وأخرى بلا إشارة، وهذا ما رصده مستشرق بارع هو البريطاني (مونتكمري ) فسجله صراحة وبكل شجاعة. وكل ما أزيد علىسيرة أبن اسحق لم يدخل في صميم المعركة، أي ليس من الأمور المهمة التي تسترعي الإنتباه، فضلا عما يعتري هذه الزيادات من قصور سندي في كثير من الأحيان، اللهم إلاّ النزر اليسير، فلم تكن هي زيادات ذات فائدة قصوى تلك هي التي جاء بها الواقدي (ت 207) للهجرة، رغم فائدة بعض الخطب التي أوردها الرجل على لسان بعض القرشيين، وهم يحثون الناس على التصدي لمحمد بن عبد الله بعد أن وصلهم خبر نيته التصدي للقافلة القرشية بواسطة عين أبي سفيان (ضمضم). وللعلم يبدأ الواقدي عمله في المعركة بصيغة (قالوا) ثم يسرد الواقعة، وهي تتطابق مع سيرة إبن اسحق بشكل حرفي إلى حد بعيد، الأمر الذي دفع بعضهم لإتهام الواقدي بأنه ينقل من ابن اسحق، وهو لم يذكر المصدر إما كرها بصاحبه،أو لأن أهل المدينة لم يوثِّقوا إبن إسحق، ولكن هذا لا يعني ان الواقدي عالة بالكامل على إبن اسحق، فذلك ظلم كبير، يجب أن يربأ عنه الباحث الموضوعي، فأقل ما يمكن أن يُقال عن مغازي الواقدي تلك الدقة في التصنيف والتبويب والترتيب.
المعركة مفصلة في كتاب (طبقات بن سعد) الجزء الثاني من طبعة صادر في بيروت، وابن سعد ( ت 230) ينقل تفصيلا عن استاذه الواقدي حتى أن أبن النديم قال مرة في كتاب الفهرست وهو يترجم له (أبو عبد الله بن محمد بن سعد، من أصحاب الواقدي، روى عنه وألف كتبه من تصنيفات الواقدي) / المصدر ص 111 تحقيق رضا طبع طهران \، على أن من الواجب أن نذكر أن لابن سعد طريقين أخريين في روايته السيرة النبوية أهمهما بعد الواقدي هو (رويم بن يزيد المقريء)، نذكر ذلك للتوضيح، لعلي يوما أقوم بعملية نقد مفصل لهذه الأصول، ومن الواقدي أخذ كثيرا المؤرخ البلاذري المتوفي سنة (279)، في كتابه المشهور (أنساب الأشراف) حيث خصص قطعة مهمة من كتابه لهذه المهمة، ولكنها لا تزيد على سيرة إبن اسحق كثيرا.
في كتاب تاريخ الإسلام قسم الغزوات للذهبي (ت 748) نصادف قطعة من مغازي (موسى بن عقبة بن أبي عياش أبو محمد الأسدي) المتولد تقريبا سنة (55) والمتوفي سنة (141)، والرجل من تلاميذ الزهري عاش في المدينة، هذه القطعة تتعلق بـ (غزوة بدر)، ولكن لم نجد ما يختلف فيه موسى بن عقبة عن سيرة ابن اسحق بشي يذكر.
نخلص من كل هذا أن ما يسمى بـ (غزوة) بدر إنما مصدرها الرئيس هو سيرة إبن اسحق بشكل جوهري ورئيسي، ولذا فيما أراد الدارس أن يحلل هذه (الغزوة / وأنا أسميها معركة لان النبي لم يغزو) عليه أن يرجع بشكل مركزي إلى هذه السيرة بالذات.
لا ينفي ذلك أن هناك محاولات سابقة على ابن اسحق، فقد كان ابن عباس يحدث بالسيرة كما يقولون، وكان البراء بن عازب كما يُنقل يهتم بتدوين المغازي، وكان عروة بن الزبير المتوفي سنة ( 92 أو93) يكتب المغازي وقد صدر كتابه ( مغازي رسول الله) محققا في سنة 1981، وهكذا غيره،ولكن باتفاق الاراء إنها دون سيرة أبن اسحق، سواء على مستوى السعة أو الأداء أو اللغة. كما أن بعضها ضاع، والأخر مختلط بغيره.

سيرة إبن اسحق
هي السيرة العمدة بلا شك، تتالف إذا صح التعبير من ثلاثة أقسام، المبتدأ، والمبعث، والمغازي، ويقال أنه وضعها بطلب من الخليفة المنصور، ولكن رغم كل ما يمكن أن يدور حول الكاتب من تساؤلات وتهويمات فإن جهده هذا يعتبر هو المعين الأول لكل ما كُتِب ودون عن سيرة النبي العزيز، خاصة ويعتبر بحق موسوعة أسماء وحوادث وأيام ووقائع وتواريخ وشواهد قرآنية وحديثية وأنساب وأحساب تفوق المتصور، ولكن هذه السيرة لم تصلنا بنفسها بل وصلت لنا عن طريق إبن هشام (ت 213 أو 218)، فقد وصلت إلينا على يديه، بعد أن أحدث عليها بعض التغييرات من حذف واضافة وتقديم وتأخير وشرح وبيان واختصار كما يشير هو إلى ذلك صراحة، وفي ذلك نقاش طويل بين مؤرخي السيرة وكتابها نقدا أو مدحا، وفي تصوري أن الرجل كان يريد أن يؤسس لزمن إسلامي جديد، يختلف فيه عن ابن إسحق، وليس هنا محل تفصيل ذلك، ولكن يجب أن نعلم أن إبن هشام هذا إنما كان بينه وبين إبن اسحق واسطة، ذلك هو زياد البكائي (ت 183) وهو أحد تلاميذ ابن اسحق، كان قد صحبه بسفراته بعد أن ابتاع بيته وكل ما يملك من أجل أن يدون السيرة، وقد أملى عليه إبن اسحق السيرة مرتين / سير أعلام الذهبي 9 ص 5 /، ويقال أن زياد نفسه هو الآخر لم يحافظ على نص إبن اسحق صاحب السيرة الأولى !!
هذه التنقلات ليست بالأمر السهل، خاصة إذا علمنا أن هناك من يشكك بعدالة هذا التسلسل الثلاثي، أي إبن إسحق ثم تلميذه زياد البكائي ثم الناقل الأخير إبن هشام، أي يشكك بعدالة كل من هؤلاء الرواة. فقد صدرت طعون معتبرة في ابن اسحق وفي البكائي وابن هشام، وإذا عالج بعضهم هذه الطعون من أن روايتهم في السيرة مقبولة ولكنها ليست مقبولة في الأحكام والشرائع، فإن بعض الطعون جاءت على نحو مطلق ــ على أن هناك من دافع عنهم بقوة وصلابة حتى من قبل المحسوبين على علم الحديث ــ
إن كل هذه الاعتبارات تجعلنا أو تعطي لنا الحق في نقد هذا الأصل، بل إن النقد وارد حتى إذا صدرت توثيقات في كل من ابن اسحق وتلميذه وتلميذ تلميذه، فليس كل ثقة يسلم من الإشتباه والخطأ والنسيان وتأثير العاطفة، فنحن بشر، ثم هناك أكثر من ملاحظة عامة على مصادر السيرة النبوية الأولى، وبالأخص في موضوع المغازي، يمكننا أن نجملها في النقاط التالية: ــ

الأولى: إن هذه المصادر دوِّنت في القرن الثاني والثالث للهجرة، مما قد يدفع بهؤلاء إلى مراعاة سليقة ورغبات واتجاهات الخلافة الحاكمة أنذاك، وقد أثيرت الكثير من التساؤلات حول ما يُنسب من فضائل وأدوار بطولية للعباس بن عبد المطلب في هذه المصادر، إذ قد تكون بتأثير وتوجيه مباشر أو غير مباشر من خلفاء بني العباس،وخاصة وهناك أخبار تقول إن ا بن اسحق كتب السيرة بطلب من الخليفة العباسي المنصور المعروف بجبروته وحبه لعشيرته وأهل بيته.

الثانية: أنها اعتمدت أولا وأخرا الرواية الشفهية، أي لم تعتمد على نص مدون مسبق، وهذه مشكلة كبيرة، حيث تضيع كل إحالة يمكن العودة إليها من أجل الضبط والتوكيد والمراجعة، والذاكرة لا تسعف نفسها دائما على طبق الأصل، بل هناك دراسات تقول باستحالة بقاء الصورة الأولى للحدث أو الحديث في خزين الذاكرة، بحيث تتم عملية إسترجاعه كما هو في هويته الأولى.

الثالثة: إن هؤلاء يحاولون أن يؤسسوا زمناً إسلامياَ، ومن الطبيعي أن يتأثروا في هذه الغاية، أي أن الغاية لها أثر في مضمون العمل، لأنهم مسلمون، وكانوا يريدون الحفاظ على سيرة الرسول خاصة (غزواته)، وبالتالي قد يطغي الحرص العزيز على الهدف فيؤثر سلبيا على التدقيق الحصيف بالاخبار والشواهد والمعلومات.

الرابعة: الأختلاف الكبير في الروايات، فهذه مشكلة هي الاخرى تضاف إلى السابقات، وهي ليست بدعا في مجال تدوين المأثور عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، لانها تلاحق ما نُقل ودوَِن عنه في خصوص الاحكام والمواقف الشخصية، ولكنها مشكلة كبيرة على كل حال، تحتاج إلى جهد مضني من أجل تنقيتها، ومن ثم إتخاذ الموقف الأرجح تجاهها.

الخامسة: الانحياز المذهبي أو العشيري أو الأسري، فهؤلاء المدونون ليسوا ملائكة، هم من وسط ثقافي وبيئي وقومي ومذهبي معين، وبالتالي، ليس من السهولة أن يتحرروا من كل هذه الترسبات وهم يدونون السيرة بشكل عام وا لمغازي بشكل خاص، وذلك لأن في المغازي بطولات ومواقف تاريخية تكشف عن معدن الصحابي، ومدى إيمانه بنبوة الرسول، وقناعته بالرسالة، وكم هو مستعد للتضحية، ويواجه الناقد الكثير من المفارقات في هذه النقطة بالذات، وكاتب هذه السطور شخصيا واجه أكثر من صيغة عن موقف كل من الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما استشار النبي الكريم صحابته في التصدي لقريش بعد أن نجت قافلتها فيما هي صممت مواجهة محمد في (بدر)، وكل صيغة تباين الأخرى تماما، وكل صيغة لها مدونها ومروجها.

السادسة: قد لا يوجد شك بعدالة المدونين الأوائل، ولكن هل يبرر هذا الأخذ بعدالة مصادرهم من الرواة ؟ فربما ثقة يأخذ عن كذاب أو مدلس أو غير ضابط، ومن هنا، لا يمكن الإعتماد على ما يرويه الثقة من دون فحص سنده ورجاله ومعتمديه في الرواية.

هذه بعض المشكلات التي تواجه العمل في السيرة النبوية وعلى وجه الخصوص في موضوع (المغازي)، وبذلك لا يحق الاعتراض على نقد المصادر الأولى لهذه السيرة، بل ذلك من صميم العمل الجاد الذي يريد للحقيقة أن تنتصر وتسود، وبناء على كل ذلك سوف نواصل كلامنا عن معركة بدر كما وردت في نص ابن اسحق على لسان ابن هشام بلغة نقدية مفصلة.

يتبع
[email protected]