ما جرى في الجلسة الثانية للمجلس التشريعي لا يبشر بالخير أبداً. هذه المناكفات والاستقطابات الخطيرة بين حماس وفتح، شيء مقلق حقاً، بل وباعث على اليأس والاكتئاب. فحماس تتصرف بنفس المنطق الفتحاوي السابق: منطق الاستفراد والاستئثار والإقصاء.. منطق [أنا الغالبية وأنتم لا شيء]!
إن هذا السلوك العصبوي، لا يبشر بالخير أبداً، ففضلاً عن أنه سلوك يكاد يكون صبيانياً أو مراهقاً، فهو سلوك لا يليق بربان السفينة الجدد، بعد أن غادروا مقاعد المعارضة وتسلموا مقاليد السلطة. لا يليق وبالأخص في هذا الوقت الحرج: حيث تجري حركة حماس مشاورات مع الكتل البرلمانية الصغيرة، لتشكيل حكومة إئتلاف وطني ووحدة وطنية. وبالذات، بعد رفض حركة فتح شبه الأكيد للمشاركة في هذه الحكومة.
لقد تابعت مجريات الجلسة الطويلة حدّ الإرهاق والإنهاك، مثل الملايين غيري، عبر بث الجزيرة مباشر وغيرها من الفضائيات. وقد خيّل لي، طوال الوقت، أن نوّاب حماس، كالحياة عند عمنا ميلان كونديرا: موجودون في مكان آخر غير قاعتيْ المجلس التشريعي في كلّ من غزة ورام الله! خُيّل إليّ أنني أتابع جلسة لهم وهم في اجتماع داخلي للحركة، لا في اجتماع برلماني تنقله مباشرة أكثر من قناة فضائية عربية وغربية، ويتابعه ويتفرّج عليه كل العالم!
إن من الواضح، أن الأخوة في حماس، يتصرّفون حتى هذه اللحظة، بعقلية وروحية المعارضة لا الحزب الحاكم. فثمة الكثير مما يمكن للمرء أن يرصده، في طريقة إدارتهم للحوار وطريقة كلامهم وايماءاتهم ومرافعاهم أثناء الجلسة، وخصوصاً السيد عزيز دويك رئيس البرلمان الجديد. ومع ذلك، سنتجاوز الطابع الثأري العام، الذي صدرت عنه كل هذه الإشارات، وسنركز على شيء واحد، غير متخيّل كما أظن، وهو أن فلسطين كلها الآن في ضائقة. ولا متسع، في هذه الضائقة الخانقة، إن داخياً وإن خارجياً، إلا عند الحمقى، لمزيد من الاستقطابات بين شقي رحى التنظيمين الكبيرين. فكلما ازدادت هذه الاستقطابات حدة، ضاع خيط من النور، أمام الشعب الفلسطيني المصابر في العتمة.
لقد بدا جلياً، أن ثمة قوى كبرى في فتح، لا تريد لحماس الخير والنجاح. قوى معنية بإفشال حماس، كنوع من الانتقام، لفشلها الذريع في الانتخابات، لا أكثر. كما يبدو واضحاً، أن قوى كبرى في حماس، لا تريد سوى الثأر من فتح، على تاريخها الماضي. وبين مطرقة هذه القوى وسندان تلك، نتحوّل جميعنا، ما شاء الله، إلى ركاب السفينة الأغبياء! إذ تغيب مصالح فلسطين [ الصغرى ]، وتحضر بدلاً منها، حسابات التنظيم الكبرى!
شيء مقرف بعض الشيء، غبي بعض الشيء، متهافت بعض الشيء، بدوي بعض الشيء، أليس كذلك؟
بلى هو كذلك وأكثر. والجواب على [ لماذا هو كذلك ] سهل جداً، كما أظن، فالسبب الجوهري يكمن في حضور أداة واحدة أخيرة من أدوات الديموقراطية الغربية لدينا، وغياب كل الأدوات الأخرى.
فالديموقراطية نظام متكامل وثقافة بالأساس. ونحن نمتلك، ظاهرياً، آخر أداة منها وهي [ صندوق الاقتراع ]. لكننا، بحكم تاريخنا وجغرافيتنا، لا نمتلك البنية التحتية لهذه العملية وهي ثقافة وتربية الديموقراطية. فما زال العقل العربي، والفلسطيني جزء منه، عقلاً لا ديموقراطياً بامتياز. عقل، هو في حقيقته، مبناه ومعناه، يمتّ للعصور الوسيطة، لا للألفية الثالثة. عقل، ثأري انفعالي حاراتي شعبوي، إلى آخر القائمة المؤكدة.
أيها الأخوة في كلا التنظيمين الكبيرين: رفقاً بنا نحن [الأقلّويين] من يسار ديموقراطي وليبراليين، فكلاكما يتصرف معنا، بنوّابنا التسعة، وكأنه حزب شيوعي بلشفي، رغم الظاهر اليميني الوطني لفتح، والظاهر اليميني الديني لحماس!
حقاً إن بلادنا العزيزة فلسطين، مقبلة على سنوات كثيرة من الرماد والصدأ..
ربك يستر..!