في نوفمبر 2004، نشرنا سلسلة مقالات بعنوان quot;اليسار الأوروبي والعنفquot;، مركزين بوجه خاص على الأوضاع وتقاليد العنف السياسي في فرنسا. في تلك المقالات لخصنا مضامين كتاب فرنسي ظهر في 1998 بعنوان quot;حرب الشوارع في فرنسا.quot; وقد وجه المؤلف النظر إلى الفلسفة الأخلاقية والسياسية والأمنية التي نشرها اليسار الفرنسي في المجتمع، والتي صارت لها الهيمنة العامة. كانت تلك الفلسفة تبرر أعمال عنف المراهقين والشباب وجنحهم بحجة أن السبب هو وضعهم الاجتماعي، ولا سيما بالنسبة للضواحي المعروفة بتفريخ كل أشكال العنف والجنح والجريمة. وقد أدت تلك الفلسفة للتساهل مع المسيئين من جانب القضاة ومديري المدارس وإدارات النقل العامة وحتى البوليس، كما ساهمت في انتشار الجريمة. وللعلم فإن العرف الفرنسي لا يعتبر الجنحة جريمة بل الجريمة هي القتل فقط، في حين أن الجريمة عند الأمريكان تشمل كل هذه الأشكال.

إن للعمل السياسي الفرنسي، واليساري خاصة، تقاليد مزمنة في استخدام العنف، وخصوصا منذ الثورة الفرنسية وسلسلة الثورات التالية.

إن هذه الظاهرة تواجهنا اليوم ونحن أمام حركة الطلبة ونقابات العمال، وهي حركة احتجاجية صاخبة وواسعة وعلى نطاق كل البلاد. إنها حركة انفجرت عفويا ضد قانون عمل جديد لا علاقة له، لا بالنقابات ولا بطلبة الجامعات وبأغلب طلبة الثانوية، بل هو يخص شبانا غير مؤهلين وبلا شهادات. والملاحظ أن من بين الظواهر البارزة لهذه الحركة استخدام العنف بأشكاله وعلى نطاق واسع.

إن هذه الظاهرة تذكرنا بتقاليد quot;اليعاقبةquot; الثوريين خلال الثورة الكبرى، ولكن هذه المرة ليس من أجل التغيير بل لبقاء كل شئ على حاله، في مجتمع يكاد يكون راكدا اقتصاديا، ويعاني من أزمة تعليم، ومن بطالة واسعة تضرب الشباب خاصة، أي، كما يكتب العديد من الكتاب الفرنسيين، نحن أمام مزيج من quot;اليعقوبيةquot; وروح المحافظة الملكية!

لقد أبلس اليسار العولمة واللبرالية الاقتصادية، [وهذا أيضا موقف اليسار الغربي عموما]، وصوروهما خطرا أكبر ووحشين مفترسين. ومن هنا، ما يقترن دائما بالمظاهرات المعادية للعولمة من تخريب واستعمال كوكتيل مولوتوف. إن قادة المظاهرات يصرحون أن تلك الأعمال غريبة عن حركتهم، ولكن الملاحظ أن quot;الكاسرين quot; المخربين يزدادون مع كل هذه المظاهرات التي لا يصدر قادتها بيانات إدانة صريحة وحازمة، ولا ينظمون حرسا خاصا بمنع تلك الأعمال.
إن المعروف هو أنه عندما ينشب إضراب في فرنسا فإن النقابات، وهي غالبا ميالة لليسار، تستعمل العنف لمنع من يريدون من زملائهم استخدام حقهم في العمل، وأحيانا يغلقون أبواب المصنع أو دائرة البريد. وإذا كان حق الإضراب حقا ديمقراطيا ودستوريا كما التظاهر السلمي، فإن حق العمل هو الآخر مقدس، كما أن فرنسا هي البلد الأوروبي الوحيد التي تحارب نقابات العمال فيه قاعدة الحد الأدنى من الخدمات عند نشوب إضرابات في النقل العام. أما حركات المزارعين فتشهد أحيانا غلق الطرق العامة، ومنع المخازن العامة من فتح أبوابها، وأحيانا الهجوم على محلات الهمبرغر.
لننظر إلى مظاهرات اليوم والإضرابات الطلابية. لقد احتلت الجامعات منذ أسابيع وأقيمت الحواجز لمنع الطلبة الذين يريدون الدراسة من دخولها. واستخدموا الكتب والكراسي في السوربون وغيرها، وفي عدد كبير من مدارس الثانوية. وفي جامعة السوربون اقترف الطلبة الفوضويون المحتلون للجامعة أعمالا لا يمكن تصور وقوعها في بلد ديموقراطي. فقد أتلف المضربون الكتب واستخدموها لضرب البوليس، وأتلفوا بعض مكتبات الجامعة، ومكاتب الأساتذة مع نتائج أبحاثهم، وتمت سرقة عدد من أجهزة الكومبيوتر! بماذا يا ترى علق الناطق باسم الاتحاد العام للطلبة؟ قال إن تلك الأعمال لا تمت لحركتهم، ولكنه quot;يتفهمquot; quot;لماذا وقعت: إن هؤلاء الطلبة المقترفين لتلك الأعمال quot;لم يجدوا غير هذه الطرق للتعبير عن احتجاجهم على القانون.quot; إنه في الحقيقة تبرير صارخ للمسيئين، وتشجيع ضمني لهم. أما تلاميذ عدد كبير من الثانوية في مدن فرنسا فقد وجدوا أفضل أشكال الاحتجاج غلق الطرق الخارجية حتى في أيام من البرد والمطر، وانتقلوا لمنع سير القاطرات لبضع ساعات، وكأنما هذه الأعمال الاستفزازية ترفع رصيد حركة احتجاجية يجب أن تبرهن على انضباط عال وعلى روح الديمقراطية المتحضرة.
لقد بدأت هذه الحركة تلقائيا ولكن اليسار استغلها لأسباب سياسية انتخابية [معركة الرئاسة في العام المقبل]. مستعملا الغوغائية والمزايدات في قضية هي ثانوية على كل حال وإصلاح جزئي لا يهز النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم إلا قليلا جدا. ثم حولوها لمعركة quot;مكسر عظمquot; مع رئيس الوزراء. أما المراهقون فربما وجد كثيرون منهم في العملية مهرجانا وعطلة راحة طويلة رغم أن أربعة أسابيع من دروسهم راحت وهم أمام البكالوريا. على أنه يجب الاستدراك بأنه ليس الطلبة المتطرفون هم وحدهم يقترفون العنف، بل انتهزت الفرصة جموع من محترفي العنف والمصادمات من بين الأقلية الجانحة في الضواحي لتختلط بالمظاهرات وتحاول نهب المخازن وتحرق السيارات، وإلقاء المتفجرات على رجال البوليس.
إن من حق الشباب الفرنسي أن يشعر بالخوف من المستقبل، وأن يحلم بوضع كوضع آبائهم، المحميين غالبا بمختلف الضمانات. إن كل شاب فرنسي صار يحلم بالحصول حال التخرج على عقد عمل دائم من اللحظة الأولى. وتكشف الاستبيانات الأخيرة أن الأكثرية الساحقة من الطلبة يريدون بعد تخرجهم التوظف في القطاعات العامة وهي ذات ضمانات وحماية لا يوجد مثلها في دول الاتحاد الأوروبي، [البريد، دوائر الدولة، التعليم وغيرها]. وملاحظ أنه في فرنسا يتردد رب العمل كثيرا في استخدام عامل فني ماهر حتى مؤقتا. فإذا كان مرتب الفني 1400 يورو شهريا فإن عليه دفع مبلغ مماثل للشروط القانونية للعمل. أما المشتغلون براتب الحد الأدنى المعروف بquot;السميكquot; فإن عددهم في فرنسا كبير جدا، وهذا خلاف الوضع البريطاني حيث المرونة في سوق العمل أما بطالة الشباب فإن واحدا من كل أبعة منهم عاطل، فيما تبلغ النسبة في بريطانيا 1 من 10. والنمو الاقتصادي الفرنسي هو بمعدل 2 إلى 2 ونصف وهو يعادل التضخم، وإذن فلا نمو حقيقيا هنا. أما في بريطانيا فإن نمو الدخل العام هو 4 ونصف وقد ارتفع خلال العشر سنوات الماضية بما يزيد عن 20 بالمائة. وهذا يعني رفع مستوى معيشة البريطاني، كما يمكّن الحكومة من تمويل النفقات العامة في الوقت الذي يكاد العجز المالي للنظام الصحي الفرنسي يؤدي به للإفلاس. فهل من عجب إذا غادر مليون شاب فرنسي بلدهم بحثا عن عمل وخصوصا لبريطانيا؟

إن اليسار الفرنسي، ومعه قطاع واسع من الشباب الحائر، صاروا يشكلون quot;جبهة رفضquot; لكل إصلاح. وكما سبق وبينا، فخلال العشرين سنة الماضية لم تخل سنة من غير حركة احتجاجات ومظاهرات طلابية صاخبة، سواء حول إصلاح نظام البكالوريا، أو تجديد الجامعات، أو عقود العمل وغيرها. ونعرف كيف أفشل اليسار الفرنسي والجمهرة الواسعة من الشباب مشروع الدستور الأوروبي. وفي المعركة الحالية يتهم اليسار الحكومة باعتماد القانون قبل مشاورات مع النقابات الطلابية والعمالية، ناسين أن الاشتراكيين عندما حكموا سنوات طويلة أصدروا قانونا صارما هو أهم عشرات المرات من دون مشاورات، ونعني قانون تحديد العمل ب35 ساعة أسبوعيا. كما ينسون أن السلطة في دولة ديمقراطية برلمانية عريقة هي لصناديق الاقتراع والبرلمان لا لمظاهرات الشارع. ففرنسا ليست بلدا دكتاتوريا لتلعب المظاهرات والإضرابات الشعبية دور التحدي للسلطة والعمل للتغيير. ومع أن الاشتراكيين هم الذين طرحوا القضية على المجلس الدستوري الأعلى للحكم على دستوريته، فإنهم تجاهلوا قراره بكون القانون يتماشى مع الدستور. وبعبارة، تحولت الحركة الطلابية العفوية إلى نوع من المواجهة الحدية بين الشبان المضربين، الذين يقودهم زعماؤهم المرتبطون باليسار، ونقابات العمل، والشارع الذي يحتلونه، وبين الحكومة والبرلمان والمجلس الدستوري الأعلى. ومما يكشف عن الطابع السياسي والتعجيزي للحركة رفضهم أية تسوية ما عدا سحب القانون، مع أن الرئيس الفرنسي طلب إدخال تعديلات أساسية عليه. إن ما يريدونه ليس فقط رأس قانون العمل الذي لا يخصهم، بل ورأس رئيس الوزراء أيضا. وقد اتضح ريبورتاجات كثيرة أن النسبة الغالبة من الطلبة والتلاميذ لا يعرفون حقا قوانين العمل ولا تفاصيل القانون الجديد، وإنما هم، كما يقول العراقيون: quot;على صوت الطبل فلترقص الرجلان!quot; وبصدد الحزب الشيراكي الفرنسي الحاكم، فهو يبدو حائرا ومنقسم الآراء والمواقف، وقد ضعف جدا موقف رئيس الوزراء. إن المفكر الفرنسي جان فرانسوا ريفيل كان قد كتب أن quot;اليمينquot; الفرنسي يهاب اليسار منذ نهاية الحرب الدولية الثانية، ويميل لعدم إغضابه.

إننا لا ندري كيف ستسير الأمور بعد أن وجهت جميع منظمات الطلبة والنقابات quot;إنذاراquot; حديا للحكومة بوجوب سحب القانون قبل عطلة 17 أبريل الجاري.
إن الأحزاب الفرنسية التي حكمت أمس واليوم، من يمين ويسار ووسط، لم ولا تجرؤ على القيام بالإصلاحات الجذرية على النموذج الاجتماعي والاقتصادي الفرنسي المتكلس لمواكبة تحديات العولمة والتنافس الدولي، وحركة اليوم ليست صراع أجيال، بل القضية الحقيقية، وكما كتب الكاتب quot; إيف ترياردquot; يوم 6 أبريل 2006، هي قضية وجوب تغيير جميع العقليات يمينا ويسارا ووسطا، لاستيعاب ضرورة التجديد والتغيير، وإدراك مدى عمق أزمة quot;النموذجquot; الفرنسيquot; الذي يكادون يقدسونه جميعا، ويباهون به جميع الدول الديمقراطية الأخرى!
إن العولمة حقيقة واقعة، وإن لبرالية الاقتصاد المنضبطة والمقترنة بالمساعدات والضمانات الاجتماعية ليست بعبعا بل طريق النمو، وتحسين المعيشة، وتقليص البطالة، والقدرة أمام المنافسات الدولية الضارية