في كتابه المهم و الثاني جدلا بعد الاستشراق، طرح المفكر الراحل ادوارد سعيد سؤالا كبيرا حاول الإجابة عليه بين دفتي ( الثقافة و الامبريالية ) , إلا أن السؤال لم تتسع له صفحات الكتاب التي تتجاوز الـ 300 صفحة، لكي يلم سعيد بكل تفاصيل ونقاط البحث عن الجواب. السؤال يكمن في دور الثقافة في نشأة الامبريالية والاستعمار منذ القرن التاسع عشر، و ماذا كان دور الثقافة كذلك في مقاومة تلك الامبريالية و ذلك الاستعمار وإبان معارك التحرير من المغرب العربي إلى الهند إلى فيتنام إلى إفريقيا السوداء ؟
لاشك أن قراءة نقدية للكتاب ستطول كثيرا، إذا ما وضعنا في الاعتبار تناول الكاتب لتجارب سردية بعين النقد و التحليل، مع مقارنة نقدية لما تعيشه المجتمعات الأوربية من طبقية و استعباد الآخر القادم من الجنوب، وهو ما خرج به من استنتاجات نقدية لروايات أوستن و كونراد و غيرهما.
ليضع نظرية جادله فيه الآخرون، بأن الثقافة قد تكون فعلا نتاج ضمائر الأمم و ذاكرتهم، إلى جانب دورها كصانعة للمخيلة الجماعية و رد الفعل الشعبي. إلا أنها - الثقافة - عمل تؤدي وظائفها بأدواتها الظاهرة كالأدب و الفن و التعليم، و بأدواتها الخفية الباطنة مثل: الفلسفة والتاريخ والدعاية و الإعلام و التراث الشعبي. بمعنى أن الثقافة تعتبر خزينا فعاّلا لأي صدام بين الحضارات، بما اختزنته الذاكرة القومية لهذه الحضارات، إذا ما تسيدت الأدوات الباطنية في الخطاب الثقافي، و انفردت مفرداتها الجدلية في عراك تاريخي و شعبي مزمن منذ فجر الإنسانية وسط ما يعزز مثل هذا الصراع من وسائل البروبوجاندا المثيرة لكل خيوط الصراع.
ليسترجع سعيد في تحليله موقف الثقافة أمام الامبريالية، ما طرح في نظرية الصراع بين الأمم الغالبة و الأمم المغلوبة للعلامة عبدالرحمن بن خلدون. فالأمم الغالبة التي أباحت لنفسها حق احتلال أمم مغلوبة وقهرها وإذلالها، استعملت الثقافة الامبريالية إما لتبرير طغيانها أو لتمرير مخططاتها. أما الأمم المغلوبة فلم يأت تحريرها إلا بأداة الثقافة التي زرعت الوعي وأيقظت الحس الوطني والديني لرفض الاستعمار والمطالبة بالاستقلال.
وأمام المشهد الثقافي العربي الآني، نجد أن الثقافة لم تعد وسيلة للاستعمار أو للمقاوم، بل تعدتها إلى أن تكون أداة طوعا بيد المتسلقين على أكتاب المثقفين. فالثقافة أصبحت عنوان الصراع بين المثقفين أنفسهم، يؤججه ذلك الإرث الشخصي بينهم، يسبقهم شبق تحطيم بعضهم بعضا، بما امتلكوه من أدوات الثقافة الظاهرة و الباطنة، يدورون بين حجري رحى الحسد الثقافي و التطاحن الفكري، مستسلمين لعدوانية تسيدت الساحة الثقافية، تزيد من بهاتة لون الإبداع، و تبقي المشهد الثقافي رماديا غير معروف المعالم و الملامح. و هو ما يمكن ملاحظته في زحام غير مؤتلف من المصطلحات و المفاهيم الثقافية، بما عمّق من انقسامات اللغة ما بين البساطة إلى حد الهشاشة و الركاكة، أو المتعالية إلى حد التقعير والتعقيد. ليتكون خطابان في الثقافة العربية، أحدهما اندمج في لغة رجل الشارع العام، بما اكتسبته من مفردات عامية و أجنبية أساءت إلى اللغة كوسيلة مثلى للارتقاء بوسائل الاتصال الشفوية و المكتوبة. في وجد أصحاب الخطاب الثاني في بعض المصطلحات الفلسفية و المفاهيم غير المنتشرة بين عموم المتحاورين فرصة للبروز وحجز مواقع الوجاهة بين الآخرين، لاقتناصهم عدم اكتمال مفردات و أدوات لغة الخطاب لدى الآخرين أو عدم وجود منافسين لهم في ميدانهم. وما متى ما استشعروا بوجود وعي يراقب خطابهم الغامض، يسرعون إلى جانبهم المظلم الآخر، و ما يحسنون فيه من حيل الألفاظ البراقة و وضع شراك التآمر و بث سموم الاتهام و الريبة و النميمة حول الواعين والكاشفين لهم.
من هنا أصبحت الثقافة مطية سهلة يركبها هؤلاء الانتهازيون، لتتنوع أقنعتهم و خفاياهم تحت عنوان الثقافة و الدفع نحو بناء جيل واع مستنير، تكون زمام السيطرة و التوجيه و التلقين حصرا بأيديهم دون غيرهم. لهذا، فإن من أشد المقوضين لبنيان الثقافة، هم أولئك الانتهازيون باسم الثقافة، و ادعائهم بانتمائهم للنخب المثقفة في مجتمعاتهم، بعيدا عن أي اهتمام بالدفاع عن الحقوق المدنية أو الفكرية أو الحريات، ملتفين على الحقيقة، يسيئون إلى الثقافة أكثر مما يضيفون إليها، بل إنهم يشكلون وجها من وجوه أزمتها كما يعلق الدكتور علي حرب.
وعندما نقيس حالة المثقف العربي بحالة المثقف الغربي، نجد الثاني من أهم منتجي التنوير و الوعي، والمدافعين عنه فكرا و موقفا، في حين يكتفي المثقف العربي بترويج الثقافة، ولكن لن تجد تلك العلاقة الوثيقة بين ما يروج له، وما ينتج عنه !
لتصبح الثقافة في صورها المعاصرة و الواقعية، محتكرة بيد المتنفذين من الساسة و أصحاب المصالح، وقد نُفي عنها أبناؤها و المنتمون إليها فكرا و إبداعا، لتخلو الساحة خاوية للانتهازيين و الجوقة من أصحاب الأبواق المغناة نشازا عن وعي و حقيقة الثقافة. ومهما وصل الإنسان إلى أعلى درجات من التثقف و التمنطق و التفلسف، فلن يعي مفاهيمها المعرفية، إذا لم يعي أولا المفاهيم النفسية و الأخلاقية لديه التي تفترض مراقبة داخلية لعلاقته مع الآخرين، دون أن يكتفي برواج بضاعته المتثقفة و ألاعيبه اللفظية، ولا يظن أن الآخرون مغفلون أو غافلون، وأنه النبيه الوحيد.
لأستذكر هنا مقولة للدكتور علي شريعتي في كتابه ( النباهة و الاستحمار ) :
quot; حين يرى المثقف نفسه مشبعا بالعلم، وينال دراسات عالية، ويكتسب معلومات واسعة و رفيعة، ويرى أساتذة كبارا و كتبا مهمة، ويجد الآراء و النظريات البديعة و يتعلمها، يجد في نفسه رضا و غرورا، ويظن أنه بلغ من الناحية الفكرية إلى أقصى ما يمكن أن يبلغه الإنسان الواعي. وهذا انخداع أبتلي به العالم أكثر من غيره. إذ لا يظن الأستاذ أو الفيزيائي أو الفيلسوف أو الصوفي الكبير أو الأديب أو المؤرخ أنه يمكن أن يكون لا شيء من الناحية الفكرية، وأنه في مستوى أقل العوام شعورا. وحتى الأمي الذي لم يأنس الخط أرقى منه منزلة في الدراية الشخصية، وفي معرفة المجتمع و معرفة الزمان quot;.

إعلامي وكاتب كويتي
[email protected]