من قديم وهذا الأمر يحيّرني كثيراً، والأمر خبرته عن طريق القراءة وعن طريق التجربة معاً، وهو: لماذا يخلو رجال الدين عموماً، وبالأخص اليهود والعرب، من نفحة الميتافيزيقا؟ أليس المفروض بهم، وهم سدنة الدين، أن يتمتعوا بحس ميتافيزيقي عميق وأصيل؟ أم هنالك فرق بين quot;الدينquot;، مُطلق الدين، وquot;الميتافيزيقاquot;؟
من قديم، منذ ثلاثين عاماً، وأنا مهموم بهذا الأمر. أشاهد هذه الفئة من الناس، وأتابع قولها وسلوكها عن قرب، فلا أجد فيها، إلا نادراً جداً، نفحات الميتافيزيقا.
إنهم بشر عاديون، لهم من quot;الروحquot; ما للبشر العاديين، وأحياناً أقل. فلمَ هذا وما هي الأسباب من ورائه؟ لا أملك جواباً بالطبع، ولا أدّعي هنا علماً. إن هي إلا بضع اجتهادات، ربما يكون نصيبها من الخطأ أكبر من نصيبها من الصواب. ومع ذلك لا بأس من إيرادها ها هنا، فعسى نقترب من هذه المنطقة الغامضة، ولو بشيء قليل ومتواضع من الضوء.

رجل الدين بلا ميتافيزيقا؟ أجل! لأن الميتافيزيقا منطقة الحيرة والأسئلة بامتياز. منطقة لا يوجد عنها خطاب يقيني البتة. منطقة منذورة للعذاب البشري: منطقة تلمّس واستبطان واجتهاد. منطقة ضباب وغمام بالأساس: أي منطقة هي الأبعد عن اليقينيات. وكل ذلك، كل هذه الصفات هي أبعد ما تكون عن quot;الدينquot; كما نعرفه في الرسالات الثلاث، فالدين فيها، مع اختلافات بسيطة غير جوهرية، هو منطقة الأجوبة: منطقة اليقين المطلق وامتلاك الحقيقة الكاملة غير المنقوصة. وكل يقين يتحوّل مع الوقت إلى طقس أو طقوس. وهكذا، صارت هذه الأديان، طقوساً، أي أشكالاً فارغة من محتواها.

إن ثمة فارقاً عظيماً وأساسياً ما بين الدين والميتافيزيقا. الدين منطقة أجوبة محكمة، والأخيرة منطقة أسئلة مطلقة: كل سؤال فيها يستتبع سؤالاً، وهكذا دواليك. أما الدين فلا مجال فيه للأسئلة، وهو أيضاً يعمل بنفس الآلية: بمعنى كل جواب فيه يستتبع جواباً، لتجد نفسك في الأخير، أسير دائرة طباشيرية مغلقة من الأجوبة.
ربما لهذا السبب بالأخص، يخلو رجالات ديننا والدين اليهودي، من نفحات الميتافيزيقا، ومن توقها وقلقها الكبيريْن. أما لماذا هؤلاء وليس أيضاً رجال الدين المسيحي، فلسبب جد بسيط، وهو أنني لم أخالط، بحكم ظروفي وبيئتي، رجال دين مسيحيين. لذا لا أريد أن أُعمم، وإن كنت أعتقد، أنهم هم أيضاً من ذات الطينة، وإنْ بشكل أكثر تهذيباً وخفاءً.

إنهم رجال الطقوس لا الميتافيزيقا. رجال لديهم على كل سؤال جواب. وهذا ينسف القلق الميتافيزيقي من جذره. فالميتافيزيقا، وذلك مجدها وبؤسها معاً، هي أرض اللاأجوبة إن جاز التعبير.
لذا لن تجد الميتافيزيقا عن رجال الدين، ولو بحثت طويلاً. وكيف تجدها عند دنيويين بأوسع معاني الكلمة؟ عند رجال مصالح ومناصب وحسابات وإكليروس ؟ فالميتافيزيقا منطقة مبرّأة من كل هذه الشوائب: منطقة الروح المحض، وهي تستشرف في عمائها الإنساني، بعضَ المعنى وأقلّ منه من النور، لهذه الرحلة ما بين عدميْن، والتي يسميها الأغلبون منا بـquot;الحياةquot;.
الميتافيزيقا شأن روحي خالص: زجاج شفاف. ولذا ستعثر عليها عند المفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء والمتأملين بلا كتابة وسواهم، سواء أكانوا ملحدين أم مؤمنين أم لا أدريين. لأن هؤلاء هم كائنات روحية عميقة، حتى، بل وبالأخص، لأنهم يعلنون عن أنفسهم، كرجال دنيا، وأرضيين من الطراز الأول.
قبل مدة قصيرة، ناداني أحد المتدينين في مؤسسة، لأشاهد معه شريط فيديو، فماذا كان الموضوع؟ دعاني الرجل، على ريق الصباح، لأشاهد رأس رهينة غربي، وقع في قبضة إسلامويين عراقيين أو عرب، وهو يُجزّ ويُفصل عن رقبته!
يا للهول!
طبعاً صرختُ في الرجل المتدين، المحسوب على فصيل سياسي، وقلت له إنني لا أستطيع مشاهدة فظاعات وحشية كهذه التي تدعوني إليها. بل إن جسدي يرفض ويستنكر قبل عقلي. فلو شاهدتُ عملية الفصل، لتقيأتُ على الفور، فأي صنيع هذا الذي تفعله بي، وأنا زميل عمل، على فاتحة الصباح!
غادرته سريعاً كمن يهرب من وباء، وأنا أفكر مرة أخرى وأخرى، في موضوعة رجال الدين، والمتدينين والميتافيزيقا!
ألهؤلاء الناس نصيب منها ! هيهات ! إن هي إلا منطقتنا نحن المتأملون لا غير. نحن الذين لا نعلن سوى عن حقيقة واحدة هي حقيقة أننا لا نعرف.
لقد تعاملت سنوات طويلة، بحكم عملي في إسرائيل، في مجال الحلويات والمطاعم، مع رجال دين يهود، فرأيتُ منهم، هم كذلك، العجب العجاب: إنهم رجال يمشون على أقدام مصنوعة من الخرافات. وليس هنا مجال سرد حكاياتهم وسلوكاتهم، الغريبة العجيبة، وإنما فقط، لأشير فقط، إلى أنهم، وربما بشكل أكبر، متعلقون بالخرافات والأساطير، أكثر من رجال الدين الإسلامي. أي أنهم أبعد الناس طراً عن شؤون وعذابات الروح البشري. فهم تقريباً، وبما أنهم رجال توابيت وقوالب، فارغون تماماً أو يكادون من الروح.
رجال دين وبلا روح؟ أجل: رجال دين وبلا روح! فالروح ليس من شأنهم، ولا من همومهم، ولا من عملهم. هذه هي الحقيقة، على الأقل، كما لمستها بنفسي، ومن خلال تجارب عيانية متواضعة.
إنني أجد في أصغر شاعر حقيقي، على سبيل المثال لا الحصر، مقداراً من quot;الروحquot; لا أجده عند كبار رجال الدين، اليهودي والإسلامي [ألأنّ الجذر واحد ؟]. بل إني أجد عند بعض كُتابنا الملحدين، والذين يجاهرون بإلحادهم، مقداراً من الروح الحقة، بكل عذاباتها وتجلياتها، يفوق ألوف المرات ما لدى كبار رجال الدين أولئك.
كيف؟ لا تستغرب. فالروح، أو الميتافيزيقا، هي بنت الأسئلة لا الأجوبة، كما قلنا. بنت الحيرة لا اليقين، بنت العجز البشري لا ادّعاء الكمال.
الذي يستمتع بمشاهدة رأس بشري تُفصل عن الجسد، هو وحش في صورة إنسان. وحش لا أقل ولا أقل. وما يقال عن هذا، يقال عن ذاك اليهودي، الذي لا يرى في العرب، سوى quot;صراصير في زجاجةquot;. فكلاهما عنصري، وكلاهما متوحش، وكلاهما فاقدٌ لإنسانيته وآدميته. قال لي صديق شاعر شاب: quot;أريد مزيداً من الروحquot;، ولذا سأذهب إلى كتب ورجال الدين. فما كان مني إلا أن قلتُ له: لقد أخطأت طريقك يا صديقي. فهذه وهؤلاء هم آخر من على الأرض، قدرةً وصلاحيةً على إيصالك إلى هدفك. إذهب إلى كتابات الفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء، ومن هم على غرارهم. فعند هؤلاء تجد الروح، حتى لو قالوا لك بأنهم دنيويون ولا علاقة لهم بالدين. إذهب إلى باسكال، ولا تذهب إلى ابن عربي، الذي صار موضة المثقفين العرب في القرن العشرين، فابن عربي هذا، يشتغل على اللغة لا على الروح العميق. ومن يقلده يشتغل على موضة ولا يشتغل على حاجة حقيقية وأصيلة. بل إن التصوف الذي شاع كثيراً في مدونتنا الشعرية والنثرية، ما هو إلا استمناء، وفي كل استمناء من الزيف ما فيه.
إذهب إلى هيدغر، إلى سبينوزا، إلى عشرات سواهم، ولا تذهب إلى شيخ أزهر، ولا أمير جماعة، فهؤلاء علاقتهم بالروح كعلاقتي أنا باللغة السنسكريتية. لكنّ صديقي لم يستمع لي، وذهب في طريقه، وإني لواثق، أنّ الشاعر الحقيقي فيه، سوف يخرجه سريعاً من تلك المنطقة التي أدخل نفسه فيها. فهي منطقة فراغ وهباء وغثاء، وما من شاعر حقيقي، ولو كان صغير السن، يرضى لنفسه بالمكوث طويلاً في رحابها الأضيق من خرم الإبرة. باسكال في تأملاته مثلاً، وصل إلى مناطق، لم يصلها أحد من رجالات الدين. كذلك دستويفيسكي أبو الرواية وفنانها الأعظم. هذا المسيحي الهرطوقي العظيم ذو التجربة الروحية الأخصب، من بين الروائيين والفنانين جميعاً. كذلك ثمة شعراء وفلاسفة ميتافيزيقيون لا يحصرهم عدد، ويضيعون الآن من ذاكرتي، مثل خليل حاوي وتوفيق صايغ وغيرهما عندنا، فحروا في أرض الميتافيزيقا، ووصلوا إلى معان ومناطق، لم يصلها رجل دين عربي في التاريخ.
ذلك أن الروح هي منطقة الفنانين لا رجالات الدين، وذلك أنّ الروح شأن أدبي وفلسفي، أكثر منها شأن ديني.
وإذا لم تصدّقوا كلامي، فاقرأوا باسكال، العالِم والمتأمل العظيم، أو إقرأوا خوسيه سراماغو، ثم راجعوني.