(أستاذى..
لعلك لا تذكرنى حين كنت طالبا فى السنة الثالثة فى قسم الدعوة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وكنت تدرس لنا مادة quot; مجتمعات إسلامية quot;. وقتها إنبهرت بك، وكنت أتتبع محاضراتك فى الكليات الأخرى فى جامعة الأزهر، ولا أنسى حديثك فى نفى الشفاعة. ذلك الموضوع الذى هز حياتى مائة فى المائة.
بعد تركك جامعة الأزهر وبعد خروجك من السجن حاولت أن أزورك فى بيتك، ولكن قيل لى أن البوليس يعتقل كل من يزورك،ولكن وجدتك صدفة تجلس فى أتوبيس، ولعلك تتذكرنى الآن فلقد هجمت عليك أحتضنك وأبكى، وكانت مفاجأة لك. واستغرب الركاب فى الأتوبيس. وحتى الأن أعتبر هذه اللحظة أنقى لحظة فى حياتى.ولقد دعوتنى إلى بيتك وأهديتنى نسخا من كتبك.
لعلك تتذكرنى الان.
استاذى..
أتتذكر حين قلت لك أن تترفق بنفسك وتكتفى بما حدث لك، وتكتب فى الايجابيات وتبتعد عن المسائل الخلافية التى تجلب لك المشاكل والمعاناة؟ لا أنسى يا أستاذى إجابتك لى، لا أنساها لأننى طبقتها بالعكس عند أول إختبار..ولا أزال. لقد قلت لى إن الذى يعرف الحق القرآنى ويكتمه هو ملعون، ويظل ملعونا إن لم يسارع باعلان الحق، عندها فقط يتوب الله عليه.
ولم أرك من وقتها حتى الأن مكتفيا بقراءة كل ما تنشره لك الصحف والمجلات، ثم رأيت مقالاتك على الإنترنت فأخذت أتابعها ولكن بعد أن تحولت أنا إلى شخص أخر.
لقد تم تعيينى واعظا بالسجون وكنت وقتها متحمسا للدعوة لأفكارك، خصوصا نفى الشفاعة للبشر، واعتبار عقيدة الشفاعة مسئولة عن إنحرافات المسلمين ومشجعا لهم على إرتكاب الجرائم طالما سيشفع فيهم النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
بدأت الوعظ فى السجن لإصلاح المساجين بنفى الشفاعة والتركيز على التوبة الحقيقية المخلصة مستشهدا بما كتبته فى كتابك quot; الأنبياء فى القرآن الكريم quot; وكتاب quot; المسلم العاصى quot; واقتنع بعض المساجين ولكن ثارت الأغلبية منهم ووجدت إدارة السجن تستدعينى للتأنيب، ثم استدعانى مكتب التفتيش فى الأوقاف وكنت أجادلهم مستشهدا بالأيات القرآنية.توقفت عن الحوار بعد أن وجدت نفسى معتقلا لمدة أسبوع فى أمن الدولة. كان أسبوع الجحيم، لم أتعرض للتعذيب ولكنى شهدت بنفسى تعذيب الضحايا ودماءهم، وخرجت بعد أسبوع وقد تحولت لإنسان أخر أعصى الله وأطيع أمن الدولة.
تنفيذا لأوامرهم أطلقت لحيتى وارتديت الزى الأزهرى وأقول فى المسجد ما يحبون أن أقوله فأصبحت عندهم من أهل الثقة، فانتقلت واعظا فى أحد المساجد الكبرى الذى كان يسبب المشاكل للأمن فى أحدى المحافظات فنجحت فيه بمقياس الأمن.
أنا الأن أحد الخطباء المشهورين فى الأوقاف. أتعرف لماذا؟
لأننى أحشو خطبى وأملؤها بالأحاديث النبوية والقدسية والأشعار الصوفية والحكم والأمثال. ولكن ليس هذا فقط فكل الخطباء الحاذقين يفعلون ذلك، ولكننى أنقل من مؤلفاتك فقط النواحى الايجابية التى لا تجلب المشاكل، مثل مقالاتك عن القصص القرآنى ومقالاتك التاريخية التى تبرز فيها خفايا التاريخ ونوادره وما فيه من عظات وعبر. كل ذلك منشور على موقعك ولكن أهل المنطقة لا يعرفون عنه شيئا ولا شأن لهم بالانترنت، لذا أسخر منهم بينى وبين نفسى حين أراهم ينبهرون بعلمى و سعة معلوماتى.
ليس ذلك فقط، فقد اكتشفت أنه كلما تحدثت عن العذاب فى الأخرة وصرخت فى الناس وأنا أخطب إزداد خوفهم منى وإحترامهم لى، وكلما تطرفت فى فتاوى التشدد والتزمت والمنع كلما ارتفعت منزلتى عندهم وازدادت طاعتهم لى.
ثم إذا أردت أن أسيطر عليهم أكثر وأكثر مع الحب الأكبر ـ أتكلم فى شفاعة النبى التى اعلم أنها كاذبة، ولكن لا تتصور الصياح والاعجاب والدموع، وعدد من يتنافسون على تقبيل يدى لأننى سأشفع لهم أيضا يوم القيامة.
وبمرور الوقت أصبحت واسع الصيت فى المنطقة، وأصبح كبار ضباط أمن الدولة كالتابعين لى يتحدثون معى بإحترام شديد.وأصبح المسجد يزدحم فى صلاة الجمعة وبعد درس الجمعة ومساء كل إثنين فى الدرس الأسبوعى. ومكتبى فى المسجد يزدحم يوميا بعشرات الطالبين للفتاوى، والذين يطلبون منى حل مشاكلهم الأسرية والأجتماعية والزوجية...
استاذى
أكتب إليك لأقارن نفسى وما يحدث لى من تكريم بما يحدث لك من سب وشتم.
يقفون أمامى وهم يطلبون الفتوى فى حالة خوف واحترام كأننى أحد القضاة الذين يحكمون بالأعدام أو العفو....وغالبا ما أكون جالسا أو مضطجعا على جنبى. وأتكلم معهم بلا إحترام وأحيانا أشخط فيهم وأطردهم فيزدادون إحتراما لى. ولو حدث وتبسمت ولو ساخرا فكأن الدنيا تبتسم لهم. الغريب أن الفتاوى التى اقولها لهم لا وزن لها، وآخذ معظمها من كتب الفتاوى المشهورة والتى يسهل العثور عليها ولكن يكون لها طعم آخر حين أقولها... ولا أعتقد أن الفتاوى التى أقولها صحيحة، خصوصا بعد أن إطلعت على الفتاوى التى تنشرها فى موقعك... وأقول لك بصراحة أننى فكرت أن أقول نفس فتاويك فى نفس الموضوع ولكن خفت أن تنزل مكانتى عندهم.
وهذا يجعلنى أعقد مقارنة بيننا.. أنت أستاذى وقد كنت من المتابعين لأقوالك ثم اخترت الرجوع عنها وكبت ضميرى الذى استيقظ الأن وأنا أكتب إليك...
الذى يحزننى يا أستاذى أنك تتعرض لكل هذه الشتائم لأنك تقول الحق بشجاعة بينما أولئك الذين يشتمونك يتضرع أمثالهم لى طلبا للفتوى وأعطيهم فتاوى أعرف أنها خاطئة ولكن لو قلت لهم الحقيقة لاصبحوا أشد أعدائى، وربما انتهى أمرى باعتقالى متهما مثلك بانكار السنة وازدراء الدين، ولربما عانيت من التعذيب الذى رأيته ولم يسقط من ذاكرتى حتى الأن.
أستاذى...
أعرف أن اعترافى هذا سيحطم الصورة التى كنت عليها حين قابلتك فى أتوبيس (رمسيس- المسلة 290) من حوالى 20 عاما. والله لو رأيتك اليوم لكررت نفس الشيء... ليس حزنا على ما أصابك ولكن حزنا على ما انتهى عليه حالى.
حالى الأن بمقياس الدنيا عظيم..
أعيش فى شقة فاخرة واشتريت قطعة أرض أبنى عليها عمارة للمستقبل، واشتريت قطعة أرض زراعية مستصلحة بتراب الفلوس بسبب معارفى ونفوذى، فقد أصبحت شريكا فى جمعية أنشأها أصحاب النفوذ بهدف استخدام نفوذهم فى الاستيلاء على أراض مملوكة بالأوقاف بأرخص سعر، ثم يعاد تقسيمها وبيعها بأضعاف أضعاف الأسعار، ووجودى معهم ومعنا بعض الشيوخ يسهل مهمة الشركة، ويطمئن االباشوات أصحابها أنهم على احق مهما فعلوا.. أنا أعرف أننا ضروريون للشركة بسبب أسمائنا والزى الأزهرى الذى نرتديه و بوضعنا الدينى، وأننا نأخذ الفتات بينما يرتع كبار الباشوات من أصحاب الرتب فى الملايين، ولكن مع هذا لا يمكن أن نعترض وإلا أدخلونا السجن بأى تهمة أو بدون تهمة.
استاذى
لا تنصحنى بالتراجع.
كيف أتراجع وحاليا نفوذى هائل فى المنطقة وفى الأوقاف وأمن الدولة والبوليس ولدى أعضاء مجلس الشعب والمجلس المحلى، وأولادى وبناتى فى أرقى تعليم.. وهناك من يشجعنى على الترشيح لمجلس الشعب.. وقد أفعلها لأحمى نفسى مثلما يفعل الآخرون. ولا تتصور الدخل الذى يأتينى كل يوم. إننى لا أحس بمرتبى إذا زاد أو جاءته علاوة لأنه لم يعد مهما، فالتبرعات لا تنقطع ولا رقيب عليها. هل هناك عيشة أنعم من ذلك خصوصا مع الغلاء الذى يتحدثون عنه؟..
ثم كيف أتراجع وانا أعرف أنهم عندها سيضعوننى فى السجن، وأتعرض للتعذيب الذى رأيته ولم يسقط ـ ولن يسقط ـ من ذاكرتى..
أستاذى..
امتلكت كل ما اريد ولكن فقدت أثمن ما كنت أملك، فقدت فى داخلى ذلك الشاب الذى قابلك فى أتوبيس (رمسيس-المسلة 290). فقدت نفسى....
أرجوك يا أستاذى لا تغضب منى.
كم أرجو أن أستثمر لحظة الصدق هذه التى اكتب لك فيها واعترف بحقيقتى لاستعيد الأنسان النقى فى داخلى. ولكن رعبى من التعذيب والاهانة بعد الذى عرفته من النعيم و التعظيم يمنعنى من التصحيح و التوبة.
أنا بلاشك مخطىء ولا أدافع عن نفسى، وأتحمل المسئولية كاملة، واستحق لعنة الله لأننى أكتم الحق. أنا واثق أن الظلم الأكبر واللعنة الكبرى من نصيب الذين يتحكمون فينا ويرعبوننا بالتعذيب، أقصد النظام البوليسى الحاكم. هذا النظام هو الذى يركبنا نحن الدعاة ويرغمنا على تمجيده و صرف أنظار الناس عن الحق. هم يركبوننا ونحن نركب الناس نقول لهم الباطل و نسكت عن قول الحق.
أستاذى..
على فكرة... تعبير الراكب و المركوب ده مش من عندى.. إنه من ابتكارات مدير الأوقاف عندنا فى المحافظة، وهو رجل ظريف وابن نكتة وله على ذمته زوجتان متشاكستان متنازعتان، يسمى واحدة محمود المليجى ويسمى الثانية توفيق الدقن، وهب منهما بأن تزوج سرا بزوجة أخرى منقبة لكنها فى السرير أفضل من نجوى فؤاد على حد قوله،وهى لا تشبع من امتصاص حيويته، ويستعين عليها بالفياجرا ويضحك قائلا إنها أفضل من حبة البركة السوداء التى جربها فاصابته بالاسهال فى وقت الانزال.. وكانت كارثة....
وبالمناسبة يتكلم عنك كثيرا ويقول انه كان زميلك فى الثانوى، ويحكى عن مشاكستك مع المدرسين و سخريتك من ابى هريرة و تأليفك أحاديث ضاحكة على منوال الأحاديث الى كانت مقررة عليكم فى مادة علم الحديث، ومنها الحديث القائل (سئل شيخ الأزهر عن أحب البنات اليه فقال: بنات القاهرة، قيل ثم من؟ قال: بنات الاسكندرية، قيل ثم من؟ قال: بنات طنطا، قيل ثم من؟ وكان متكئا فجلس وارتعش وقال: ألا و بنات المنصورة..ألا وبنات المنصورة..ألا وبنات المنصورة. ومازال يكررها ويرعد ويرتعش حتى أنزل.. وفى رواية حتى أمنى.).
فى أحد جلسات الود بينى و بين هذا الشيخ تكلمنا عنك وأقسم لى إنك على الحق وأن الكل يعرف هذا ولكن حب المناصب والخوف من المصير الذى انتهيت انت اليه يجعلهم يتراجعون. وقد قال لى مرة: هل تعرف إن مصلحتنا مع الاخوان المسلمين أكثر من مصلحتنا مع النظام، فقلت له: كيف؟ فقال لأن النظام يركبنا، ونحن نركب الشعب. أما عندما يأتى الاخوان للحكم سنكون معهم نركب الشعب ـ يعنى الشعب مركوب ابن مركوب، والراكب أحسن من المركوب. من يومها ولدينا كلمة السر هذه: الراكب و المركوب.
استاذى..
أنا واثق أنك تتفق معى يا استاذى أن المجرم الحقيقى هم أولئك الظالمون الذين يركبون البلد ومن فيها. وكل من حاول الثورة ليستعيد كرامته قهروه بالتعذيب حتى يصير عبرة لنا. وهكذا نكون بين إختيارين إما السجن والتعذيب والتشريد والأهانة والفصل من العمل وإما أن نساير ونوافق وننافق، وهم يركبوننا فى الحالتين طوعا او كرها .
ستقول لى ان أترك البلد وأهاجر.. فسأقول لك: ايدى على كتفك.. فالى اين أهاجر؟ الى البلاد العربية وهى فى نفس الحال؟ أم الى البلاد الغربية التى تقفل ابوابها أمامنا بالضبة و المفتاح.. ليس لنا مخرج يا استاذى..وقد اخترت البقاء فى مصر وأن أظل مركوبا من السلطة ولكن راكبا لالآف الناس.
أستاذى
أنا لا أنام..
لقد قرأت لك مقالا عن حتمية العذاب فى الدنيا قبل الآخرة للعصاة. وهذا حقيقى فى حياتنا الواقعية وحتى فى افلام السيما .هذا العقاب الذى ينتظرنى يرعبنى. أتصور نفسى فجأة وقد تحطمت بنا سيارتى وعشنا على كراسى متحركة طيلة العمر، أتخيل نفسى وقد أصابنى الشلل أوالسرطان أو جرثومة الكبد الوبائى فأجد نفسى وحيدا كسيرا أشهد بعينى ضياع أولادى وأنا عاجز عن مساعدتهم بل أحتاج مساعدتهم.
أتصور مجموعة الكبار الذين أعمل معهم وقد انتصر عليهم خصومهم من المفسدين المتنافسين معهم.. وأجد نفسى معهم فى السجن.!!. بل إن هذا النظام بكل قوته وسلطته يتاهب للرحيل تاركا الغلابة أمثالنا امام مستقبل مجهول، وبينما استعد الكبار جدا لهذا اليوم بغسيل أموالهم وتهريبها للخارج فاننا لا نتمتع بهذه المزية..أى قد يكون مصيرنا السجن إن لم يأت التوريث..بل ربما ندخل السجن إذا أراد الوريث تجميل صورته بالتضحية وسجن أمثالنا وجعلنا فريسة لأجهزة الاعلام تاكل لحمنا بالحق و الباطل..
وهكذا أعيش بين قلق على المستقبل وخوف من الحاضر وتعذيب الضمير عندما يستيقظ الضمير، وهو الان فى حالة انعقاد مستمر يحاكمنى على خيانة الأمانة..
أستاذى..
قلبى ملىء بالهلع،، وضميرى مثقل بالوجع..
ولا أنام..
ولهذا أكتب لك وأرجوك ألاّ ترد علىّ..!!
أكتب اليك فقط لأخفف من الألم الذى أحمله)
اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات