لا أدعي كوني خبيرا بالولايات المتحدة، وانتخاباتها، ولكنني قارئ متابع أولا بأول بكل ما يجي على الساحة السياسية الأمريكية، ولاسيما حملة الانتخابات الحالية، ورغم أنني لم أزر البلد فأجرؤ على القول بأنني على اطلاع لا بأس به بطبيعة المجتمع الأمريكي، سواء عن قراءات متواصلة، أو عن شهادات منشورة، أو منقولة، عن أصدقاء زاروا الولايات المتحدة، أو سكنوا فيها، واختلطوا بالمواطن الأمريكي.
إن استطلاعات الرأي المتواصلة تشير إلى تقدم كبير لأوباما، وهو تقدم لم يكن ملحوظا قبل انفجار أزمة النظام المالي العاصفة، حيث أصبح الخوف من العواقب، والأمل في تخفيفه، على رأس هموم المواطنين. في الشهور الأولى لم تشر الاستطلاعات لغير تقدم أوباما بنسبة 2 أو ثلاث نقاط، ولكن الفارق اتسع فجأة مع الأزمة، علما بأن أوباما يتمتع حقا بمواصفات، ومؤهلات فريدة، ناهيكم عن quot;الكاريزماquot; الشخصية.
هل الاستطلاعات ستدل حقا على ما سيجري خلال التصويت القريب جدا؟ ربما نعم، وربما لا، إذ يجب عدم التسرع، وعدم إصدار حكم بات كما دلت مثلا تجربة منافسة وبوش، وكيري، وكانت الاستطلاعات قد اعتبرت الأخير فائزا، ولكنه خسر، كذلك ريغان فيما قالت الاستطلاعات إنه سيخسر. وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة أيضا أكدت الاستطلاعات أن المرشحة الاشتراكية، سيغولين رويال، تتقدم بنسبة 53 بالمائة ولكن سركوزي هو الذي فاز.
لقد قرأت كل ما أمكن لي الحصول عليه من تقارير، واستمعت لمختلف التحليلات من مختلف محطات التلفزيون، واستوقفتني ملاحظات منها:
أ ndash; هل المجتمع الأمريكي عنصري؟
يروج اليسار الغربي، واليسار الفرنسي بوجه خاص، بأن المجتمع الأمريكي هو مجتمع طوائف غير متجانس، وملفق، وأن هناك عنصرية بيضاء طاغية، وخصوصا ضد السود.
إننا لو تتبعنا تاريخ الهجرة للولايات المتحدة منذ منتصف القرن التاسع عشر، أو الثلث الأول من القرن العشرين، لرأينا التالي:
لقد تتابعت خاصة هجرة ملايين الايرلنديين، والإيطاليين، واليهود في تلك الفترات، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت الولايات المتحدة نزوحا جماعيا للسود من الولايات الجنوبية للولايات الشمالية، وهجرة اللاتينيين، ومن آسيا، واندمجوا جميعا في المجتمع كاندماج الايرلنديين من قبل، وكما اندمج من جاء بعدهم، ولكنهم جميعا حافظوا على أصولهم العرقية، والدينية، والدولة تضمن مساواتهم التامة بالبيض، ولهم فرص متساوية في العمل، والتوظيف بحسب الكفاءات. إن الأمريكي من أي أصل كان يعتز بكونه أمريكيا، ويعتبر نفسه أمريكيا أولا فلا يقول إنه لاتيني، أو ايرلندي إلا إذا سألوه عن أصله، ولا يمكن أن نتصور أمريكيا من أصول الهجرة ان يصفر للنشيد الوطني الأمريكي، كما يجري في فرنسا في مسابقات كرة القدم، وإذ تتالت حوادث الصفير عند قراءة المارسييز في أيام مسابقات الكرة بين الجزائر، فالمغرب، فتونس مؤخرا. هؤلاء الشبان الذين يهينون رمز فرنسا لا يحملون فقط الجنسية الفرنسية، بل وغالبيتهم الساحقة ولدوا في فرنسا، ولكنهم لا يعتبرون فرنسا بلدهم. إن التجربة الأمريكية في الهجرة تعني الاندماج العضوي، الاختياري، والديمقراطي، في بوتقة دولة المواطنة، وتكافؤ الفرص، والمساواة في الحقوق، والواجبات أمام القانون؛ دولة يعتز الجميع بالانتماء، والوفاء لها.
إن أمريكا القرن الواحد والعشرين ليست أمريكا القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين، حين كانت العنصرية البيضاء قوية، وعلى الخصوص في الولايات الجنوبية، ومع بداية الستينيات، وفي عهد رئيس أبيض، حقق الأفارقة الأمريكان استكمال كل حقوقهم التي كان بعضها ناقصا، والفضل يعود لنضال جماهير السود، والبيض معا بقيادة دعاة المساواة، ورفض التمييز، وكان فريق حقوق الإنسان الذي اغتاله الكوكلس كلان في المسيسيبي في نفس الفترة مؤلفا من أسود واحد وأبيضين. لقد وصلت أمريكا لحد أن رئيس هيئة الأركان العامة زمن بوش الأب كان أسوداً، أي كولن باول، وهو الذي صار في عهد بوش الابن وزيرا للخارجية، وهو الذي قام بالنشاط الأساسي في مجلس الأمن لحشده ضد نظام صدام حسين، وكان من المتحمسين للحرب، ولكنه عاد بعد سنوات للانقلاب على موقفه، كما ينقلب اليوم على حزبه، لأسباب لا نعتقد أنه أعلن عن جميعها. أما وزيرة الخارجية الحالية فهي أيضا من العرق الأفريقي الأسود، وثمة آراء تذهب إلى أن عدداً كبيرا من البيض الذين أيدوا أوباما قد فعلوا ذلك لكيلا يتهموا بالعنصرية.
إن هذا لا يعني موت الظاهرة العنصرية، فلا تزال عدة ملايين من البيض تحمل بدرجة و أخرى مشاعر كامنة، أو غير مباشرة من العنصرية ولا تطيق وصول أسود للرئاسة، ولكن هناك بالمقابل عنصرية معاكسة، هي العنصرية السوداء، التي قد يزيد عدد حملتها على العنصريين البيض، ولكن أحدا لا يتطرق لهذه الظاهرة التي نلاحظها في فرنسا أيضا. إن القس الذي اعتاد أوباما، وعائلته ارتياد كنيسته هو المثال الصارخ للعنصرية السوداء، وقد جرؤ مرتين على مهاجمة أمريكا والدعوة لها باللعنة!
ب ndash; السياسة الخارجية، وتحولات مواقف أوباما:
إن التصريحات الانتخابية ترسم عادة خارطة طريق للرئيس الجديد، وإن كان لا يمكن التنبؤ مسبقا بما سيكون الموقف في حالة أزمة دولية جديدة وخطيرة في عهد الرئيس الجديد، كما ان رئيس الدولة العظمى محاط عادة بمستشارين أكفاء، وذوي خبرة عالية، وإن كان دور الرئيس يبقى بالغ الأهمية.
إن مما يلفت في الحملة الأمريكية الراهنة تحولات مدهشة في المواقف الخاصة بالسياسة الخارجية المفترض اتخاذها بعد الانتخاب، وهذه التحولات المفاجئة، التي وقعت مع التطور الزمني للحملة، تبرز خاصة عند أوباما.
لقد نشرت quot;هيرالد تريبيونquot; في عدد 23 أكتوبر الجاري تقريرا واسعا على صفحتها الأولى عن هذه التحولات التي تصفها الجريدة بالمدهشة.
المعلوم أن الرئيس القادم سيرث سلسلة قضايا خارجية شائكة، إضافة للأزمة المالية العاصفة. في مقدمة تلك القضايا، النووي الإيراني، والعراق، وأفغانستان، ومحاربة القاعدة وطالبان، وكيفية التعامل مع روسيا بعد غزو جورجيا.
بدأ أوباما حملته وكأنه رجل دبلوماسية بامتياز، ومرن للغاية، وداعية مفاوضات لحل المشاكل الدولية، بينما بدا ماكين وكأنه صقر، متطرف، من دعاة استعمال القوة وحدها. الصورتان، وبحسب الصحيفة، وبالاستناد إلى تصريحات مساعدي كل من المرشحين، ورسائلهما الالكترونية، وبعض تصريحاتهما، تختلفان اليوم.
الموقف من إيران
المثال الأبرز في الختلاف بين المرشحين هو الموقف من إيران. كان اوباما يدعو طوال الشهور الأولى للمفاوضات مع إيران بلا شروط مسبقة، مخالفا سياسة بوش، ثم قفز لتهديد إيران بالقوة لو اعتدت على إسرائيل، والدفاع عن أمن إسرائيل لا خلاف عليه بين المرشحين. الجديد هو التالي: أوباما صار يرفض كل تخصيب نووي، وإنتاج وقود نووي يجريان داخل إيران نفسها، في حين أن ماكين، الذي كان يدعو لقصف إيران نوويا، صار اليوم يدعو للسماح لإيران بذلك، ولأغراض سلمية بحتة، ولكن وفق حزمة من الشروط الدولية الحازمة جدا. الموقف الأول لأوباما كان أدنى بكثير حتى من مواقف الاتحاد الأوروبي، الذي كان يشترط وقف التخصيب أولا، علما بأن كلا من المرشحين متفقان على عمل كل شيء لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية. لقد أعلن لاريجاني منذ أيام تفضيله لاوباما رئيسا، ولعله يجهل التحولات المفاجئة في موقف الرجل، فيا للمسكين، و ذلك أن النووي الإيراني لا يزال القضية الخارجية الأولى التي تشغل أمريكا، وأيا كان الرئيس المقبل.
الموقف من أفغانستان
أما عن أفغانستان، فالمرشحان متفقان على العمل للانتصار التام على طالبان والقاعدة. أوباما دعا لإمكان قصف باكستان لمطاردة الإرهابيين، وهو ما عارضه فيه ماكين، ويدعو اوباما اليوم لإمكان إرسال قوات برية أيضا داخل باكستان لمطاردة طالبان، والقاعدة، لكن موقف ماكين هو مطالبة باكستان بحماية أراضيها، وتطهيرها من القاعدة، وطالبان، ومساعدتها في تحقيق المهمة. عن جورجيا كان موقف أوباما أكثر اعتدالا، وأقرب لموقف بوش، في حين بدا ماكين داعية للحزم مع روسيا رغم الاتفاق على الحاجة لتعاونها في قضايا النووي الإيراني، ومكافحة الإرهاب الإسلامي.
الموقف من العراق
وماذا عن مواقفهما من العراق، وهو ما يهمنا نحن العراقيين قبل كل شيء؟
إن ماكين يعير العراق نفس الاهمية التي تتميز بها سياسة الإدارة الحالية، ويدعو لعدم وضع جدول زمني للانسحاب لحين ضمان الانتصار النهائي في العراق. أما اوباما، فنعرف كيف يعتبر القضية العراقية ثانوية بالنسبة لأفغانستان، ويدعو لخروج القوات الأمريكية بأسرع ما يمكن، للتركيز على أفغانستان، وهو الموقف الذي جعل المالكي يصرح لمجلة ألمانية بأنه يفضل المرشح الأمريكي الذي يدعو للانسحاب السريع، أي أوباما.
لقد أجرت الولايات المتحدة تنازلات كبرى، وللحد الأقصى، في المسودة النهائية للاتفاقية الأمنية، التي يماطل فيها الحكام والساسة العراقيون في مزايدات مدهشة! وافقت واشنطن على جدول زمني، وتعهدت بحماية السيادة العراقية، ووحدة أراضي العراق، ومساعدته بكل الطرق الممكنة في حالة وقوع عدوان خارجي عليه، أو خطر داخلي، والعمل لفك قيود البند السابع، وحل مشكلة الديون العراقية. إنها تنص على مساعدة العراق في حالة quot;انتهاك سيادته الوطنية، أو وحدة أراضيه، أو مياهه، أو أجوائه الجوية، أو قابلية مؤسساته الديمقراطيةquot; [ نصا].
يسأل الكاتب السياسي العراقي جاسم حلوائي: هل أوباما، كرئيس، مستعد للالتزام بكل ذلك في حالة اعتماد الاتفاقية اليوم؟ كلا على الأرجح، ما دام يعتبر العراق شانا ثانويا، ولكن تغييرا مفاجئا على موقفه قد يطرأ، وإن كان هذا ضعيف الاحتمال. القضية في هذا المنعطف بالنسبة للعراق هو أن عدم التوقيع على الاتفاقية اليوم سيجلب نتائج وخيمة لا يحمد عقباها.
لقد كتبنا مقالنا الأخير عن الموضوع، ولا حاجة للتكرار، وكتب قبلنا آخرون، ونُشرت بعده مقالات عراقية مهمة، كمقال جاسم حلوائي في المواقع العراقية وموقع quot;آفاقquot; في 25 الجاري، والمقال الأخير الممتاز للأستاذ غالب حسن الشابندر في إيلاف، كما نشرنا هذه الأيام مقالا في المواقع العراقية بعنوان quot;موسم الرقص على طبول إيرانquot;، أي الراقصون على ضجيجها وإن تشبثوا بعباءات علماء الدين، ومعهم أيضا المرعوبون من قرقعة الطبول، أو الخائفون من اتهامات أتباعها، وأيضا اتهامات فلول البعث، والقومجية داخل العراق، وخارجه، ناهيكم عن الإسلاميين.
إن الانتخابات الأمريكية هي بالطبع شان أمريكي داخلي، ولكن نتائجها الدولية بعيدة الأثر، والانعكاسات، وفي رأينا، وهو ما كررناه، أن ماكين هو الرجل الأقدر على مواجهة العواصف الدولية، والأزمات الساخنة، وهذا هو ما يهمنا نحن، فربما أوباما أصلح أمريكيا، لا نري، ولكنه لا يبلغ مستوى تجارب، وقدرات ماكين القيادية. إن ماكين ليس بوش، وبينهما خلافات كبيرة في السياستين الخارجية، والداخلية، وإن انتخابه سيكون بحد ذاته تغييرا مهما في السياسة الأمريكية و دون إضعاف الدور الدولي للولايات المتحدة كدولة عظمى.
إننا نعرف أن الشارع العربي، والإسلامي، وحتى من يكرهون أمريكا كدولة هي الشيطان الأكبر، يفضلون أوباما، لا حبا به، أوعن قناعة، ولكن نكاية ببوش، وحزبه، وخصوصا غضبا على حرب إسقاط صدام، وإن كثرة من القيادات العربية، وبعض الحكومات العربية، لا نقصد سوريا وحدها، تفضل هي الأخرى أوباما لأسباب مختلفة، شانها في ذلك شأن اليسار الأوروبي، الذي يبث الدعاية ليل نهار لأوباما كراهية للسياسة الأمريكية.
التصويت، والنتائج على الأبواب، والديمقراطية الأمريكية، ومهما كانت النتيجة، هي في عافية برغم الأزمة المالية الراهنة، التي لا شك في أن الولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى، ستتخذ كل التدابير اللازمة لإعادة النظر في قواعد النظام المالي، ومراجعة نقاط الضعف في اقتصاد السوق، وتصحيح الخلل.
إن استطلاعات الرأي المتواصلة تشير إلى تقدم كبير لأوباما، وهو تقدم لم يكن ملحوظا قبل انفجار أزمة النظام المالي العاصفة، حيث أصبح الخوف من العواقب، والأمل في تخفيفه، على رأس هموم المواطنين. في الشهور الأولى لم تشر الاستطلاعات لغير تقدم أوباما بنسبة 2 أو ثلاث نقاط، ولكن الفارق اتسع فجأة مع الأزمة، علما بأن أوباما يتمتع حقا بمواصفات، ومؤهلات فريدة، ناهيكم عن quot;الكاريزماquot; الشخصية.
هل الاستطلاعات ستدل حقا على ما سيجري خلال التصويت القريب جدا؟ ربما نعم، وربما لا، إذ يجب عدم التسرع، وعدم إصدار حكم بات كما دلت مثلا تجربة منافسة وبوش، وكيري، وكانت الاستطلاعات قد اعتبرت الأخير فائزا، ولكنه خسر، كذلك ريغان فيما قالت الاستطلاعات إنه سيخسر. وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة أيضا أكدت الاستطلاعات أن المرشحة الاشتراكية، سيغولين رويال، تتقدم بنسبة 53 بالمائة ولكن سركوزي هو الذي فاز.
لقد قرأت كل ما أمكن لي الحصول عليه من تقارير، واستمعت لمختلف التحليلات من مختلف محطات التلفزيون، واستوقفتني ملاحظات منها:
أ ndash; هل المجتمع الأمريكي عنصري؟
يروج اليسار الغربي، واليسار الفرنسي بوجه خاص، بأن المجتمع الأمريكي هو مجتمع طوائف غير متجانس، وملفق، وأن هناك عنصرية بيضاء طاغية، وخصوصا ضد السود.
إننا لو تتبعنا تاريخ الهجرة للولايات المتحدة منذ منتصف القرن التاسع عشر، أو الثلث الأول من القرن العشرين، لرأينا التالي:
لقد تتابعت خاصة هجرة ملايين الايرلنديين، والإيطاليين، واليهود في تلك الفترات، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت الولايات المتحدة نزوحا جماعيا للسود من الولايات الجنوبية للولايات الشمالية، وهجرة اللاتينيين، ومن آسيا، واندمجوا جميعا في المجتمع كاندماج الايرلنديين من قبل، وكما اندمج من جاء بعدهم، ولكنهم جميعا حافظوا على أصولهم العرقية، والدينية، والدولة تضمن مساواتهم التامة بالبيض، ولهم فرص متساوية في العمل، والتوظيف بحسب الكفاءات. إن الأمريكي من أي أصل كان يعتز بكونه أمريكيا، ويعتبر نفسه أمريكيا أولا فلا يقول إنه لاتيني، أو ايرلندي إلا إذا سألوه عن أصله، ولا يمكن أن نتصور أمريكيا من أصول الهجرة ان يصفر للنشيد الوطني الأمريكي، كما يجري في فرنسا في مسابقات كرة القدم، وإذ تتالت حوادث الصفير عند قراءة المارسييز في أيام مسابقات الكرة بين الجزائر، فالمغرب، فتونس مؤخرا. هؤلاء الشبان الذين يهينون رمز فرنسا لا يحملون فقط الجنسية الفرنسية، بل وغالبيتهم الساحقة ولدوا في فرنسا، ولكنهم لا يعتبرون فرنسا بلدهم. إن التجربة الأمريكية في الهجرة تعني الاندماج العضوي، الاختياري، والديمقراطي، في بوتقة دولة المواطنة، وتكافؤ الفرص، والمساواة في الحقوق، والواجبات أمام القانون؛ دولة يعتز الجميع بالانتماء، والوفاء لها.
إن أمريكا القرن الواحد والعشرين ليست أمريكا القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين، حين كانت العنصرية البيضاء قوية، وعلى الخصوص في الولايات الجنوبية، ومع بداية الستينيات، وفي عهد رئيس أبيض، حقق الأفارقة الأمريكان استكمال كل حقوقهم التي كان بعضها ناقصا، والفضل يعود لنضال جماهير السود، والبيض معا بقيادة دعاة المساواة، ورفض التمييز، وكان فريق حقوق الإنسان الذي اغتاله الكوكلس كلان في المسيسيبي في نفس الفترة مؤلفا من أسود واحد وأبيضين. لقد وصلت أمريكا لحد أن رئيس هيئة الأركان العامة زمن بوش الأب كان أسوداً، أي كولن باول، وهو الذي صار في عهد بوش الابن وزيرا للخارجية، وهو الذي قام بالنشاط الأساسي في مجلس الأمن لحشده ضد نظام صدام حسين، وكان من المتحمسين للحرب، ولكنه عاد بعد سنوات للانقلاب على موقفه، كما ينقلب اليوم على حزبه، لأسباب لا نعتقد أنه أعلن عن جميعها. أما وزيرة الخارجية الحالية فهي أيضا من العرق الأفريقي الأسود، وثمة آراء تذهب إلى أن عدداً كبيرا من البيض الذين أيدوا أوباما قد فعلوا ذلك لكيلا يتهموا بالعنصرية.
إن هذا لا يعني موت الظاهرة العنصرية، فلا تزال عدة ملايين من البيض تحمل بدرجة و أخرى مشاعر كامنة، أو غير مباشرة من العنصرية ولا تطيق وصول أسود للرئاسة، ولكن هناك بالمقابل عنصرية معاكسة، هي العنصرية السوداء، التي قد يزيد عدد حملتها على العنصريين البيض، ولكن أحدا لا يتطرق لهذه الظاهرة التي نلاحظها في فرنسا أيضا. إن القس الذي اعتاد أوباما، وعائلته ارتياد كنيسته هو المثال الصارخ للعنصرية السوداء، وقد جرؤ مرتين على مهاجمة أمريكا والدعوة لها باللعنة!
ب ndash; السياسة الخارجية، وتحولات مواقف أوباما:
إن التصريحات الانتخابية ترسم عادة خارطة طريق للرئيس الجديد، وإن كان لا يمكن التنبؤ مسبقا بما سيكون الموقف في حالة أزمة دولية جديدة وخطيرة في عهد الرئيس الجديد، كما ان رئيس الدولة العظمى محاط عادة بمستشارين أكفاء، وذوي خبرة عالية، وإن كان دور الرئيس يبقى بالغ الأهمية.
إن مما يلفت في الحملة الأمريكية الراهنة تحولات مدهشة في المواقف الخاصة بالسياسة الخارجية المفترض اتخاذها بعد الانتخاب، وهذه التحولات المفاجئة، التي وقعت مع التطور الزمني للحملة، تبرز خاصة عند أوباما.
لقد نشرت quot;هيرالد تريبيونquot; في عدد 23 أكتوبر الجاري تقريرا واسعا على صفحتها الأولى عن هذه التحولات التي تصفها الجريدة بالمدهشة.
المعلوم أن الرئيس القادم سيرث سلسلة قضايا خارجية شائكة، إضافة للأزمة المالية العاصفة. في مقدمة تلك القضايا، النووي الإيراني، والعراق، وأفغانستان، ومحاربة القاعدة وطالبان، وكيفية التعامل مع روسيا بعد غزو جورجيا.
بدأ أوباما حملته وكأنه رجل دبلوماسية بامتياز، ومرن للغاية، وداعية مفاوضات لحل المشاكل الدولية، بينما بدا ماكين وكأنه صقر، متطرف، من دعاة استعمال القوة وحدها. الصورتان، وبحسب الصحيفة، وبالاستناد إلى تصريحات مساعدي كل من المرشحين، ورسائلهما الالكترونية، وبعض تصريحاتهما، تختلفان اليوم.
الموقف من إيران
المثال الأبرز في الختلاف بين المرشحين هو الموقف من إيران. كان اوباما يدعو طوال الشهور الأولى للمفاوضات مع إيران بلا شروط مسبقة، مخالفا سياسة بوش، ثم قفز لتهديد إيران بالقوة لو اعتدت على إسرائيل، والدفاع عن أمن إسرائيل لا خلاف عليه بين المرشحين. الجديد هو التالي: أوباما صار يرفض كل تخصيب نووي، وإنتاج وقود نووي يجريان داخل إيران نفسها، في حين أن ماكين، الذي كان يدعو لقصف إيران نوويا، صار اليوم يدعو للسماح لإيران بذلك، ولأغراض سلمية بحتة، ولكن وفق حزمة من الشروط الدولية الحازمة جدا. الموقف الأول لأوباما كان أدنى بكثير حتى من مواقف الاتحاد الأوروبي، الذي كان يشترط وقف التخصيب أولا، علما بأن كلا من المرشحين متفقان على عمل كل شيء لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية. لقد أعلن لاريجاني منذ أيام تفضيله لاوباما رئيسا، ولعله يجهل التحولات المفاجئة في موقف الرجل، فيا للمسكين، و ذلك أن النووي الإيراني لا يزال القضية الخارجية الأولى التي تشغل أمريكا، وأيا كان الرئيس المقبل.
الموقف من أفغانستان
أما عن أفغانستان، فالمرشحان متفقان على العمل للانتصار التام على طالبان والقاعدة. أوباما دعا لإمكان قصف باكستان لمطاردة الإرهابيين، وهو ما عارضه فيه ماكين، ويدعو اوباما اليوم لإمكان إرسال قوات برية أيضا داخل باكستان لمطاردة طالبان، والقاعدة، لكن موقف ماكين هو مطالبة باكستان بحماية أراضيها، وتطهيرها من القاعدة، وطالبان، ومساعدتها في تحقيق المهمة. عن جورجيا كان موقف أوباما أكثر اعتدالا، وأقرب لموقف بوش، في حين بدا ماكين داعية للحزم مع روسيا رغم الاتفاق على الحاجة لتعاونها في قضايا النووي الإيراني، ومكافحة الإرهاب الإسلامي.
الموقف من العراق
وماذا عن مواقفهما من العراق، وهو ما يهمنا نحن العراقيين قبل كل شيء؟
إن ماكين يعير العراق نفس الاهمية التي تتميز بها سياسة الإدارة الحالية، ويدعو لعدم وضع جدول زمني للانسحاب لحين ضمان الانتصار النهائي في العراق. أما اوباما، فنعرف كيف يعتبر القضية العراقية ثانوية بالنسبة لأفغانستان، ويدعو لخروج القوات الأمريكية بأسرع ما يمكن، للتركيز على أفغانستان، وهو الموقف الذي جعل المالكي يصرح لمجلة ألمانية بأنه يفضل المرشح الأمريكي الذي يدعو للانسحاب السريع، أي أوباما.
لقد أجرت الولايات المتحدة تنازلات كبرى، وللحد الأقصى، في المسودة النهائية للاتفاقية الأمنية، التي يماطل فيها الحكام والساسة العراقيون في مزايدات مدهشة! وافقت واشنطن على جدول زمني، وتعهدت بحماية السيادة العراقية، ووحدة أراضي العراق، ومساعدته بكل الطرق الممكنة في حالة وقوع عدوان خارجي عليه، أو خطر داخلي، والعمل لفك قيود البند السابع، وحل مشكلة الديون العراقية. إنها تنص على مساعدة العراق في حالة quot;انتهاك سيادته الوطنية، أو وحدة أراضيه، أو مياهه، أو أجوائه الجوية، أو قابلية مؤسساته الديمقراطيةquot; [ نصا].
يسأل الكاتب السياسي العراقي جاسم حلوائي: هل أوباما، كرئيس، مستعد للالتزام بكل ذلك في حالة اعتماد الاتفاقية اليوم؟ كلا على الأرجح، ما دام يعتبر العراق شانا ثانويا، ولكن تغييرا مفاجئا على موقفه قد يطرأ، وإن كان هذا ضعيف الاحتمال. القضية في هذا المنعطف بالنسبة للعراق هو أن عدم التوقيع على الاتفاقية اليوم سيجلب نتائج وخيمة لا يحمد عقباها.
لقد كتبنا مقالنا الأخير عن الموضوع، ولا حاجة للتكرار، وكتب قبلنا آخرون، ونُشرت بعده مقالات عراقية مهمة، كمقال جاسم حلوائي في المواقع العراقية وموقع quot;آفاقquot; في 25 الجاري، والمقال الأخير الممتاز للأستاذ غالب حسن الشابندر في إيلاف، كما نشرنا هذه الأيام مقالا في المواقع العراقية بعنوان quot;موسم الرقص على طبول إيرانquot;، أي الراقصون على ضجيجها وإن تشبثوا بعباءات علماء الدين، ومعهم أيضا المرعوبون من قرقعة الطبول، أو الخائفون من اتهامات أتباعها، وأيضا اتهامات فلول البعث، والقومجية داخل العراق، وخارجه، ناهيكم عن الإسلاميين.
إن الانتخابات الأمريكية هي بالطبع شان أمريكي داخلي، ولكن نتائجها الدولية بعيدة الأثر، والانعكاسات، وفي رأينا، وهو ما كررناه، أن ماكين هو الرجل الأقدر على مواجهة العواصف الدولية، والأزمات الساخنة، وهذا هو ما يهمنا نحن، فربما أوباما أصلح أمريكيا، لا نري، ولكنه لا يبلغ مستوى تجارب، وقدرات ماكين القيادية. إن ماكين ليس بوش، وبينهما خلافات كبيرة في السياستين الخارجية، والداخلية، وإن انتخابه سيكون بحد ذاته تغييرا مهما في السياسة الأمريكية و دون إضعاف الدور الدولي للولايات المتحدة كدولة عظمى.
إننا نعرف أن الشارع العربي، والإسلامي، وحتى من يكرهون أمريكا كدولة هي الشيطان الأكبر، يفضلون أوباما، لا حبا به، أوعن قناعة، ولكن نكاية ببوش، وحزبه، وخصوصا غضبا على حرب إسقاط صدام، وإن كثرة من القيادات العربية، وبعض الحكومات العربية، لا نقصد سوريا وحدها، تفضل هي الأخرى أوباما لأسباب مختلفة، شانها في ذلك شأن اليسار الأوروبي، الذي يبث الدعاية ليل نهار لأوباما كراهية للسياسة الأمريكية.
التصويت، والنتائج على الأبواب، والديمقراطية الأمريكية، ومهما كانت النتيجة، هي في عافية برغم الأزمة المالية الراهنة، التي لا شك في أن الولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى، ستتخذ كل التدابير اللازمة لإعادة النظر في قواعد النظام المالي، ومراجعة نقاط الضعف في اقتصاد السوق، وتصحيح الخلل.
التعليقات