إنه موضوع قديم، جديد، وفي كل يوم ثمة ما يثير السجال في هذا الشأن. لم يعد أحد ينكر ولو بالكلام أو نصوص الدستور مبدأ حرية التعبير والنشر، كعمود فقري لحقوق الإنسان، لكن السجال هو عن مدى وحدود هذه الحرية، وما عليها من التزامات.
لقد ثبت الإعلان الدولي لحقوق الإنسان هذا المبدأ، وأكدته عشرات من مواثيق المنظمات المختصة، لاسيما اليونسكو التي نادت بحق المواطن في الإعلام، وأدانت كل قمع ورقابة أيا كانا.
الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، واليونسكو، قد وقعت على كل هذه الوثائق الدولية، عدا القلة القليلة من دول الجنوب، وكل الأنظمة الشمولية، جنوبا، وشمالا، هي وحدها لم تلتزم بها، ولم تحترمها في الممارسة.
إن هناك أنواعا ودرجات من تقييد وحتى خنق هذه الحرية المقدسة، خصوصا في الأنظمة الشمولية، وعلى وجه الخصوص دول الإسلام السياسي. إن هناك أشكالا من الرقابة التي تحاصر الكاتب والفنان والمواطن عامة؛ رقابة رسمية من الدولة، ورقابة غير مباشرة، وملاحقات قانونية، ألخ؛ أما معظم الدول في العالمين العربي والإسلامي، فالرقابة الكبرى اليوم، هي رقابة المؤسسات الدينية وشيوخ الدين الذين يوسعون كل يوم من دائرة quot;المحرماتquot;، ويلجئون للتكفير، والتحريض، سواء كان ذلك من أحزاب دينية حاكمة، أو ضغوط رجالات الدين والشارع الخاضع لدعاياتها، ضغوط قد تتجاهلها الدولة غير الدينية، أو تجاريها بدرجات، كما تفعل مصر أحيانا.
لقد شهدت العقود المنصرمة واليوم كيف تطارد هذه الرقابة حرية الفنان، والكاتب، والباحث، والأستاذ الحر، وكيف يتعرضون لأنواع من الاضطهاد، ما بين قرارات محاكم تنجر حتى لتطليق الزوجة من الزوج بتحريض شيوخ الدين، وما بين التهديد، وصولا للاغتيال، وقد سبق وكتبنا عن مأساة الصحفيين العراقيين، إن كان في عهد صدام، أو اليوم على أيدي المليشيات، والقاعدة، وكبار الإداريين، وأشرنا للعدد الكبير من الضحايا خلال السنوات الخمس المنصرمة.
إن تزايد نفوذ المؤسسات الدينية المتطرفة، والدعاة الإسلاميين كالقرضاوي، في الحكم على أي عمل أدبي، او فكري، أو فني، quot;صالحquot; أو quot;طالحquot; في نظرهم، هو الخطر الأكبر اليوم على الحريات الشخصية، والديمقراطية، وحرية التعبير في المقدمة، في الدول العربية، والإسلامية.
لقد قرأنا في مقالات لكتاب مصريين أن السيد فاروق حسني سبق وألف لجنة يهيمن عليها الأزهر وعدد من كبار الشخصيات الدينية الآخرين، لتحكم على الأعمال الفنية والأدبية، وما يجب نشره، أو بثه تلفزيونيا، أو ما يمكن أو يحرم، عرضه من أفلام. هذا ما نشر أكثر من مرة، ولم نجد له تفنيدا. نذكر هذا لأن المفارقة، والازدواجية، في موقف السيد حسني، كونه رشح نفسه لإدارة منظمة اليونسكو، التي تتعارض بنود ميثاقها، واتفاقياتها، مع كل رقابة، وبالأخص هذه الرقابة الإسلامية الخانقة,
إن الإسلاميين والمشايخ، لا يكتفون بمحاصرة ومحاربة حرية الرأي والتعبير في بلدانهم، بل يحاولون نقل الوافدة لبلدان الغرب الديمقراطية، وفرض معاييرهم وأفكارهم المتطرفة، والمتخلفة، على كتابها، وفنانيها، وعلى الباحثين، ولا داعي لإعادة التذكير بردود الفعل العنيفة ضد رسام، أو مخرج سينمائي، وقتله، أو التهديد بالقتل.
من جهة أخرى، فلابد من ملاحظة أن المتطرفين، والمتزمتين الإسلاميين، في الغرب يستثمرون هذه الحرية نفسها، المتوفرة لهم في دوله، لبث سموم الكراهية، والتحريض على العنف باسم الجهاد، ونصرة الإسلام.
هذه بضع نقاط معروفة عن قدسية حرية التعبير، والنشر، والمخاطر الكبرى التي تتعرض لها اليوم مع طغيان الأصولية الدينية المتطرفة، ونكتفي بهذا لننتقل للجانب الآخر من القضية: أي هل هذه الحرية مطلقة، وبلا حدود؟ بالطبع لا، فثمة حدود أخلاقية، وحدود وضوابط قانونية، حتى في دول الغرب، ضد سوء استخدام هذه الحرية.
نحن نعرف مثلا أن هناك قوانين تقاضي على القذف والتشهير، الشخصيين؛ وهناك ضوابط ضد التبشير بكراهية عرق ما، أو دين ما؛ وهناك التزامات أخلاقية مبدئية، سبق وحددتها اليونسكو عن دور وسائل الإعلام في نشر أفكار التسامح، وضد كل أشكال التمييز العنصري، أو الديني، أو التمييز بين الجنسين، مع ملاحظة عن تساهل دول غربية، حتى سنوات قليلة مضت، مع دعاة تكفير الغرب، والكراهية، والعنف. إنه تساهل دفعت بريطانيا خاصة ثمنه الغالي؛ كما هناك دول لا تتخذ إجراءات قانونية ضد التنظيمات النازية، والفاشية، الجديدة، رغم قيامها من وقت لآخر بالاعتداء على تجمعات ومظاهرات سلمية. هنا تناقض بين الحرية وبين مبدأ سيادة القانون، وأمن المواطنين. نضيف أن بعض الصحفيين في الغرب نفسه لا يهمهم غير الخبر المثير، حتى لو كان مجرد إشاعة، كما يحدث عند وقوع جريمة ما، وركض الصحفيين، حتى قبل بداية التحقيق البوليسي، للتلصص لالتقاط أية معلومة، مما أدى أحيانا لاتهام برئ، أو لفائدة المجرم. هناك أيضا ملاحقات الكاميرات الصحفية الفضولية لأصغر الخصوصيات الشخصية، وعواقب ذلك، كما وقع في مصرع الأميرة ديانا.
أجل، إن هذه الحرية مقدسة، ولكنها ليست مطلقة، ويشكل سوء استخدامها أضرارا للأفراد، أو المجتمع، والتحقيق القضائي.
هنا، يثير بعض الباحثين الغربيين إشكالية كيفية معالجة المعتقدات غير العلمية، والمتخلفة، التي يأخذ بها، ويؤمن، المجتمع، أو الأكثرية.
إن المسألة حساسة، وتتطلب منتهى اللباقة في المعالجة، وانتقاء أفضل أشكال التعبير عن الرأي النقدي، بما لا يخدش الجمهور جبهويا، ولكن بما لا يزكي تلك المعتقدات، ولا يقدم لها تنازلات على حساب الحقيقة.
إن المعالجة النقدية الصريحة، والمباشرة، تراعي طبيعة الأنظمة، والمجتمعات؛ ففي الدول الديمقراطية يمكن حتى النقد العلني للمسيحية، وإذا حدثت إساءة، فهناك القانون الذي يمكن اللجوء له، أو مقابلة العمل الذي يعتبرونه مسيئا، كبعض الأفلام عن السيد المسيح، بالنقد والتوضيح، أو ممارسة أي أسلوب سلمي آخر.. إن هذه ليست، كما نعرف، الحال بالنسبة للمجتمعات العربية، والإسلامية.
عن هذه النقطة الهامة، نعرض رأي الباحث الأمريكي quot;ليو شتراوسquot; في كتابه quot;ما هي الفلسفة السياسيةquot; الصادر عن جامعة شيكاغو عام 1959. يقول المؤلف إن احترام الآراء التي يقوم عليها المجتمع لا يعني القبول بها، وإن الفلاسفة والعلماء، الذين يحملون هذه الفكرة عن العلاقة بين الفلسفة أو العلم، وبين المجتمع، مضطرون لاستخدام طريقة خاصة للكتابة، تمكنهم من أن يقولوا للقلة من القراء رفيعي المستوى الفكري، كل ما يعتبرونه الحقيقة، بلا مواربة، لكن دون أن يستخدموا نفس الطريقة في الكتابة للجمهور الواسع. إن هناك كتابة تنقل الحقيقة المعرفية كاملة، ومباشرة، وهي موجهة للنخبة، وهناك كتابة شعبية مبسطة، تقول الحقيقة بأسلوب غير مباشر، وبالتلميح والتضمين، أي الكتابة quot;الباطنيةquot; على حد تعبير المؤلف.
نعتقد أن مثل هذا التمييز ضروري ومفيد، لأنه ينقل الحقيقة نفسها، ويعلنها بطريقتين مختلفتين، دون أي تنازل للأفكار الخاطئة، مهما كانت، وإن هذا التمييز أيضا يقطع الطريق على جميع أعداء الحقيقة، وحرية الرأي والتعبيرquot;، وعلى رأسهم اليوم دعاة التطرف الإسلامي، من القادرين على الغش، ولهم أساليبهم الخبيثة، الماكرة في خدع الجمهور وتحريضه، وتأليبه ضد المفكرين، والكتاب، والمبدعين الأحرار.