القانون هو المبادىء والقواعد التى تنظم علاقات الدول أو الأمم (القبائل) أو الأفراد فيما بينهم أو مع الآخرين، والنظام القانونى هو الأسلوب الذي تتخذه دولة أو أمة (قبيلة) أو جماعة لتـُظهر من خلاله مبادىء وقواعد القانون، حماية للناس وصيانة لأعراضهم ورعاية لأموالهم. وقد سلف فى دراسة سابقة أن تحدد الفارق بين نظامين قانونيين، أحدهما هو الذى تأخذ به أكثر الدول، وهو نظام يقوم على وضع القانون وسن التشريع قبْل نفاذه ويسمى بالإنجليزية (Statutes)، وثانيهما هو الذى تسير عليه الولايات المتحدة وبريطانيا وهو ينبنى على أن تضع المحاكم المبادىء والقواعد التى تحكم المنازعات ndash; حين تعرض عليها ndash; فتكوّن ما يسمى بالإنجليزية (Precedents) أى السوابق القضائية.
فى الأسبوع قبل الماضى أثار كبير اساقفة كانتربرى (الكنيسة الانجليكانية البريطانية) رودان وليمامز في حديث له بالقناة الرابعة التلفازية البريطانية ضجة كبرى حين أشار إلى ضرورة الاتجاه فى بريطانيا إلى تطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلامية، على مواطنيها من المسلمين. وقد أصدر مكتب رئيس وزراء بريطانيا بيانا جاء فيه، استنكارا لحديث كبير الأساقفة المذكور، (إن القانون البريطانى يستند إلى القيم البريطانية). وقد اضطر كبير الأساقفة إزاء المعارضة التى حدثت بشدة لحديثة ذلك إلى التعقيب بأنه كان يهدف فيه أن تـُراعى مبادىء وقواعد قوانين الأحوال الشخصية، وخاصة ما يتعلق منها بالطلاق، إذ لا يمكن الاعتراف بمبادىء الشريعة أمام محكمة مدنية لمعالجة خلافات ناتجة عن عَقـْد، وأن الشريعة لا تبرر انتهاك القانون البريطانى، وأنها لا يمكن أن تبرر الأعمال الإرهابية.
ويلوح أن كبير الأساقفة الذى أثار تلك الضجة كان متأثراً بأن الأنجيل لم يتضمن تشريعات فيما عدا مبدأ عدم الطلاق إلا لعلـّة الزنا، وأن كل المبادىء والقواعد فى المسيحية هى تشريعات كنسيّة (Ecclesiastical) ؛ هذا بالإضافة إلى أنه كان متأثرا ndash; من جانب آخر ndash; بالطلب الشديد الذى يلـّحّ عليه المسلمون في الهند ndash; أصول المسلمين البريطانيين من الهند ndash; فى إنشاء محاكم شرعية (Sharia Courts).
الهند هى ثانى بلد ndash; بعد أندونيسيا ndash; فيه أكبر عدد من المسلمين، فهم يكوّنون 13,8 % من عدد السكان، وكان عددهم يبلغ عام 1993 حين كنت فى الهند 280 مليون نسمة، ولعل العدد وصل الآن إلى 300 مليون نسمة أو أكثر. أما باقى السكان فهم هندوس وبوذيون وچانيون (أتباع العقيدة الچينية) ومسيحيون.
دُعيت إلى الهند، فى ديسمبر عام 1993، لإلقاء محاضرة فى ندوة أبى الكلام آزاد عن الإسلام والسياسة. وبعد إلقاء المحاضرة، وأثناء الإجابة عن أسئلة الحضور من المستمعين - وهى فى الولايات المتحدة وأوروبا - قد تكون أهم من المحاضرة، تبينت على الفور أن لدى المسلمين مشكلة ملـّحة وحاّدة، هى رغبتهم فى تشكيل محاكم تسمى محاكم الشريعة (Sharia Courts) لتفصل فى منازعاتهم، وفهمت أن وراء هذا المطلب هدفا يرمى إلى أن لا يحكم غير المسلم من قضاة الهنود فى منازعات أطرافها من المسلمين. وقد رغب بعض المسلمين الهنود فى أن أكون وسيطا لهم لدى الحكومة حتى يتحقق مطلبهم ذاك.
خلال فترة إقامتى فى دلهى (العاصمة) عمدت إلى إستقصاء حقيقة الأمر من رئيس وقضاة المحكمة العليا وقضاة المحاكم الأخرى والمحامين (الذين كانت زياراتى لهم ضمن برنامج الزيارة) فعرفت ان النظام القانونى الهندى لا يميز عند تعيين القضاة بين المواطنين الهنود على أى أساس من العقيدة، وأنه يقضى بأن يطبق على المسلمين فى المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والحضانة والميراث والوصية والهبة) قواعد المذهب الحنفى فى الفقه الإسلامى، ويطلقون عليه اسم (قانون حنفى Hanafi Law)، وشرحت لهم بالطبع، أن الحنفى هذا هو مذهب فقهى وليس قانونا (Doctrine not law)، وإن كان يتضمن أحكام القرآن فى موضوعات الأحوال الشخصية المنوه عنها.
فى مقابلة مع مدير وأساتذة جامعة نيودلهى الإسلامية التقيت بمدير الجامعة، الذى كنت قد التقيت به فى اليوم الأول لي بعد إلقاء المحاضرة، فطلب منى أن أشرح فى حديث تلقائى له وللأساتذة الحاضرين موضوع (الإسلام السياسي فى الشرق الأوسط). ولما انتهى الحديث سألنى عما كان قد طلبه منى من قبل، عن التوّسط لدى الحكومة الهندية لوضع تشريع خاص بمحاكم الشريعة. فقلت له وللأساتذة ndash; وكنت قد ألممت بالموضوع من بعض الوزراء والقضاة والمحامين ndash; أن مطلبهم مستحيل وأن عليهم أن يغضـّوا الطرف عنه، لأنه مسألة تتعلق بالسيادة، ولأنه لن يمنع أن يحكم قاض غير مسلم على شخص مسلم. فمؤدى وضع قانون بمحاكم الشريعة أن توجد ثلاثة أنظمة قانونية وربما أكثر، أحدها للفصل بين الهنود المسلمين، والأخر للفصل بين الهنود غير المسلمين، والثالث يكون مخصصا للفصل فى المنازعات المختلطة بين مسلمين وغير مسلمين، وفيها يقع المحظور الذين يريدون تلافيه، إذ يقضى فى هذه المحاكم قضاة غير مسلمين فى المنازعات المختلطة بين مسلمين وغير مسلمين ؛ ومن ثم يحكم على المسلم غير المسلم (هندوسى أو بوذى أو جينى). ولما وجدت أنهم صُدموا فيما يرغبون فيه بشدة، اضطررت أن أشرح لهم مفهوم النظام القانونى والسيادة، فى مصر بالذات، التى تعد نموذجا لكل البلاد العربية والإسلامية، بصدد تطبيق أحكام القانون، فكانت شبه محاضرة تلت الحديث العفوى.
كانت مصر أيام أن كانت تابعة للسلطنة العثمانية بلا نظام قضائى محدد، وكان قاضى عسكر (أى القاضى العسكرى الذى لا يعرف العربية) يعين أربعة قضاة، على المذاهب الأربعة: الحنفى والمالكى والشافعى والحنبلى، ليقضى كل منهم فى منازعات الأحوال الشخصية الخاصة بأتباع مذهبه. وكان يحدد أنصبة المواريث شخص يسمى الفارض، أى الذى يفرض أنصبة الورثة (وكان عمر ابن الفارض الشاعر الملقب بسلطان العاشقين ابنا لفارض أنصبة المواريث). أما النزاعات المدنية فكانت متروكة للأعراف يُحتكم فيها إلى رئيس طائفة حرفة أو كبير فى قومه أو شخص يتخيره الخصوم وهكذا. وفى المسائل الجنائية كان الوالى أو نائبه (وهما غير مصريين) يختصان بالحكم فيها، فإذا كُلفّ قاض بالتحقيق لم يكن له أن يصدر حكما، وانما يرفع الأمر إلى الوالى أو نائبه ليصدر الحكم.
فى عام 1860 أنشا نوبار باشا رئيس الوزراء المحاكم المختلطة لتفصل فى المنازعات الخاصة بالأجانب أو بالأجانب والمصريين، نتيجة الإمتيازات التى دأبت السلطنة العثمانية على إعطائها للأجانب الذين كانوا يعملون أو يقيمون فى مصر أو خارجها. وكانت القناصل تفصل فى المسائل الجنائية التى يتهم بها أجنبى، حتى ولو كان أحد أطراف الجريمة مصرى. فى عام 1883 أنشأت الحكومة المحاكم الأهلية لتختص بالفصل فى المنازعات بين المصريين فى المسائل المدنية والجنائية، ونظمت المحاكم الشرعية التى صارت تختص بالفصل بين المصريين المسلمين فى مسائل الأحوال الشخصية والمواريث والوقف. أما غير المسلمين من المصرين فكانت تفصل لهم فى هذه المسائل مجالس ملية (من الملة) خاصة بكل طائفة.
فى عام 1948 مثلا كان النظام القضائى فى مصر موزّعا بين المحاكم المختلطة (التى تقرر إلغاءها فى 15 اكتوبر 1949) والمحاكم الأهلية والمحاكم الشرعية والمجالس الملية والمحاكم الإدارية (التى كانت ضمن مجلس الدولة، مع أنه ينبغى أن تكون قسما من النظام القضائى العادى ويقتصر اختصاص مجلس الدولة على قسمى التشريع والفتوى). وكان يُنظر إلى تعدد الجهات القضائية على أنه يمسّ سيادة الدولة التى لابد أن يكون لها نظام قانونى واحد ونظام قضائى واحد. وبدأ توحيد القانون والقضاء بإلغاء المحاكم القنصلية نتيجة لالغاء الإمتيازات فى معاهدة مونترو 1937، ثم تلا ذلك إلغاء المحاكم المختلطة فى 15 اكتوبر 1949، ثم ألغيت المحاكم الشرعية والمجالس الملية عام 1955، وأصبح العمل بها ضمن دوائر أو قضاة من المحاكم الأهلية، التى ألغى منها لفظ الأهلية الذى كان يقابل لفظ المختلطة، وأصبحت تسمى المحاكم فقط، وثمت من يرنو إلى إدماج القضاء الإدارى ضمن القضاء ليكون دوائر فيه، فتكون فى مصر جهة قضائية واحدة.
وأحكام المواريث الإسلامية هى القانون العام الذى يطبق على المصريين مسلمين أو أقباطا. ومع أن بعض الأقباط يرى فى بعض نصوص هذا القانون عدم الملاءمة لهم ولا للأوضاع الدولية الحديثة، فإنهم لم يعترضوا على ذلك، ولم يطالبوا بإنشاء قانون مواريث خاص بهم، لأنهم نظروا لأنفسهم كمواطنين يخضعون للقانون العام للدولة وليسوا طائفة تدعوا إلى إنشاء محاكم أو قوانين خاصة بهم. كذلك فإن أحكام الشريعة الإسلامية المقننة فى تشريعات منذ عام 1928 هى التى تـُطبق على الأقباط عند اختلاف المذاهب أو إذا اعتنق أحد الزوجين الإسلام، ولم يعترض أحد على ذلك لأن هذا هو قانون الدولة والنظام القضائي فيها الذي ينبغى أن يكون واحدا يسرى على الجميع، ويوجَد مطلب عند الكنيسة الأرثوذكسية (وهى الكنيسة المصرية الأم) بأن يُطبق على الخلافات الناشئة عن عقد الزواج، القانون الذى انعقد العقد على أساسه، أى أن لا تطبق أحكام الشريعة الإسلامية على هذا العقد إن غيّر أحد الطرفين دينه أو بدّل مذهبه، لكن هذا المطلب يأخذ شكل الطلب الحثيث ضمن الأطر القانونية دون أن يتجه إلى الاعتراض أو العنف أو الحدة.
وقد عمل فى مصر قضاة المحاكم فى محاكم الأحوال الشخصية للمسلمين وغير المسلمين فنجحوا ووضعوا معايير جديدة. ولم يعترض أحد، ولا وجد فارقا بين هؤلاء القضاة وقضاة المحاكم الشرعية الذين ذابوا فيهم حتى تقاعدوا. وقد عملتُ فى محاكم الأحوال الشخصية بكل فروعها واختصاصاتها، فكنت قاضيا لجلسة (الشرعى) فى محكمتى دسوق والقناطر الخيرية، ثم قاضيا فى محكمة القاهرة الإبتدائية للأحوال الشخصية، ثم رئيسا لمحكمة الإستئناف العليا للأحوال الشخصية (أجانب)، واعتاد الجمهور على رؤية قضاه مدنيين لا يرتدون الزى الأزهرى وهم يقضون فى منازعاتهم، فما شكوا ولا اعترضوا لأن ذلك مما يتصل بالنظام العام للدولة.
شرحت لهم كل ذلك فسكتوا ولم يعقـّبوا لياقة، لكن لم يبد عليهم أنهم اقتنعوا. ولعل ما حدث فى بريطانيا كان صدى لما يحدث فى الهند، فبريطانيا والهند يتبادلان التأثر والتأثير بصورة ملحوظة. وقد سمعت عن هذا الإتجاه (محاكم شريعة) فى الولايات المتحدة، ولكن بصورة خافتة، ولم يزل حتى اليوم مطلبا عاطفيا حادا لدى الكثيرين.

[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه