من مفكرة سفير عربي في اليابان
يتساءل علماء الدبلوماسية عن نوعية التطورات الدولية المتوقعة في العقود القادمة بعد حربي العراق وأفغانستان، وتوسع الاتحاد الأوربي، والتغيرات في روسيا، وبداء صعود الصين والهند والبرازيل. فمن الملاحظ بأن تكنولوجية الاتصالات والمواصلات وإعلام الانترنت وبعض أسلحة الميكروشبس البسيطة، قد حولت العالم لقرية كونية صغيرة وبعثرت قواها التقليدية وأضعفت حكوماتها. وقد يحتاج العرب لاستقراء التغيرات المستقبلية لميزان القوى العالمية للاستعداد للتعامل مع تحدياتها. والسؤال لعزيزي القارئ: ما هي التغيرات المتوقعة لعالم القطب الواحد الذي نعيشه اليوم؟ وكيف سيستعد العرب للتعامل مع تحدياته المستقبلية؟ وما هي نوعية الدبلوماسية التي سينتهجونها للمحافظة على مصالحهم واستقرارهم من خلال المشاركة المتناغمة في هذا العالم الجديد؟
لنتصفح عزيزي القارئ كتاب لصحفي مجلة النيوزويك فريد زكريا الأمريكي الجنسية وبعنوان، عالم ما بعد أمريكا، يقول فيه: quot;نعم إنها الحقيقة، فهناك انتعاش اقتصادي في الصين، ونمو حازم في روسيا، وإرهاب خطر محدق بنا، ولكن إذا فقدت أمريكا قدرتها على السيطرة على العالم الجديد، فإنها لم تفقد قدرتها على قيادته.quot; ويعقب الكاتب بأن الشعب الأمريكي يبدو في كآبة شديدة. فقد بينت الاستطلاعات بأن 81% منهم يعتقدون بأن بلدهم تتحرك في مسار خاطئ، ومن حقهم التشاؤم بعد فضيحة المؤسسات المالية وديون الإسكان، وارتفاع نسب البطالة والكساد الاقتصادي وهزيمة حرب العراق وخطورة الإرهاب. ويعتقد الكاتب بأن هذه الأعراض لا تكفي لتفسير بيئة التوعك الأمريكية المنتشرة، بل يؤكد بأن سببها أكثر عمقا، ويلخصها بالشعور العام بفقد الولايات المتحدة القيادة في مختلف مجالات الحياة، وبانتهاء جبروت قوتها العظمى الوحيدة. فيراقب الأمريكيون مستقبل العالم الجديد وهم خائفون بأن ينتقل لدول نائية وشعوب أجنبية. فأعلى ناطحة سحاب بنيت في تيوان وستنتقل لدبي، واكبر شركة عامة مركزها في بكين، وأضخم مصفاة نفط تشيد في الهند، واكبر طائرة صنعت في اوكرينا وروسيا، واغني صندوق استثماري مركزه في ابوظبي، وأغنى أثرياء العالم هم أجانب، واكبر كازينو في العالم موجود بماكو الصين. كما ستنتقل صناعة السينما لبوليود الهندية، ولم تعد أمريكا مفضلة لا في الرياضة ولا في التسوق. وقد تبدو هذه القائمة الطويلة مملة، ولكن في الحقيقة كانت تتصدر أمريكا جميع ما فيها في العقد المنصرم.
ويعتقد الكاتب بأن جميع هذه الظواهر تعكس واقع انتقال القوة والمواقف، فيقول: quot;وبينما ينشغل الأمريكيون بالتساؤل لماذا يكرهنا الآخرون، نجد الآخرين منشغلين في التقدم، ومتجهين للنصف المتحرك من العالم، ينتقلون من العالم المضاد للأمركة إلى العالم ما بعد الأمركة، بينما خسرت أمريكا صناعات رائدة، وتوقف شعبها عن الادخار، وأصبحت حكومتها مديونة للبنوك المركزية الأسيوية.quot; ويتحسر الكاتب لوضع بلاده حينما يلاحظ بأن الجامعات الصينية والهندية قد خرجت تسعمائة وخمسين ألف مهندس في عام 2004، بينما لم تخرج الجامعات الأمريكية إلا سبعين ألفا وليمثل الأجانب 50% من علماء أبحاثها ويحصلون على 40% من شهادات الدكتوراه. كما تحولت لندن لعاصمة المال، وانتقلت صناعة السيارات من ميشيغان لكندا بسبب ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.
ويتوقع الكاتب بأن تتآلف المجتمعات الأمريكية مع الواقع العالمي الجديد، ولكنه يتساءل عن إمكانية تفاعل قياداتها مع هذا العالم. ولكي تحافظ أمريكا على بقاء قيادتها عليها أن تتوقف عن التعالي على الدول الأخرى وتبدءا بالعمل بتناغم كشريك مستقبلي، ليؤدي ذلك لإحساس الصين والهند والبرازيل وروسيا بالطمأنينة، وسيعملون معها كشركاء لمواجهة التحديات القادمة من تلوث البيئة والتغيرات المناخية ونقص الغذاء والطاقة والتطرف الفكري وإرهاب العنف. وعليها الالتزام بقواعد اللعبة واحترام قوانينها، لكي تكسب الدول الأخرى وتعمل معها. فهي من عادتها أن تشرع القوانين وتفرض على الدول تنفيذها، بينما تتجنب هي الالتزام بها. كما أنها لا تعترف بالمعاير العالمية، فمثلا هناك ثلاث دول فقط لا تستخدم القياس المتري: ليبريا ومايانمار والولايات المتحدة.
ويعتقد الكاتب بأنه لم تستوعب الولايات المتحدة حتى الآن صعود الآخرين. فقد تخلص الملايين من البشر من الفقر وسيغيروا العالم حينما يصبحون مستهلكين ومنتجين ومبدعين ومخترعين ومفكرين وحالمين وفاعلين.، وكل ذلك بفضل الإبداعات الأمريكية التي دفعت دول العالم لتفتح أبوابها للسوق الحرة، وتحرر سياستها وتشريعاتها، لتستقبل التجارة والتكنولوجية الجديدة. وينهي الكاتب نقاشه بالقول: quot;فقد أقنع التجار والمفكرين الأمريكيين دول العالم بالا يخافوا من مشاركة الغرب في أسباب نجاحهم. وحينما انفتح العالم على مصراعيه لتنفيذ أفكارنا فقدنا نحن الثقة بها وانغلقنا على أنفسنا. وبعد أجيال قادمة، سيعلق المؤرخون بأننا قد نجحنا في عولمة العالم، ولكن نتمنى إلا يكتبوا وفي الطريق نسينا أن نعلم أنفسنا.quot;
لنتدارس عزيزي القارئ رأي أسيوي لاستقراء العالم الجديد من خلال كتاب بعنوان، نصف الكرة الأرضية الأسيوية الجديدة: انتقال قوة العالم للشرق وبدون مقاومة، للدبلوماسي السنغافوري السابق البروفيسور كيشور ماهبوباني. يقول الكاتب: quot;رفضت الولايات المتحدة أن تعترف بسيطرتها على العالم، كما استغنت عن مشاركة باقي دول العالم في إدارته. ورجعت آسيا من جديد لتستلم موقعها التي احتلته في معظم الألفيتين الماضيتين قبل أن ترفع الثورة الصناعية دول الغرب للمقدمة. فمنذ العام الأول للميلاد وحتى عام 1820 كانت الصين والهند اكبر اقتصادين في العالم، ولنعتبر القرنين الماضيين من السيطرة الغربية لتاريخ العالم هو استثناء للألفيتين الماضيتين، ولذلك تتوقع مؤسسة جولدمان ساك بأن تتحول في نصف هذا القرن ثلاثة من اكبر أربع اقتصاديات العالم لدول أسيوية: الصين والهند والولايات المتحدة واليابان.
ويتساءل الكاتب عن أسباب تقدم الغرب في القرنين الماضيين وتأخر الشرق. فيعتقد بأن أسباب تأخر الشرق هو الفهم الخاطئ للدين، وإهمال العالم الفيزيائي المادي، وضعف الإيمان بالتطور البشري، وفقد احترام السلطة، وإهمال التساؤل النقدي. ويمتدح الكاتب الغرب لدوره في تطوير الدول الأسيوية وذلك بنشره لاقتصاد السوق، وتعليمه لشعوبها التفكير الواقعي وعملية العطاء المجتمعي وثقافته، ونشره لمفاهيم السلام وأهمية القانون، وتأكيده على أهمية التعليم والإصرار في التطور العلمي والتكنولوجي. ويؤكد الكاتب بأهمية دور الولايات المتحدة في تطور عالم اليوم، ولكنه ينتقدها لعدم التزامها بالقوانين العالمية. كما يعتقد بان السيطرة الغربية على العالم قد انتهت. ويستغرب الكاتب من تصورات بعض مفكري الغرب بأن صعود أسيا سيترافق بهبوط الغرب، مع أنه من المتوقع أن تتغير الكثير من أنظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية، مما سيؤدي لفقدان الولايات لمتحدة السيطرة المطلقة عليها. ويحذر الكاتب من سؤ فهم تلك التطورات بأنها انتقال لسلطة الغرب إلى الشرق، بل يجب فهمها كتحول للمشاركة الجماعية بين دول العالم.
وقد علق الباحث الأكاديمي رتشارد هاس في مقال بعنوان، زمن تعدد القطبية، بمجلة الشؤون الخارجية الصادرة في شهر مايو الماضي، بالقول بأنه ستكون الميزة الرئيسية للعلاقات الدولية لهذا القرن هو عالم اللا أقطاب، والذي سيتميز بمراكز متعددة، تمتلك قوى نوعية فاعلة وتعمل بمشاركة متناغمة، ولكنها ليست قوى متسلطة. وستكون هذه القوى المتعددة شركات صناعية ومؤسسات مدنية ودول مختلفة. وستفقد الحكومات لاحتكارها للسلطة وتفوقها في بلورة العالم الجديد. كما ستواجه الدول تحديات فوقية من المؤسسات الإقليمية والعالمية، وتحديات سفلية من المليشيات والمنظمات المدنية الغير حكومية والشركات، لتتبعثر السلطة في أيد كثيرة وفي أماكن متعددة. وستبقى الولايات المتحدة اكبر تجمع لهذه القوى المبعثرة، لكون ميزانية دفاعها يزيد عن النصف تريليون دولار وإنتاجها الإجمالي المحلي يزيد عن الأربعة عشرة تريليون دولار، ولكونها اكبر مصدر للثقافة والإعلام والمعلومة والإبداع. ويجب إلا تخفي قوة أمريكا حقيقة انحدار موقعها العالمي والضعف النسبي لسلطتها مع الانحدار المطلق لتأثيرها واستقلاليتها. وسيحتاج العالم الجديد لدبلوماسية جديدة تتفهم وتستوعب وتستطيع التعامل مع هذه القوى المتعددة والمتباينة، وسيكون طريق اللاقطبية الجديد صعبا وخطيرا، ويحتاج لعمل مشترك لتحقيق التكامل والتناغم بين الدول، كما سيحتاج لمراكز إدارة محورية من الحكومات والمؤسسات الملتزمة بتعددية الشراكة المتناغمة.
وقد أكد الدبلوماسي الأمريكي المخضرم جورج كينان في مذكراته التي صدرت عام 1993 بضرورة توجه الولايات المتحدة لدبلوماسية جديدة تستوعب فيها بأن الديمقراطية لا يمكن أن تصدر أو تستورد، وبأن تلتزم بسلوك دولي يعكس عظمتها ووقارها وحكمتها وأهميتها، وبأن تكون صبورة وكريمة وعادلة في تعاملها مع الدول الصغيرة، وبأن تتصرف بعقلانية الثبات بمبادئها في تعاملها مع الدول الكبيرة، وباللطف والتواضع والكرامة في تواصلها مع حكوماتها. كما عليها ألا تتناسى مبادئها التي تؤكد بأن أعظم خدمة يمكن أن تقدمها أمريكا للعالم هو بأن تكون حضارتها الأمريكية مثلا للياقة الإنسانية والنجاح الاجتماعي، ليستفيد منها الآخرين بقدر ما تحقق لهم أهدافهم ومصالحهم.
تلاحظ عزيزي القارئ بأن التكنولوجية الحديثة بعثرت القوة والثقافة والمعلومة، لتنتهي أسطورة الدول العظمى، ولتبدأ الدول النامية ثورتها المعلوماتية والاقتصادية، وليتغير عالم القطب الواحد لشراكة دولية متناغمة خالية من أقطاب متسلطة. والسؤال: هل ستهيئ مجتمعاتنا العربية عقلية أجيالها المستقبلية للاستعداد لعالم اللاقطبية الجديد؟ وهل ستطور حكوماتها دبلوماسية موحدة للتعامل مع تحدياته المستقبلية؟
سفير مملكة البحرين في اليابان