حينما تزور عزيزي القارئ الكونجرس الأمريكي ستجد مقولة مشهورة معلقة تقول، quot;السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد مطلقا.quot; وقد نشأت فكرة البرلمان للوقاية من السلطة المطلقة ومنع الفساد المدمر المرافق لها. وقد أشتهر الجنس البشري حينما تنعدم التشريعات والمحاسبة الصارمة، ومنذ بداء الخليقة، بعدم الاستقامة، وتكرار الخطيئة، مع ما يرافقه من فساد ينخر التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وكم من دولة غنية بمواردها البشرية والطبيعية، انتهت بدمار الحروب الأهلية، بسب ديكتاتورية سلطاتها وفسادها الحكومي الكبير و الشعبي الصغير.
ومع بزوغ شمس الألفية الثالثة بدأت تنتشر ظاهرة البرلمانات في دول العالم، بعد أن نفضت ثياب حكوماتها غبار السيطرة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية، وتوجهت نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بعد انتشار تكنولوجية المعلومة والاتصالات، وظهور مجتمع العولمة الجديد. كما ضعفت سلطات الحكومات حينما استطاعت فئات شعبية صغيرة متناثرة أن تحول الجيوش الجبارة، لقوة مترهلة ومشلولة. وتطور العمل البرلماني ليأخذ صيغ جديدة يشارك فيها المواطن من خلال استفتاءات الانترنت الجماهيرية. كما ضعفت سلطة الشركات التجارية الكبيرة على الإعلام والتجارة والمعلومة، بعد أن تبادلت شعوب العالم الأخبار عبر قنوات الانترنت اليوتيوب الاعلامية، وطورت معلومة الوكيبيديا، وتعاملت مع تجارة الوكينومكس.
وليسمح لي القارئ العزيز أن أطرح مقولة قديمة quot;الوقاية خير من العلاجquot; كفلسفة جديدة للعمل البرلماني المستقبلي، والتي أثبتت نجاحها على مر العصور في عالم الطب. فمن اكبر التحديات التي تواجهه برلماناتنا اليوم هي تراكمات الماضي. فيتساءل البعض هل ستراجع البرلمانات نبش الماضي، وقذف الاتهامات الانتقامية يمينا ويسارا، لتخلق الخلاف، وتضعف جسور الثقة بين رجال الماضي وشباب المستقبل، وتشل العمل الحكومي الذي بني على مدى عقود طويلة، أم ستتجنب تضيع الوقت، وتتوجه لبناء المستقبل؟ وهل سيحتاج بناء المستقبل تشريعات مدروسة،لتكملة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لخلق النظام والانضباط، والوقاية من الفساد الحكومي الكبير والشعبي الصغير، وتهيئة البيئة الصالحة للمحاسبة البناءة الحكيمة البعيدة عن الحقد والانتقام؟ ولنتذكر بأن الطموحات الشعبية كبيرة والتطورات التكنولوجية صاروخية، والوقت كالسيف ان لم نقطعه قطعنا.
وتركز الفلسفة البرلمانية الوقاية خير من العلاج على التخطيط المستقبلي، وعدم ضياع الوقت في تراكمات واتهامات الماضي، والتي من الصعب تحديد مسئوليتها وأسبابها في ظل السيطرة الاستعمارية السابقة. وقد يتساءل البعض هل هناك ماض بدون أخطاء، وهل ممكن محاسبة الماضي بقوانين المستقبل وظروفه، وهل دراسة أخطاء الماضي بحكمة مهمة لبناء المستقبل؟ لذلك اهتمت حكومة جنوب أفريقيا بالصفح عن الماضي وتجنب أخطائه، ودراسته للعمل لبناء المستقبل. ومن فوائد هذه الفلسفة بأنها ستقلل من معارضي خطط الإصلاح، وتخلق جسور ثقة مع الفئات المختلفة من الشعب للاستفادة من خبراتها، كما ستحافظ على وحدة الشعب وتستفيد من الوقت لبناء المستقبل. ويتهم البعض التجارب البرلمانية الوليدة بأنها تحاول أرضاء منتخبيها بمعارضة الحكومة، وشل عملها باستجوابات إعلامية، بدل العمل معها كشريك في بناء المستقبل بوضع التشريعات اللازمة لمنع تكرر أخطاء الماضي، ومراقبة تنفيذها بعدالة وانضباط.
فلنتدارس عزيزي القارئ أولويات المواطن العربي وكيف تستطيع برلماناتنا العربية بتوجبه طاقاتها بحكمة لتوفير هذه الأولويات بالتعاون بين الحكومات والبرلمان والمواطنين. فمثلا قرأت بأن نسبة البدانة قد ارتفعت لأكثر من 60% بين الكهول في بعض الدول العربية. وقد تؤدي البدانة للإصابة بالسكري والضغط وجلطة القلب والشلل الدماغي، ويترافق كل ذلك بتكاليف علاجية كبيرة وقلة الإنتاجية. فما هو دور البرلمان في هذه المعضلة، هل سينام على مشكلة البدانة حتى تتزايد الأمراض المجتمعية، وتمتلئ المستشفيات بالمرضى، وتنهك ميزانية الصحة، ويبدأ المواطنين بالشكوى، لينتبه بعدها البرلمان، ويبدأ النواب بالصراخ في الأعلام، واتهام وزارة الصحة بالإهمال. أم من الأفضل إتباع فلسفة الوقاية خير من العلاج، فيتدارس البرلمان معضلة البدانة مع وزارة الصحة ويكتشف أسبابها ويضع التشريعات المناسبة للوقاية منها، ليحمي الشعب من الاختلاطات القاتلة.
ولنتدارس عزيزي القارئ معضلة الثقافة التي تستهلك الكثير من جهود برلماناتنا العربية. فكثير من وجهات النظر متباعدة بين الثقافة التقليدية والثقافة المعاصرة. والسؤال، هل يمثل النائب وجهة نظره الخاصة في البرلمان، أم هو يمثل التوجهات الشعبية؟ وهل يجب أن يتفرغ البرلمان لوضع التشريعات اللازمة لتنمية البلاد الاجتماعية والاقتصادية؟ وهل سنفصل القضايا الدينية والطائفية عن البرلمان، وتترك لرجال ديننا الأفاضل المختصين؟ أم سيفتي كل واحد منا في كل شيء ونخلط الحابل بالنابل، ونخبص الدين بالدنيا؟
كما أن تحديات التعليم في وطننا العربي معقدة والتساؤلات كثيرة. فكيف ممكن أن تركز برلمانات العربية على معضلات التعليم وتتدارس مع المختصين التشريعات اللازمة للوقاية من سلبياتها؟ وهل حان الوقت لخلق التوازن بين العلوم الطبيعية والروحية؟ وما هو تعريف العلوم الروحية؟ وكيف يجب أن تفرق أجيالنا القادمة بين فلسفة اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدى وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا؟ وما هو مفهوم أعقل وتوكل؟ وكيف ستضع هذه البرلمانات التشريعات اللازمة لنشئ أجيال يمكنها التعامل مع تطورات الألفية الثالثة؟
كما أن معضلات الإسكان الخاصة بشبابنا العربي معقدة أيضا، فهل نحتاج لخطة إسكانية مدروسة؟ وهل ستضع البرلمانات القوانين اللازمة للوقاية من التلاعب بالمال العام، والقوانين اللازمة لمجالس مناقصات نزيهة؟ فكما تلاحظ عزيزي القارئ بأن تحديات برلماناتنا العربية كبيرة، وتحتاج لتشريعات كثيرة للوقاية قبل العلاج لتستطيع مجتمعاتنا العربية التعامل مع تحديات العولمة، والاستفادة منها لتطوير أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية؟ والسؤال لعزيزي القارئ أليس هناك مسؤولية كبيرة أمام المواطن العربي أيضا؟ فهل من مسؤوليته اختيار أعضاء البرلمان من كفاءات نزيهة ذات خبرة وحكمة تستطيع التعامل مع تحديات الألفية الثالثة، ولتشارك في تحقيق طموحات شعوبنا العربية؟
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات