في سبعينات القرن الماضي أقر الأمن العام لمدينة عمان نظام السير في اتجاه واحد. أصبح السير، في العاصمة الأردنية، كله في حال طلوع. أوكله في حال نزول. زرت عمان في تلك الفترة، للمرة الأولى. أدهشتني التجربة. لم أتخيل أن يسير الناس كلهم في اتجاه واحد، فضلاً عن أن يسيروا بهذه السهولة والإنسيابية. خفت الزحمة في المدينة الجبلية، بشهادة ضباط الأمن العام. سألت عن سبب الفكرة. قيل لضيق الشوارع. أعجبني التبرير غير المنطقي.

في عام 1980 زرت عمان لتغطية مؤتمر القمة العربية، وكنت وقتها مراسلاً لوكالة "أسوشيتد برس" إضافة إلى عملي في مجلة "اليمامة" السعودية. وكالات الأنباء تحتاج إلى أخبار على مدار الساعة، لكن قمة عمان "ناشفة" من الأخبار. عقدت والعرب في حال خصومة شديدة. وحضرها نصفهم. قاطعها ما يسمى بـ“عرب الروس" ومعهم منظمة التحرير الفلسطينية، وحضرها ”عرب الأميركان". كان التنقل في العاصمة الأردنية صعباً. فالمدينة مازلت ترزح تحت نظام السير في اتجاه واحد. فزاد نظام السير الأردني الطين بلة. وعلى رأي المثل غير الشعبي "زود على شح الأخبار، الوأي فأي خربان"!

اجتمعت مع بعض الزملاء الصحافيين للتشاور، وإيجاد حل للخروج من مأزق شح الأخبار، الذي زاده نظام المرور الأردني بؤساً وعطشاً. بعد نقاش طويل اقترحت على الزملاء الاستعانة بالضب. نظر لي بعضهم بسخرية، كأنه يقول "إحنا نقصينك"، لم أترك إحباطهم الصحافي يتصاعد. اعتدلت في جلستي، وقلت لهم، تعرفون أن الضب حيوان سريع العدو. ولكن نحن لن نستخدمه في التنقل، بل سنستفيد من طريقة بعض السعوديين في إخراجه من جحره. افرضوا يا شباب أن القمة العربية صارت ضب، ونحن سنخرج هذا الضب من جحرة حتى نعرف أخباره، أقصد أخبارها. دبت الحماسة في شهية الزملاء لسماع حكاية صحافة الضب، وسألوا في شكل جماعي، كيف يصيد السعوديون الضب؟، قلت لهم بالإشاعة، وقبل أن أكمل كلامي وقف الزملاء في شكل جماعي وهم يرفعون أصواتهم احتجاجاً. قلت لهم، يا جماعة الخير، اصبروا قليلاً، أنا لا أمزح. اسمعوا بقية "السالفة"، ثم قرروا.

جلسوا. وهم في حال ارتياب، ويبحلقون في وجهي، انتظاراً لبقية القصة التي لا تبشر بدايتها بجملة إخبارية مفيدة. قلت لهم، في البداية، لابد أن تعرفوا أن عمق جحر الضب يصل إلى قرابة 4 أمتار. بعض الجحور فيها عطفه لجهة اليسار، تليها وسعه، تشبه قاعة المؤتمر. وبعضها الآخر فيه انعطاف الى اليمين، مثل القمة التي نحن نخطط لصيد أخبارها. جحر الضب له فتحة واحدة، مثل نظام السير في الأردن. لكن محاولة مد اليد في جحرة للإمساك به، تحفه مخاطر، فعادة تشاركه العقرب السوداء الجحر. لهذا يضع السعوديون "شكمان"، عادم، السيارة في فتحة بيت الضب، ويضخون دخان العادم داخل الجحر المغلق. فتموت العقرب، ويخرج الضب خاملاً يهذي، كأنه مسطول.

تحمس الزملاء. اشرأبت أعناقهم. أخذوا رشفة من فناجينهم. وكأنهم يسألون، من أين لنا بـ"شكمان" بحجم قاعة المؤتمر. أدركت حيرتهم السوريالية. قلت لهم مطمئناً، نحن لن نصيد الأخبار بـ"الشكمان"، بل بالإشاعات. فهذه الأخيرة تأثيرها يشبه الشكمان، تحدث حالاً من الهيجان في المجتمع. تجعل الناس تهذي، وهذا ما نريده من هذه القمة الناشف لسانها. نريدها ان تهذي، أو "تهرتل"، المهم ان تنفك عقدة لسانها.

تقمصت دور أحمد سعيد، وأضفت بكل ثقة، خطتنا يا شباب هي البدء في إطلاق إشاعات نروجها في أروقة المؤتمر. إن صمت الناطق الرسمي باسم القمة، صارت الإشاعة خبراً. أو سيتم نفيه بخبر "لنق". صفق الزملاء للاقتراح الحقير. وصاروا يهتفون بحياة الضباب كلها. وقبل أن ينفض اجتماعنا التاريخي، سرت إشاعة ان ياسر عرفات سيحضر قمة عمان. وخلال دقائق كانت الضبان تملأ فضاء قمة عمان التي حضرها عرب الأمريكان!