شَكَّل أمْنُ إسرائيل وتفوقها على محيطها في الشرق الأوسط أولوية فوق كل اعتبار بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية.
بعد غزة، والخرق الأمني غير المسبوق، وبناءً على صيرورة ما حدث وكِلفته، تجدُ واشنطن نفسها أمام إعادة "هندسة" هذا الأمن، دون ترك ثغرات اتّضح أنها نتيجةٌ لتراكم ٍقدراتيّ للخصم، ولّده تقاص المصالح.
لقد تبيّن أن هناك تهديداً وجودياً تراكمياً متسارعاً يطوّق إسرائيل، فلا يمكن لأميركا أو إسرائيل أن تعيد إنتاج مفاصل ضعف أوتيت منها بغزة، أو تسمح بعودة عقيدة استئصالية غذّتها هوامش مصالح أميركية مع "منظومة تخادمية"، هي ذاتها رعت وهندست اكبر خرق واجهته إسرائيل منذ عقود. ومن هنا، نرى أن إسرائيل وأميركا ذاهبتان الى تفكيك متدرج لأذرع ورأس هذه المنظومة تباعاً.
لم تأتِ الحشود الأميركية إلى المنطقة للتدخل بمسار عمليات غزة إقليمياً، بل للردع فقط؛ لأن مصالح أميركا تتحقق بإعادة الهيمنة الاسرائيلية مضاعفةً بالأمن الاستباقي الردعي، لا بفتح تقاص جديد تحت أي قيود ظرفية، حتى ولو كانت تلك القيود اكثر تشدداً؛ فإخضاع إيران لهامش تفاوضي، من دون تحجيم قدرات الأذرع هو تهديد تراكمي لأمن وجودي لإسرائيل، لم يعد ممكنا التغاضي عنه تحت اي مبرّر.
البدهي، وبناءً على الإطروحة أعلاه، من عقابيل غزة وبالحد الأدنى، سيتم وضع قواعد اكثر تشددًا على رأس المنظومة الوظيفية التخادمية، أقلّه رقابة دولية على مشروع الملالي تنتهي بتفكيكه، وفي حدّه الأعلى ستقتلع أنيابه. وبالتالي، في الحالتين، تفكيك قدرات المنظومة بوسائل مختلفة الشدة، تدخل فيها: عمليات عسكرية نوعية، وعقوبات دولية مديدة، وتجفيف خطوط دعم لوجستي، واغتيالات كبيرة نوعية، وإخراج الايرانيين من سوريا، ودعم خط سنّي معتدل بالعراق، وتدمير قدرات الحوثي الصاروخية، ودعم سيطرة الدولة اللبنانية، ووضع الحوثي وحزب الله على لوائح ارهاب دولية، وعزل نظام الأسد، وتشديد العقوبات عليه وتحريك ملفاته الجرمية، ... وتشديد العقوبات على روسيا بصفتها داعم للمنظومة.
كل ذلك سيصطدم حُكماً بطبيعة منظومة الملالي واجنداتها، التي تستثمر في تحريك الأذرع والتهديد عن بعد، للتمكّن من إبرام تقاصٍ وصفقات.
هذا، إن حَدَث، ستكون المنظومة في وضع صعب جداً ... بل حتى عدَمي. فما الذي ستقدّمه إيران، لو فرضنا عُرِضَ عليها، او سِيقت الى هامش تفاوضي مع اميركا؟
هل تسحب قدرات حزب الله العسكرية وتخسر حليفها اللبناني، او تضعفه محلياً؟
هل تفكّك قدرات الحوثي؟
هل تقبل إسرائيل فقط بصفقة ايرانية-اميركية تضمن التزام إيران وأذرعها بمصالح وقواعد المكان، وهي منزوعة الأنياب؟
وكيف تتعامل مع تراكم قدراتي مطّرد متسارع للأذرع؟
المعضلة الكبرى تكمن بأن "المنظومة التخادمية" لا تقبل بأن تبقى منزوعة القدرات مجاناً، ولا إسرائيل تقبل تراكماً قدراتياً كارثياً.
تدرك إيران أن الحشود ليست اقوى رسالة لها الآن، إنما الرسالة ما ستقرّره إسرائيل تجاهها بعد غزة. وإذا ما سارعت إيران إلى أي تجديد للتعاقد، وبأي شروط؛ ستكون في اضعف معادلة استراتيجية وتكتيكية، تفرض معادلها السياسي والاقتصادي على كل مصالحها.
تجاه اهتزاز الأمن الوجودي الإسرائيلي، ماذا يمكن أن تقدّم إيران لأميركا وإسرائيل؟ وعلى حساب أيٍ مِن الأذرع ... بعدما باعت حماس بالرخيص؟
هنا يبقى السؤال الأهم: في حال تم عودة إيران من خلال سياق تفاوضي، وتقديمها تعهّدات بان الأذرع ستلتزم والقدرات التراكمية ستتوقف؛ من يضمن أن إيران نفسها في - حسابات وتقاطع مصالح جديد - لن تعيد توظيفها وتخرق القواعد الجديدة؟
لقد اتضحت العاقبة لما يسمى "حلف المقاومة". وأيقن هذا الحلف أن وضعه العدمي التنصّلي سيسوء أكثر، فقرّر الاندفاع إلى الامام، والدفع بالذراع الحوثي المنفلت والأقل تكلفة، وهذا رغم بعده وقلة تماسكه، كي يسجّل بعض النقاط.
صحيح أن حزب الله كان مرشحاً قوياً للعب هذا الدور، إلا أن وضعه الهش بسبب العجز عن تحمّل الكلفة الداخلية لانخراطه، حال دون ذلك.
حتى الآن، نظام الأسد هو أقل الأهداف أهمية نظرًا لتاريخه التخادمي، وطبيعته، وهشاشة وضعه أصلاً، وكذلك نظرًا لما أبداه من موقف على مسافة آمنة من أحداث غزة. وبالتالي، بين كل الأذرع، وضْع نظام الأسد تحديداً هو الأكثر سوءاً، وسيسوء أكثر. وهو يعرف أنه بلغ حدًا عدميًا مرفقاً بمذكرة اعتقال فرنسية، تسحب عنه كل شرعية سياسية خارجية تجاه التطبيع أو إعادة التكرير. هذا، و لم نتحدث عن أي نيّة استئصال او تغيير، او الإجبار على إخراج الإيراني من سوريا، ولا عن ضربات محتملة أكثر حدةً بذريعة الوجود الإيراني.
ليس الملالي بساذجين؛ ولا الأسد كما وصفه "ترامب". إذ أن الحرب قد تطول، وربما يراهنون على تصدّع دولي من نوع معين، يدعم "حل الدولتين"، علمًا ان لا حل الدولتين ولا القضية الفلسطينية تعنيهم. بل ما يعنيهم حصراً هو البقاء على ندّية تفاوضية أفضل من الحالة العدمية أو ما تحت العدمية الذاهبين إليها، وبغية جدوى تعاقدية تخادمية وظيفية لاحقًا.
أخيراً، حتى ولو وصلت الأمور إلى المشروع النووي، والذي من خلاله تبتز إيران محيطها وتنشر أذرعها. هذا لا يهدد اصلاً مصالح أميركا والغرب أو أمن إسرائيل. فهي حتى لو امتلكت هذا السلاح، فإنها لن تتحمّل جدواه، ولن يُسمَح لها بأن تكون طرفاً في توازن ردع نووي، وفرض إملاءات. وللتذكير، كوريا الشمالية النووية لا تزال تحت عقوبات، واقتصاد متعثر، وعزلة دولية. ايضاً، القوة النووية للهند وباكستان لم تحلّ الإشكالات الحدودية بينهما.
تمنياتنا بموت "رحيم" لمشروع الملالي.
التعليقات