ليست الكلمة مجرد صوتٍ يُقال، بل موقفٌ يُعبّر عن فكرٍ ومسؤوليةٍ وضمير. وحين تفقد الكلمة وعيها، تفقد معناها، وتتحوّل من رسالةٍ تنير إلى شرارةٍ تُثير، ومن أداة بناءٍ إلى معول هدم.

في زمنٍ تضجّ فيه المنصّات وتتنافس فيه الأصوات، بات الوعي في القول عملةً نادرة. تراجعت الحكمة أمام بريق التفاعل، وغاب الاتزان تحت ضغط اللحظة، وأصبح كثيرون يكتبون ليُسمَعوا لا ليُفهَموا. وهنا، تبدأ رحلة الانحدار حين تُقال الكلمة دون إدراكٍ لعواقبها.

الكلمة الواعية لا تُغذّي الخلاف، بل تُهذّب الحوار. لا تُشعل الفتنة، بل تُطفئها. هي وعيٌ يزن المعنى قبل النشر، ويضع المصلحة العامة قبل الرغبة في الظهور. فليست البطولة أن تقول ما يُثير، بل أن تقول ما يُنير.

إنّ من أخطر ما يواجه مجتمعاتنا اليوم أن تتحوّل المنابر إلى ساحة انفعالٍ لا تفكير، وأن يُستبدل النقد بالبذاءة، والجرأة بالتهوّر، والرأي بالضجيج. فحينها تفقد الكلمة وعيها، ويضيع أثرها، ويتبدّد احترامها.

لقد علّمنا التاريخ أن الكلمة الصادقة تبقى، وأن الوعي في الخطاب يصنع المجد، وأن الأمم التي تحترم لغتها وخطابها تحمي نفسها من التشتّت والفتن. فوعي الكلمة ليس ترفًا بل ضرورة، ومسؤولية كل من حمل القلم أو المايكروفون أو الحساب.

فلتكن الكلمة وعيًا لا ضجيجًا، رسالةً لا وسيلة، وبصيرةً لا مجرد رأي عابر. لأن ما يُقال بتهوّرٍ قد يُنسى صداه، لكن أثره يبقى طويلًا في الذاكرة والوجدان.