في الدوحة، حيث تتقاطع حداثة المدن مع دفء الشرق، وحيث تقف الملاعب الشاهقة كتحفٍ معمارية تحرس الحلم الرياضي العربي، عاشت الجماهير بطولة كأس العرب في صورة تكاد تجمع بين الخيال والواقع. ملاعب لا تقل بهاءً عن ملاعب العالم الكبرى، بُنيت بكرم دولة أرادت أن تُشيّد مساحة للفرح، وأن تُعلن أنّ الرياضة لغة تتجاوز الحدود. وقد أثبتت قطر، مرة بعد أخرى، أنها قادرة على أن تكون عاصمة للحدث العالمي؛ بدءاً من كأس العالم 2022، مروراً ببطولات القارات والعرب، ووصولاً إلى احتضان منافسات الناشئين وكبرى المباريات الدولية.
إنه إنجاز عمراني ورياضي يُحسب لها، ويقف شامخاً كوثيقة تؤكد أن الإرادة قادرة على صنع المستحيل.
غير أنّ السؤال الذي يرافق هذا المشهد الباذخ هو: هل جاءت المنتخبات العربية بما يليق بهذه المسارح الكروية المهيبة؟
للأسف، بدا المشهد الفني أقل كثيراً من حجم المكان. فكثير من المنتخبات المشاركة لم تُظهر ما يُشعر المتابع بأنها جديرة بالتصفيق، ولا حتى بالوصول إلى الأدوار التي بلغتها. بدا وكأنها حضرت جسداً فحسب، بينما غابت الروح، وغاب الشغف، وغاب ذلك الإحساس الذي يجعل كرة القدم أكثر من مجرد لعبة.
كنا نأمل أن نشهد "كرة عربية جديدة"، كرة تنبض بملمس فني، وتُجسّد تطوراً طال انتظاره، وأن نتلمّس فيها خطوة إلى الأمام بعد سنوات من التطلع. لكن ما ظهر على العشب كان على الأغلب محاولات بدائية، تعتمد على القوة لا الفكرة، وعلى الركض لا الرؤية، وعلى ركل الكرة لا على صياغة جملة كروية تشبه فنّ اللعبة.
بعض المنتخبات قدّمت حضوراً مقبولاً، لكن الأغلبية لم تستطع أن تتجاوز الحد الأدنى من الأداء؛ وكأنها ما زالت خارج بوابة كرة القدم الحديثة، تتلمّس طريقها بحذر وارتباك.
وبقيت المستويات الفنيّة تدور في فلك "المتوسط الناقص"، دون أن نشاهد لمحات تُدهش الجماهير أو تجعلها تشعر بأن مستقبل الكرة العربية يُكتب أمامها. لم نرَ تلك اللحظة التي تخطف الأنفاس، ولا تلك الجملة الفنية التي تثير الدهشة، ولا ذلك الانسجام الذي يُشعر المشاهد بأن الفريق يلعب من قلبه قبل قدمه.
كان كل شيء يحدث كواجبٍ يُؤدَّى، لا كتجربة تحرّض الخيال أو تستفز الشغف.
فالكرة العربية ـ رغم الأموال الطائلة التي تُصرف في بعض الدول ورغم المنشآت التي تكبر عاماً بعد عام ـ ما تزال بحاجة إلى "روح". إلى رؤية تُعيد بناء الإنسان الرياضي قبل الهياكل. بحاجة إلى منظومة تُربّي لاعباً يفكّر، يُبدع، ويؤمن بأن اللعب ليس عراكاً مع الكرة بل حوارٌ معها.
وما تزال بحاجة إلى مشروع طويل النفس، يزرع في الأجيال القادمة معنى الانتماء إلى لعبة تتطلب الذكاء قبل القوة، والإيمان قبل الركض.
وحتى ذلك الحين، سيظلّ المشهد العربي كروياً متذبذباً: بنية تحتية مذهلة، لكن أداءً هشاً؛ ملاعبُ تُناطح العالمية، لكن كرةً لا تزال تبحث عن هويتها.
لقد قدّمت قطر المسرح بأرقى صورة، لكن الممثلين لم يكونوا بعدُ على مستوى خشبة العرض.
والأمل باقٍ… أن يأتي يومٌ تتناغم فيه عظمة المكان مع جمال الأداء، وأن نجد في ملاعب العرب كرة تشبه أحلامنا لا واقعنا المتواضع.






















التعليقات