في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه المصالح وتكثر فيه أدوات الصراع، برزت الحركات الإرهابية كواحدة من أخطر الظواهر التي تهدد الأمن الإنساني والسلم المجتمعي والتعايش بين الشعوب والأديان. فقد استطاعت هذه الحركات، عبر استخدام العنف المادي والفكري، أن تنفذ إلى أكثر المساحات حساسية في الوعي الإنساني، وهي مساحة الدين. فالدين بطبيعته قوّة روحية عميقة تؤثر في المشاعر والسلوك وتشكّل الهوية، ولذلك فإن العبث به أو توظيفه في اتجاهات منحرفة يصبح سلاحاً بالغ الخطورة. وعلى مر العقود الأخيرة، اتخذت الحركات الإرهابية من الدين غطاءً ومن الطائفية وقوداً ومن صدام الأديان سبيلاً لتمزيق المجتمعات وتعميق الهوّة بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، من خلال بثّ خطاب الكراهية وتزوير الحقائق وتحريف النصوص الدينية لخدمة أهداف سياسية أو أيديولوجية لا تمتّ لجوهر الأديان بصلة.

تستغل الحركات الإرهابية هشاشة الوعي الديني وضعف الثقافة لدى بعض الأفراد، فتقدّم نفسها باعتبارها المدافع عن الدين وتطرح أفكارها المغلوطة على أنها التفسير الوحيد الصحيح للنصوص. ومن هنا تبدأ بذور الفتنة في التشكّل، حيث يتم تقديم الآخر المخالف دينياً أو مذهبياً باعتباره عدواً وجودياً، ويتم خلق حالة من القطيعة الروحية والإنسانية بين أتباع الديانات. وفي كثير من الأحيان لا تتردد الجماعات المتطرفة في صناعة الأكاذيب ونشر الشائعات التي تحرّف صورة أديان كاملة أو تشوّه رموزها من أجل إشعال الكراهية المتبادلة. ولعل ما شهدته بعض الدول من صراعات دامية تحت شعارات دينية خير مثال على قدرة تلك الحركات على تحويل الاختلاف الإنساني الطبيعي إلى عداء دموي.

لقد كانت الأديان السماوية في أصلها دعوةً إلى السلام والتسامح واحترام حياة الإنسان، بل إن كثيراً من النصوص الدينية في الإسلام والمسيحية واليهودية تؤكد على قيم الرحمة والعدل والمحبة. غير أنّ الحركات الإرهابية لا تتردد في اقتطاع نصوص من سياقها أو تأويلها تأويلاً مغرضاً يعزّز أفكارها العدوانية، فتتبدل الرسالة من رسالة محبة إلى دعوة للعنف، ومن قيم التعارف بين الشعوب إلى مبرّرات للحرب والصراع. وبذلك تصبح النصوص الدينية مادّة خاماً لإنتاج خطاب متطرف منقطع الصلة بغاياتها الأصلية. وقد أدى ذلك إلى تشويه صورة الدين نفسه أمام شعوب العالم، خاصة عند من لا يعرفون حقيقة هذه الرسالات، فباتت ممارسات الإرهابيين هي المعبر زوراً عن الدين في نظر الكثيرين.

تستفيد الحركات الإرهابية كذلك من ضعف التواصل بين المؤسسات الدينية الرسمية في العالم وضعف الحوار بين أتباع الأديان. فغياب الحوار الحقيقي يمهّد لتصديق الأكاذيب، ويجعل الجمهور العام فريسة سهلة للدعاية المتطرفة. وعندما تنعدم جسور التواصل يزداد الخوف من الآخر وتتعزز الصور النمطية عنه، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام الإرهابيين الذين يعملون على تكريس هذا الخوف وتحويله إلى عداء. وتاريخياً، كلما انقطعت خطوط الحوار بين الأديان، اشتعلت الفتن وظهرت النزاعات الطائفية وتحولت المجتمعات إلى ساحات مواجهات عبثية.

الإعلام أيضاً له دور مزدوج في هذا السياق، إذ يمكن أن يكون أداة لبناء الوعي ونشر قيم التسامح، وفي الوقت نفسه قد يصبح وسيلة خطرة بيد المتطرفين لبثّ رسائلهم. فمن خلال المواقع الإلكترونية وقنوات التواصل الاجتماعي تقوم الحركات الإرهابية بتصميم خطاب جذّاب يستغل مشاعر الغضب والظلم والإحباط لدى بعض الفئات الشبابية، وتروّج لفكرة أن الحل الوحيد هو حمل السلاح أو محاربة من يختلفون معهم دينياً. ويؤدي الانتشار السريع لهذا الخطاب إلى تعميم الفتن وتصعيد التوتر بين أتباع الديانات، خصوصاً في المجتمعات التي تعاني من مشكلات اقتصادية أو اجتماعية تجعلها أكثر عرضة للتأثر بالدعاية المتطرفة.

ولم يتوقف أثر الحركات الإرهابية عند حدود التلاعب بالنصوص الدينية أو تخريب العلاقات بين الأديان، بل امتد إلى استهداف دور العبادة وإثارة الرعب في الأماكن المقدسة، ما يترك جروحاً عميقة في قلوب المؤمنين ويخلق شعوراً بأن الدين ذاته أصبح ساحة للصراع. وقد شهد العالم أحداثاً مؤلمة استهدفت مساجد وكنائس ومعابد، وكان الهدف منها خلق ردود فعل غاضبة من أتباع الدين المعتدى عليه ودفعهم إلى الانتقام، وبالتالي تكريس دائرة لا تنتهي من العنف الطائفي. فالإرهابيون يدركون أن استهداف المقدسات أكثر الطرق فعالية في إذكاء الفتنة، لأنه يضرب أعمق المشاعر الإنسانية لدى المؤمنين.

الأمر الأخطر أن الحركات الإرهابية تعمل أيضاً على نشر فكرة أن الصراع بين الأديان أمر حتمي وأن التعايش مستحيل. وهي بذلك تقوّض جهود عقود طويلة من العمل المشترك بين المفكرين ورجال الدين الذين حاولوا تأكيد أن القيم المشتركة بين الأديان أكبر بكثير من الخلافات. وتعمل هذه الحركات على مضاعفة الصور المشوهة التي يحملها كل دين عن الآخر، فتنشر في المجتمعات المسيحية خطاباً يصور الإسلام كدين عنف، وفي المجتمعات الإسلامية خطاباً يصور المسيحية أو اليهودية كأديان تتآمر على المسلمين. وفي كل الحالات، تكون الحقيقة غائبة بشكل كامل خلف طبقات كثيفة من الدعاية الكاذبة.

ومع ذلك، فإن مواجهة الحركات الإرهابية ودورها في إثارة الفتن بين الأديان ليست مهمة مستحيلة، بل إنها تبدأ بالخطوة الأساسية وهي تعزيز الوعي الديني الصحيح القائم على فهم النصوص في سياقها التاريخي واللغوي والروحي. فالتعليم الديني السليم يمنح الفرد القدرة على التمييز بين خطاب العلماء وخطاب المتطرفين، ويجعله يدرك أن الدين لا يمكن أن يكون أداة للقتل أو الإقصاء. كما أن دور المؤسسات الدينية مهم للغاية، فهي الجهة القادرة على تصحيح المفاهيم المغلوطة وإصدار الفتاوى التي تحارب التطرف، إضافة إلى تعزيز ثقافة الحوار بين الأديان وإظهار نقاط الالتقاء التي تجمع البشر في إنسانيتهم قبل أي شيء آخر.

وتأتي مسؤولية الإعلام الحديث لتكمل هذه الجهود، إذ يجب أن يتحول إلى منصة لمحاربة خطاب الكراهية وكشف أساليب التضليل التي تعتمد عليها الحركات الإرهابية. كما أن من المهم تقديم نماذج حقيقية للتعايش الناجح بين أتباع الديانات، لأن الصورة الإيجابية تملك قوة كبيرة في تعديل التصورات، ولأن المجتمع بحاجة إلى رؤية أمثلة واقعية تعزز الثقة بأن السلام ممكن وأن الاختلاف لا يعني العداء.

وتحمل الحكومات أيضاً مسؤولية ضخمة، فغياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفساد والفقر والبطالة يوفر بيئة خصبة لنمو التطرف. ومكافحة الإرهاب لا تكون أمنية فقط، بل يجب أن تشمل معالجة الأسباب الجذرية التي تجعل بعض الأفراد يلجؤون إلى الفكر المتطرف. فالمجتمعات التي تشعر بالإنصاف والكرامة تقل فيها قابلية الانجرار وراء دعايات الإرهابيين.

على المستوى الدولي، لا بد من تعاون أوسع بين الدول والمؤسسات الدينية والمنظمات الإنسانية لتطوير برامج مشتركة تعزز ثقافة التسامح وتواجه التطرف الفكري. فالعالم اليوم مترابط بشكل يجعل أي فتنة دينية قادرة على الانتقال بسرعة عبر الحدود. ولذلك فإن حماية التعايش الديني أصبحت مسؤولية عالمية لا يمكن لأي دولة أن تتنصل منها.

لذا، فإن الحركات الإرهابية ليست سوى ظاهرة عابرة مهما امتلكت من أدوات العنف، لأن ما تُبنى عليه من فكر هو فكر هش قائم على الكراهية ولا يستطيع الصمود أمام قيم الأديان السماوية التي تدعو إلى الرحمة والمحبة والسلام. ويبقى على المجتمعات أن تدرك أن الفتن لا تنشأ من اختلاف العقائد بقدر ما تنشأ من سوء استغلال هذه العقائد. وعندما تتكاتف الجهود لتجفيف منابع الإرهاب الفكري والمالي والإعلامي، وعندما تتعزز ثقافة الحوار والإخاء الإنساني، يمكن للبشرية أن تتجاوز هذا الخطر وأن تعيد للدين دوره الحقيقي كجسر للتواصل الروحي بين الإنسان وربه وبين الإنسان وأخيه الإنسان.

بهذا الفهم يمكن القول إن الحركات الإرهابية ليست إلا عارضاً لمرض أعمق يتمثل في الجهل والتعصب، وأن العلاج يبدأ من إحياء القيم الأصيلة للأديان السماوية التي تؤكد أن البشر جميعاً خُلقوا للتعارف لا للتناحر، وأن اختلافهم آية من آيات الخالق، وأن الفتن التي يشعلها المتطرفون ستنطفئ حين يعود الدين إلى مكانه الطبيعي في نفوس الناس، مصدراً للنور والرحمة لا وقوداً للصراع والدمار.