في لقاءات مع الدكتور علي عسيري على مدى سنوات عمله سفيرًا للمملكة العربية السعودية لدى لبنان، كنت ألمس في ما يقوله مدى حرصه على تحقيق الألفة بين الأطياف السياسية بتنوع توجهاتها، والتي كانت تلمس في حديثه مدى هذا التعاطف من جانبه مع الحالات المستعصية الانفراج، بغرض تخفيف حدتها.
قد تكون المهمة الموكولة إليه هي الدافع لذلك، لكن تجربته سفيرًا للمملكة العربية السعودية لدى باكستان، التي من أبرز معالم عاصمتها "مسجد الملك فيصل" الذي بدأ العمل في تشييده عام 1976 واستغرق عشرة أعوام، أفادت في اكتساب خبرة في التعاطي مع الحالة اللبنانية، الكثيرة الشبه بالحالة الباكستانية، سواء على صعيد الصراعات الحزبية أو العبارات التي يطلقها رموز الأحزاب، والتي أحيانًا، كما الحال في لبنان، تبدو كمن يُلقي المزيد من الحطب على نار مشتعلة، فيما المطلوب إطفاء هذه النار بالحسنى، والتفاهم بعد التفهم، وتقديم مصلحة الوطن على المصالح الذاتية.

مناسبة هذا الحديث عن الدكتور علي عوّاض عسيري، أنه دوّن بعض ذكرياته عن سنواته الباكستانية الثماني، من 2001 إلى 2009، سفيرًا لدى الدولة التي تعاقب على رئاستها، بدءًا من 14 آب (أغسطس) 1947، نوابزاده لياقت علي خان، وخلفه بعد اغتياله خواجة ناظم الدين، ثم محمد علي بوكره، وبعده جوبدري محمد علي، ثم حسين شبيد سبروردي، تلاه فيروز خان نون، ثم نور الأمين، لتبدأ مع ذو الفقار علي بوتو حقبة رئاسية عاصفة، وجاء بعده محمد خان جنيجو، ثم استعادت بنظير بوتو مجد والدها في فترتين رئاسيتين.

بعد ذلك دخل عالم الرئاسة محمد نواز شريف، الذي ربطته أواصر صداقة بالسفير علي عسيري. وبعد رئاسته الحكومة ثلاث مرات، تبوّأت المنصب وجوه جديدة: مير ظفر الله خان جمالي، ثم جوبدري شجاعت حسين، ثم سيد يوسف رضا كيلاني، تلاه راجا برويز مشرف، ثم شابد خاقان عباسي، وبعده لاعب الكريكت الدولي عمران خان، إلى أن تسلّم الرئيس ميان محمد شهباز شريف الحكم، حيث أبرم مع الأمير محمد بن سلمان المعاهدة الدفاعية الأقوى.

يبدأ الدكتور عسيري بالإشارة إلى أهمية الجذور الإسلامية بين الدولتين، ما يُحيط القارئ بخصوصية العلاقة، من خلال السطور الآتية:

"المملكة العربية السعودية مهد الإسلام، وجمهورية باكستان الإسلامية وُلدت باسم الإسلام. مثّلت هذه الرابطة الدينية المشتركة سمة ثابتة للعلاقة الوثيقة بين البلدين وشعبيهما منذ نشأة باكستان عام 1947. ولكن تعود هذه العلاقة إلى ما قبل ظهور الإسلام في القرن السابع، حين بدأت العلاقة عن طريق التجارة البحرية بين شبه الجزيرة العربية والساحل الغربي لشبه القارة الهندية، حيث كانت موانئ مثل عدن وغوجارات ومنطقة كونكان نقاط اتصال محورية تربط التجار العرب والهنود، وانجذب التجار العرب خاصة إلى التوابل الهندية. وإلى جانب المعاملات الاقتصادية، سهّلت هذه العلاقات التجارية التبادلات الثقافية، التي شملت الأفكار واللغات. ومع توسّع طرق التجارة على طول طريق الحرير القديم، كان للتجار العرب دور رئيس في ربط المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط، وتشكيل المشهد الثقافي والاقتصادي لشبه الجزيرة العربية..."

ويُثري الدكتور عسيري كتابه، إلى جانب المعلومات الواردة، بجوهر العلاقة السعودية – الباكستانية، مستندًا إلى مصادر دوّنها من منطلق التنويه بمرجعيات وثّقت المزيد حول هذه العلاقة، التي تُعد من الأكثر استقرارًا في العالم العربي – الإسلامي.

كما تناول ظروف إنشاء "مؤتمر القمة الإسلامي الأول"، الذي عُقد في مغرب الحسن الثاني بمشاركة 25 دولة، وهو ما نشأت عنه "منظمة المؤتمر الإسلامي"، تلك الفكرة التي اقترحها الملك فيصل بن عبدالعزيز بهدف لمّ الشمل الإسلامي، وكانت باكستان "من أشد المؤيدين لها".

لكن، كما في كل علاقة بين دولتين صديقتين، هناك ظروف طارئة تعكس تباعدًا في الرؤية، وقد حدث ذلك على خلفية "تصدّع العلاقة بين المملكة (في عهد الملك سعود) ومصر عام 1964"، حيث اتخذ كل منهما موقفًا مختلفًا إزاء الحرب الأهلية اليمنية، "لكن الأمور عادت إلى مجاريها عندما زار الرئيس الباكستاني محمد أيوب خان المملكة، وحُظي بترحيب حار من الملك سعود، وكانت مرحلة واعدة من التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين".

وتبرز محطة بالغة الأهمية حين بات ملف النزاع الباكستاني – الهندي ضمن أولويات الأزمات العالقة، التي يتابعها وليّ العهد، رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، ومن بينها أزمة الصديق الباكستاني العريق، الأقرب رعاية من جانب المملكة، والصديق المستحدث: الهند، التي باتت تحظى بمكانة متميزة في جدول اهتمامات المملكة.
وقد أفاد هذا الموقف في أن المملكة، في كل جولة نزاع حدودي بين باكستان والهند، تعمل على الإطفاء السريع لنيران النزاع، بأمل وضع الوفاق موضع التنفيذ، بما يُسهم في إزالة الاحتقان في نفوس الجارين الآسيويين، ذلك أن حرص المملكة على العلاقة المستقرة مع الهند، واعتبار باكستان صديقة وحليفة وحاضرة في المجتمع السعودي، يوجب بذل ما هو أكثر من المساعي الحميدة لكل من الجانبين، عندما يتفجر الغضب فجأة، ويعلو صوت المدفع على صوت التبصّر ومراعاة الصلات مع المملكة.

في كل صفحة من كتاب الدكتور علي عسيري، الذي يشكّل أحد المراجع الموضوعية لكتابة أطروحات جامعية، ما يُفيد في الوقوف على العلاقة النوعية بين المملكة العربية السعودية وباكستان.
يعالج المؤلف هذه العلاقة في ضوء تجربة دبلوماسية ثرية له خلال سنوات إقامته في باكستان، حيث أضاف إلى واجبه الدبلوماسي الاطلاع على طبيعة المجتمع السياسي، إلى درجة أن كثيرين من قيادات المجتمع الحزبي كانوا ينشدون منه حلولًا لأزمات مستعصية.

ومن شمائل الدكتور علي عسيري، أنه يُدرج في بعض صفحات كتابه أسماء الذين شغلوا منصب وزير الخارجية الباكستانية، أمثال الراحل عبد الستار عزيز، وخورشيد محمود كسوري، وإنعام الحق، مع التنويه بوكلاء وزراء الخارجية، فضلًا عن علاقته الشخصية بعدد من كبار الشخصيات، مدنيين وعسكريين.

كما يُلفت النظر، ضمن سمة الوفاء العسيرية، ذِكر الذين أسهموا في إنجاز كتابه، الذي صدر عن "المعهد الدولي للدراسات الإيرانية" (رصانة)، حيث يشغل منصب نائب رئيس مجلس الأمناء، ومن هؤلاء الدكتور إشتياق أحمد، الرئيس السابق لكرسي باكستان في جامعة أكسفورد، والذي كان أيضًا مشرفًا على أطروحته في الدكتوراه.

ويظل لافتًا للتأمل، كما للقراءة المتأنية، التقديم الذي كتبه لهذا العمل التأليفي رئيس الوزراء الأسبق في باكستان محمد نواز شريف (المنتخب ثلاث مرات، بدءًا من 5 حزيران/يونيو 2013).
ومما قاله، إضافة إلى التنويه بأواصر علاقته بالملوك فهد وعبدالله وسلمان:

"كانت السعودية هي من أنقذت باكستان من الآثار المدمّرة للعقوبات الاقتصادية، بعدما اتخذت حكومتي الثانية خطوة جريئة لجعل باكستان القوة النووية الأولى في العالم الإسلامي"، و"خلال ولايتي الثالثة، كان دعم الحرمين الشريفين، الملك سلمان، السخي، هو من ساعد على استقرار الاقتصاد ووضعه على مسار تقدّمي"، كما دوّن عبارة لافتة من 19 كلمة: "ولن أنسى كرم ضيافة جلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، معي ومع عائلتي أثناء سنوات منفاي في المملكة".

وختم تقديمه للكتاب بالسطور الآتية:
"خلال العقد الماضي، شهدت السعودية تحولًا تاريخيًا تحت القيادة الشابة والثاقبة لوليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وتتيح 'رؤيته 2030' فرصة عظيمة لباكستان لتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية والاقتصادية مع المملكة، التي بلغ حجم استثمارها في الدولة الصديقة والحليفة 21 مليار دولار. لكن تحقيق هذه الاستثمارات يتطلب إصلاحات شاملة في الهيكلية المالية في باكستان، وعملياتها البيروقراطية، والبيئة التنظيمية، وكفاءة القطاع العام. كما تجدر الإشارة إلى أن بعض الشركات الباكستانية نقلت مقرات عملها من دبي والدوحة إلى المملكة، ويعمل في هذه الشركات الأطباء والمستشارون والمهندسون وخبراء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات..."

وفي هذا المسعى، يساهم هذا العمل (كتاب الدكتور علي عسيري) مساهمة نوعية من خلال توضيحه مجالات محددة للتنمية، واقتراحه طرقًا عملية للمضي قدمًا لكلا البلدين، ومن بين هذه الاقتراحات:

"أن تعزز المملكة الروابط الاقتصادية مع باكستان، وتنويع التعاون الأمني، والاستمرار في المناورات المشتركة، وضمان الاستقرار والأمن في باكستان كونه جوهريًا لمصالح السعودية الاستراتيجية..."، مع التأكيد على أهمية تكثيف زيارات الوفود السعودية إلى إسلام أباد.

في انتظار كتابه الآخر، الذي نتوقع صدوره حول تجربته الدبلوماسية في لبنان، الثرية بمثل التجربة الباكستانية، مع التمنّي له بدوام الوفاء الذي تتسم به الشمائل العسيرية.
والله المعين.