ذات مساءٍ طويلٍ يشبه البلاد في عجزها، جلستُ أمام التلفاز لأتأمّل ما تبقّى من الذاكرة الجماعية قبل أن تتحلّل نهائيًا. كان البرنامج الترفيهي "عائلتي تربح " يُبثّ كما لو أنه إعلان جنازة للعقل. أضواءٌ فاقعة لا تختلف كثيرًا عن أضواء غرف الإنعاش، وضحكاتٌ مُعلّبة كأنها تُغطّي على صراخٍ مكتوم، ومتسابقون يتلوّحون وكأنهم يحتفلون بانقراض القراءة.
يسأل مقدّم البرنامج، جواد الشكرجي، بصوتٍ يشبه اعتذارًا عن ذنبٍ لم يرتكبه: – "اذكر اسم شاعرة عراقية؟"، فيردّ أحدهم بإيمانٍ يليق بمن لم يفتح كتابًا في حياته: "ميادة حناوي!" هنيئًا لأمّةٍ تختلط فيها الجغرافيا بالفن، والفن بالأكل، والأكل بالنسيان.
استعدّوا بعدها لأجوبةٍ لو نطق بها طفلٌ في الروضة لاعتذر المعلم من الطباشير:"العراق … أظنه في "قارة أفريقيا!"و"نجيب محفوظ؟ … ممثل"؟ ثم تتوالى الإجابات… لتدرك أنك أمام جيلٍ لا يميّز بين قارةٍ وقارة، ولا بين أديبٍ وراقص، جيل لا يستطيع أن يدرك الفرق بين العلم الحقيقي والميمز التافه
في تلك اللحظة، سمعتُ نازك الملائكة تشهق من شدّة القهر، ورأيت بدر شاكر السياب يجمع حقائبه مهاجرًا إلى أي وطن يعرف اسمه على الأقل.
هذا جيلٌ لا يقرأ… لا يفكّر… لا يسأل. جيلٌ تربّى على الضوء الاصطناعي الذي يغسل الدماغ بدل أن يُضيئه. جيلٌ يرى الحضارة فلترًا، والمجد مقطع فيديو، والعمق مجرّد صوتٍ يرافق موسيقى حزينة. جيلٌ يعرف كل ترند جديد، لكنه لا يعرف في أي قارة يعيش!
تسأله عن الثقافة، فيتجمّد كأنك صوّبتَ عليه بندقية. تطلب منه معنى… فيعطيك ضحكةً فارغة.
تبحث في عينيه عن فضول… فتجد انعكاس الشاشة لا أكثر.
هذا الجيل ليس غبيًا… هو فقط مشغول؛ مشغول لدرجة لا يستطيع معها تشغيل دماغه. فيديوهات، فلاتر، هاشتاغات… وكأن ذهنه صفحة رئيسية في تيك توك تعمل بلا توقف. يعرف كل شيء… إلا الحقيقة. يمتلك كل شيء… إلا نفسه. يركض خلف الترند، يعبد السرعة، يكره الصمت لأنه يكشف خواءه. جيلٌ اختار السطح لأنه يخاف من العمق… يخاف أن يرى داخله شيئًا معطوبًا.
وقد ربّيناه نحن: سلّمناه الأجهزة كأننا نسلّم قنابل، وتركناه يتفجّر على مهل. أطفأنا فيه كل شغف… ثم تساءلنا: لماذا هو باردٌ بلا ملامح؟ من أمةٍ كانت تهتف للمعرفة، أصبحنا أمةً تُفضِّل زرّ المشاركة على قراءة فقرة.
وكلّ هذا ليس صدفة… بل نتيجةٌ تراكمية لأمةٍ كانت تقرأ، ثم اكتفت بأن تُشاهد. أمةٍ كان أطفالها يذهبون إلى المكتبة… فأصبحوا يذهبون إلى متجر التطبيقات. من أُمّ كانت تحفظ المتنبي، إلى أُمّ تحفظ الفلتر الأنسب لوجه طفلها على إنستغرام.
جيل… يعرف أماكن المطاعم بدقة، ويجهل مواقع البلدان. يلتقط صورًا أكثر مما يلتقط أفكارًا.
وُلد في الضوء، وعاش في الضوء… لكنه مظلم من الداخل. جيل ذكي لكنه يعبد الضجيج الفارغ!
"جيلٌ اليوم… ولو سألتَه: هل تريد أن تكون كاتبًا أو مفكّرًا؟ لضحك مستهزئ وتعجب، لقال لك بلا تردّد: مطربًا ولهان، وشخصًا لامعًا على الشاشات… ولو ركلني البعير ألف مرّة!".





















التعليقات