رحل الناقد الموسيقي العراقي، عادل الهاشمي، منذ عام مضى وهوالرجلالأشبه بموسوعة موسيقية لم يقوى عليها الزمن.


بغداد: منذ عام مضى رحل الناقد الموسيقي العراقي، عادل الهاشمي، وهو رجل لديه ذاكرة لا كمبيوتر، تختزن أجمل الأغنيات التي قدمها العرب، من الأغنية الأولى إلى الأخيرة، ولديه من المعلومات ما لا يمكن أن يكون له مثيل، وبإمكانه أن يغني أية أغنية أو يقرأ كلماتها أو يحكي عن تفاصيلها.

في اللحظة الأولى تعتقده يمزح معك، إذ يسكب المعلومات دفعة واحدة وهي النائمة في أعماقه، ولا يقولها بمحاولات استرجاع أو تلكؤ أو استحضار أبدًا، كما أنه يفهم في الألحان والمقامات.

تشعره أنه يجامل في بعض الأحيان مثلما تجده لا يجامل أبدًا، لذلك كانت معاركه كثيرة وأعداؤه كثر، ولكن الغريب أنه لم يأبه بكل الهجمات وبكل السيوف، وكان لا يفعل سوى أن يشهر قلمه، فيهرب الجميع وتتهاوى السيوف على الأرض، ويضطر أصحابها للرضوخ لأمره الواقع.

العديد من المغنين كانوا يتمنون كلمة منه، يتمنون أن يذمهم الذم العنيف ويقسو عليهم في نقده، ولأنني كنت قريبًا منه لسنوات طويلة كان البعض يتوسطني لكي أجعله يذمه أو حتى يشتمه، ولكنه كان يبتسم ويقول: quot;معاذ اللهquot;.

عادل الهاشمي الذي أكمل دراسته في القاهرة عام 1964، عاش مفارقات حتى في رحيله، فقد مات في يوم الجمعة الذي كان يحبه، وفي فندق أم كلثوم المطربة التي يعشق صوتها، وفي طابق يعلو عن الأرض كثيرًا توقف قلب عادل الهاشمي، القلب الذي عانى من أزمة قبل أيام من هذا الرحيل، واستلقى على سرير العناية في مستشفى quot;ابن البيطارquot;، لكنه حين اسيقظ وجد القاهرة التي فارقها قبل نحو 40 عامًا تلتفت اليه كأنها تغزله وهو الذي عشق موسيقاها ومطربيها، فوجد نفسه مدفوعًا ومنجذبًا إليها، وحين فكر في الإستراحة من عناءاته، استلقى على سرير الراحة لكن قلبه لم يمهله فانكمش ومن ثم توقف، ولكنه قبل هذا كله صلى في مسجد جمال عبد الناصر وزار مرقده، وزار شقة محمد عبد الوهاب وعمارة فريد الأطرش.

في فندق أم كلثوم وفي غرفة حملت إسم اغنية يحبها quot;حاقابله بكراquot;، كان هناك صمت، كل ما في المكان وحوله توقف للحظة، حتى الموسيقى صمتت، بينما الأنغام أحنت رؤوسها، والممرات المؤدية الى غرفته تحوَّلت إلى أجنحة سود، الصمت كان ينسج خيوطه إعلانًا عن رحيل الرجل الغارق في الموسيقى والوامق لها.

ثمة مفارقات في رحيل عادل الهاشمي، وهي أنه مات في يوم 11 / 11 / 2011، هذا الرقم المميز في الحياة، ومن الغريب أنه توفي والقمر بدر، أي أنه مات منتصف شهر ذي الحجة بعد أيام من العيد، والمفارقة الأخرى أن إسمه عادل الهاشمي يتكوَّن من إحدى عشر حرفًا، وأن تاريخ ولادته (1946) لو جمعنا أرقامه لكانت (20)، وحين نضع جمع حروف اسمه يتكوَّن لنا الرقم (2011) وهي سنة وفاته، والمفارقة الأخرى أن الفندق الذي مات فيه هو (فندق أم كلثوم) الذي يتكوّن من (11) حرفًا، وعدد حروف إسم الغرفة (حاقابله بكرا) 11 حرفًا.

أصدر الهاشمي عدة كتب، الكتاب الأول صدر عام 1985 بعنوان quot;الغناء والموسيقى من عصر ما قبل الإسلام إلى حد تحرير العراق بعد 2003quot;، والكتاب الثاني quot;مسيرة اللحنية العراقيةquot;، والثالث quot;عن العود العربيquot;، وكتاب quot;التلاوة القرآنية- مدارس وفنونquot;. وكان من قد انتهى من تأليف كتاب عن الفنان فاروق هلال إسمه quot;الصوت والصدىquot;، وكتاب عن الفنان طالب القرة غولي اسمه quot;وعد اخضر في الأغنية العراقيةquot;، وكتاب آخر طبع في دولة الامارات العربية من ثلاثة أجزاء عنوانه quot;الأغنية العربية في مائة عامquot; لم يره للأسف.

ووفاء لذكراه جمعت باقة من أقواله في الأغنية العراقية:
-إن الركيزتين الأساسيتان التي أستندت عليهما الأغنية العراقية هما الأطوار الريفية والمقام العراقي. ويعتبر سمير بغدادي رائدًا في تطوير الأغنية البغدادية بعد التحاقه بالإذاعة العراقية عام 1941، إذ كان الأخوان داود وصالح الكويتي في ذلك الوقت سيدا الأغنية العراقية

-إن أول من استخدم الاغاني في الفرقة الموسيقية التي نشات عن الجالغي البغدادي هو الفنان الراحل محمد القبانجي،

-إن الاغنية العراقية، كانت قبل الشقيقين صالح وداود شيئاً تعلق بنظام البستة الفقير، وصارت بعدهما ومن خلالهما شيئاً تعلق بنظام الأغنية المركبة نسبياً مثال (قلبك صخر جلمود، على شواطئ دجلة مر، هذا مو انصاف منك، تأذيني، يالماشي الله وياك، مرابط، وين رايح وين، منك يالاسمر قلبي تمرمر، قلبي خلص، شكول على حظي)، وكثير غيرها.

-الفنان الكبير محمد عبد الوهاب وخلال زيارته الى بغداد عام 1931 سمع مقام البستنكار من صالح الكويتي من خلال أغنية (قلبك صخر جلمود) التي لحنها لسليمة مراد، وتاثر عبد الوهاب بهذا المقام ولحن على أساسه اغنية (اجري يا نيل) عام 1939.

-الموسيقى لدينا تعاني من ثقل الضغط الغرائزي لان الاتجاه العام في الثقافة الموسيقية يعاني من الفقر المعرفي والثقافي، فالثقل الغرائزي الذي اثر على الموسيقى ولّد حصاراً عاطفياً وكان هذا نتيجة افتقادنا لأساتذة جيدين وفيثاغوريين مما افقدنا الوعي النخبوي في مجال الموسيقى والغناء ، مشيراً الى أن عدم وجود واقع تعليمي حقيقي اثر على هذا المجال ايضاً.

-هنالك محاولة لطمس المعالم الجمالية والحس الجمالي لدى الشعب العراقي وذلك لان الموجودين في السلطة مجردين من اي نوع من الثقافة.

-الأغنية الجميلة هي نغم وتعبير راقيان عن البيئة، ماذا يعني ان تكون الاغنية ابنة بيئتها؟ ببساطة انها تعلن بصراحة انها مع احلام الانسان البسيطة ومع موروث المجتمع الذي تولد فيه ومع ذلك الحشد من العوامل المحلية ذات الطابع الفني الخاص فيما يتعلق بالنسيج اللحني وبالانغام المستخدمة والايقاعات التي تحتويها الاغنية وباللون الذي تطغى فيه او يطغى فيه الاحساس بالذاتية الثقافية الوطنية.

-في العراق كان كبار المغنين، فبعد مرحلة الفنان المتعدد المواهب عثمان الموصلي، ومحمد القبانجي بوزنه المتميز الواضح، كان هناك (حضيري ابو عزيز) بأنتشاره الجغرافي الواسع، (ناظم الغزالي) بفرادته الادائية المستمدة من أصول التجويد العربي الاصيل، (سليمة مراد) بفطرتها القوية في التلقي الغنائي، (داخل حسن) بابتكاره التطريبي في فن الاداء، (حسن خيوكه) في انتظام حركته الغنائية، (يوسف عمر) في نهجه البغدادي في غناء المقام العراقي ، (زكية جورج) بنبراتها الشجية (صديقة الملاية) بوقع صوتها القوي المشوب بغلظته.

-طالب القره غولي اخطر ملحن أنجبه العراق في العصر الحديث.

-ما يتعلق بالقصيدة اليوم فان الذين يركبون موجتها ونخص بالذكر منهم كاظم الساهر فان تلحينها يعاني من نقائص عديدة اولها: العجمة في اللفظ وسبب ذلك عائد الى غياب عنصر التدريب العلمي على قراءة وتجويد القران الكريم وثانيها: ان الساهر يبتلع نهايات الحروف العائدة للكلمة الشعرية الى جانب ذلك انه لايعرف مسالة اختلاس الانفاس في القصيدة خاصة في حروف الامتداد كما انه لم يتعود معرفة تلحين المعنى الشعري والقصيدة الناجحة هي تلحين المعنى وليس المبنى ثم هو اخيرا لايضبط اواخر شكل الكلمات فيحيل الشعر بذلك الى زجل. انه يحيل quot;قالب القصيدةquot; الى quot;قالب الطقطوقةquot; فلحنه فيها يذهب الى المداعبة الخفيفة التي تفقد القصيدة رصانتها.

-من طبائع ألأشياء أن الموسيقى هي مكملة للأغنية وان الغناء هو جزء من الموسيقى فلا انفصال بينهما ويصدران من سراج واحد وعليه يمكن القول انه لا تعارض بين الاستماع إلى الموسيقى الخالدة والعيش في كنف الأغنية، لأننا في الأولى نثبت إننا ننتمي إلى روح العصر وما فيه من تقنيات جبارة وتحولات هائلة. في التطور والتقدم وفي الثانية إننا ننتمي إليها لأننا امة قرآنية والقرآن هو الوعاء العظيم لكل مفهومات الحياة إلى يوم البعث الأكبر لذلك لا سبيل أمامنا في الالتجاء إلى الموسيقى وترك الأغنية مادمنا امة قرآنية وأمة شعر فهذان المصدران يدفعاننا إلى تنمية البناء الغنائي أما الذين ينتمون إلى الموسيقى فأنهم يستعيرون لحياتهم ومخيلتهم طبيعة غير طبيعتهم الأصلية.

سلامًا لروحه، سلامًا لقلبه، سلامًا لوجهه، سلامًا لأستاذنا ومعلمنا الذي مات في مصر التي عاش مشغوفًا بكبار فنانيها، سلامًا يا أبا محمد فلي معك ذكريات تحولت الى دمع، ولم أستطع أن اكتب خبر رحيلك إلا وكان الوجع يضرب قلبي ويهزم الضوء في عيني، سلامًا ولست أنساك أيها الكبير، لقد رحلت نعم هذا مؤكد لكن حضورك مهيب وكأنك لم ترحل.