توفي السياسي الفرنسي، جان ماري لوبان، عن عمر يناهز 96 عاما، كما قالت عائلته.

ولعدة عقود من الزمان كان يُنظر إليه باعتباره الشخصية السياسية الأكثر إثارةً للجدل في فرنسا.

أسس لوبان اليمين المتطرف في فرنسا في سبعينيات القرن العشرين وتحدى بقوة الرئاسة. ولكن حزبه الذي أطلق عليه اسماً جديداً لم يحظَ بالسلطة إلا عندما سلّم زمام الأمور لابنته.

كما اعتبره أنصاره بطلاً كاريزمياً لكل رجل، لا يخشى التحدث عن المواضيع الصعبة.

لكن منتقديه أدانوه باعتباره متعصباً من أقصى اليمين، وأدانته المحاكم الفرنسية عدة مرات بسبب تصريحاته المتطرفة.

أنكر الهولوكوست وكان متطرفاً لا يبدي الندم على تصريحاته المتعلقة بالعرق والجنس والهجرة، وكرّس حياته السياسية ليصل بنفسه وآرائه وحزبه، الذي يوصف حالياً باليميني المتطرف، ويكون التيار السياسي الرئيسي الفرنسي.

كان شخصية بارزة في السياسة الفرنسية وواحداً من أكثر الزعماء السياسيين إثارةً للجدل في أوروبا.

وعلى مدار عقود من حياته المهنية، أصبح لوبان مرادفاً للقومية اليمينية المتطرفة في فرنسا وتميّزت حياته بالخطاب الناري والمعارك القانونية والإرث الاستقطابي.

لكن ما الذي نعرفه عن جان ماري لوبان

ولد جان ماري لوبان في العشرين من يونيو/ حزيران عام 1928 في مدينة لا ترينيتي سور مير، بولاية بريتاني غرب فرنسا.

وكان والده صياداً فيما عملت والدته بالخياطة، ونشأ في ظروف متواضعة.

وبعد أن تَيتّم في سن الرابعة عشرة، بعد أن ضرب لغم قارب الصيد الخاص بوالده أثناء الحرب العالمية الثانية، أظهر لوبان شعوراً مبكراً بالاستقلال والمرونة.

جان ماري لوبان
Getty Images
جان ماري لوبان (يمينأ) في تجمع للمحاربين القدامى عام 1960

كان لوبان قومياً متشدداً حتى في سن المراهقة، وحاول الانضمام إلى القوات الفرنسية الحرة في سن السادسة عشرة ولكنه رُفض بسبب سنه.

بعد إكمال تعليمه في باريس، حيث درس القانون في جامعة باريس، انضم لوبان إلى الفيلق الخارجي الفرنسي عام 1953. وشملت حياته العسكرية الخدمة في الحرب الهندية الصينية الأولى، وأزمة السويس، وحرب استقلال الجزائر.

وأثرت هذه التجارب، وخاصة الجزائر، بشكل عميق على نظرته للعالم، وعمّقت إيمانه بالقومية الفرنسية وازدرائه للحركات المناهضة للاستعمار.

لم يكن وقته في الجيش خالياً من الجدل. فقد ألقت مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك تعذيب المعتقلين أثناء الاستعمار الفرنسي للجزائر، بظلالها على إرثه، رغم أنه نفى هذه المزاعم باستمرار.

من ناشط إلى سياسي وطني

كفاح الجزائر من أجل الاستقلال
Getty Images
كان لكفاح الجزائر من أجل الاستقلال وخسارة فرنسا لمستعمرتها أثر عميق على جان ماري لوبان

بدأت مسيرة لوبان السياسية بجدية في أوائل الخمسينيات. عندما انضم إلى حركة بوغاديست اليمينية، التي مثلت مصالح أصحاب المتاجر الصغيرة والتجار ضد التجاوزات المفروضة من قبل الحكومة والشركات الكبرى.

وفي عام 1956، عندما كان في سن الثامنة والعشرين، أصبح أصغر عضو في الجمعية الوطنية الفرنسية - التابعة للبرلمان الفرنسي، وتكون مع مجلس الشيوخ في البرلمان الفرنسي.

في الستينيات، اختفى لوبان لفترة وجيزة من الساحة السياسية، وعمل كمنتج تسجيلات وانخرط في الاستشارات السياسية. ومع ذلك، شهدت عودته إلى الساحة السياسية ظهور موجة جديدة من القومية في السبعينيات.

في عام 1972، شارك لوبان في تأسيس حزب الجبهة الوطنية (FN)، والذي حدد مسيرته المهنية. وركز الحزب، المستوحى من أيديولوجيات اليمين المتطرف، على محاربة الهجرة والتعددية الثقافية وتعزيز هوية الاتحاد الأوروبي. وسعى إلى الحفاظ على ما اعتبره لوبان وأتباعه الهوية الثقافية والتاريخية لفرنسا.

وتحت قيادة لوبان، ظلت الجبهة الوطنية على هامش السياسة الفرنسية لأكثر من عقد من الزمان. ومع ذلك، فإن الصراعات الاقتصادية في الثمانينيات والمخاوف المتزايدة بشأن الهجرة وفرت أرضاً خصبةً لصعود الحزب.

في عام 1984، حققت الجبهة الوطنية اختراقاً في انتخابات البرلمان الأوروبي، وحصلت على 11 في المئة من الأصوات.

وغالباً ما تصدّرت خطابات لوبان التحريضة عناوين الأخبار. فقد أشار إلى تدفق المهاجرين من شمال إفريقيا باعتباره "غزواً"، داعياً إلى فرض ضوابط صارمة على الهجرة وإعادة المهاجرين إلى بلدانهم.

ولاقت الأفكار التي يتبناها هو وحزبه صدى لدى العديد من الناخبين المحبطين من الأحزاب السياسية التقليدية، لكنها أثارت أيضاً انتقاداتٍ واسعةَ النطاق.

شخصية مثيرة للجدل

جان ماري لوبان
Getty Images
يُعتقد أن ظهور جان ماري لوبان في أحد أشهر البرنامج التلفزيونية الفرنسية ساعده وحزبه في الانتخابات الأوروبية عام 1984

بلغت ذروة المسيرة السياسية للوبان في عام 2002، عندما فاجأ المؤسسة السياسية الفرنسية بالتقدم إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وفاز بنسبة 17 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى، وهزم المرشح الاشتراكي، ليونيل جوسبان، ليواجه الرئيس الفرنسي حينها، جاك شيراك، في جولة إعادة التصويت. وأثارت النتيجة موجة من الصدمة في فرنسا وأوروبا، حيث نزل الملايين إلى الشوارع احتجاجاً.

في الجولة الثانية، عانى لوبان من هزيمة مدوية، حيث حصل على أقل من 18 في المئة من الأصوات. وكان فوز شيراك مدفوعاً بتحالف غير مسبوق من الناخبين من مختلف الأطياف السياسية، متحدين بمعارضتهم برنامج لوبان اليميني.

امتلأت مسيرة لوبان بالجدالات. فقد اتُهم بإنكار الهولوكوست، وهو ادعاء قديم، جاء في تعليق له عام 1987 بأن غرف الغاز في معسكرات الاعتقال النازية كانت "تفصيلاً" من تاريخ الحرب العالمية الثانية. وقد أدى هذا التصريح إلى دعاوى قضائية متعددة وإدانات لمعارضة الجرائم ضد الإنسانية.

ومن بين التصريحات التحريضية الأخرى ازدراء المسلمين والمهاجرين ومجتمع المثليين. إذ وصف ذات مرة وجود المهاجرين في فرنسا بأنه يؤدي إلى "تلاشي الهوية الفرنسية". وقد أدت مثل هذه التعليقات إلى نفور الشخصيات السياسية المعروفة منه وأدت إلى دعوات لاستبعاده من الحياة السياسية.

وعلى الرغم من هذه الخلافات، حافظ لوبان على قاعدة مخلصة من المؤيدين الذين أعجبوا بقوميته الجريئة وانتقاده للعولمة.

انتقال القيادة

مارين لوبان ووالدها جان
Getty Images
تولّت مارين الحزب بعد والدها - لكن سرعان ما ساءت العلاقة بينهما

في عام 2011، بعد ما يقرب من 40 عاماً على ترأسه للجبهة الوطنية، تنحى لوبان عن منصبه كزعيم للحزب، وسلم زمام الأمور لابنته مارين لوبان، التي شرعت في حملة "لإزالة السموم" من صورة الجبهة الوطنية، سعياً إلى إبعاد الحزب عن خطاب والدها التحريضي.

وكان لابد من إخراجه من الجبهة الوطنية إذا كان لها أن تتقدم أكثر - وهي العملية التي أصبحت تُعرف باسم "إزالة الشيطنة".

من جانبه، وصف المرشح الرئاسي خمس مرات - والذي بدأ حياته السياسية بمقاتلة الشيوعيين والمحافظين على حد سواء - نفسه بأنه "لا يميني ولا يساري. هو ببساطة: فرنسي".

وقال لاحقاً في مقابلة مع بي بي سي: "ربما كانت تريد من خلال التخلص مني القيام بنوع من الإيماءة للمؤسسة". مضيفاً: "لكن فكروا في مدى تحسن حالتها إذا لم تستبعدني من الحزب!"

وأدى هذا الجهد لإعادة صياغة العلامة التجارية إلى خلافات عامة كبيرة بين الأب وابنته. وبلغ الصراع ذروته في عام 2015، عندما طُرد جان ماري لوبان من الحزب الذي أسسه بعد تكرار آرائه المثيرة للجدل بشأن الهولوكوست. وعلى الرغم من تباعدهما، اعترفت مارين لوبان بدور والدها في تشكيل الجبهة الوطنية.

جان
Getty Images
ترشح جان للرئاسة خمس مرات، آخرها في عام 2007

تدهورت صحة لوبان في السنوات الأخيرة. وعانى من سكتة دماغية بسيطة في عام 2022، ونوبة قلبية خفيفة في عام 2023، ونوبة قلبية أكثر شدة في أبريل/ نيسان 2024. ليتوفى في 7 يناير/ كانون الثاني 2025، عن عمر يناهز 96 عاماً في منشأة رعاية في جارشيس، أوت دو سين، محاطاً بعائلته.

وعلى الرغم من ابتعاده عن الحياة السياسية ورحيله، إلا أن إرثه لا يزال مثيراً للجدل بشكل عميق. فبالنسبة لأنصاره، كان راعياً للسيادة والهوية الفرنسية، لا يخشى تحدي الصوابية السياسية والإيديولوجيات العالمية. وبالنسبة لمنتقديه، كان انتهازياً يستغل الخوف والتحيز لتحقيق مكاسب سياسية.

لا يمكن إنكار تأثير لوبان على السياسة الفرنسية. فقد أعاد تأسيسه للجبهة الوطنية ونجاحه في دمج أفكار اليمين المتطرف تشكيل المشهد السياسي، ما أجبر الأحزاب التقليدية على مواجهة قضايا الهجرة والهوية الوطنية والأوروبية.

وخفّف حزب الجبهة الوطنية، الذي أصبح الآن يسمى "التجمع الوطني"، في عهد مارين لوبان، من خطابه ووسّع نطاق جاذبيته، وحقق نجاحات انتخابية كبيرة. ومع ذلك، تظل جذور الحزب في إيديولوجية جان ماري لوبان نقطة خلاف.